تأليف إريك كاسيل
ترجمة: ضرغام الكيار
من اصدارات العتبة الحسينية المقدسة: قسم الشؤون الدينية
الطبعة الأولى 2024
بدءا، لا بد من التأكيد على الفرق الأساس بين نظرية (التصميم الذكي)التي تفترض وجود (إله مدبِّر) وراء الكون وتعقيدات الحياة، وبين نظرية (التطور الداروينية) التي تقدم تفسيرا طبيعيا للكون وهذه التعقيدات من خلال عمليات مثل الصدفة والطفرة والانتقاء الطبيعي والعمليات التدريجية، دون الحاجة إلى مصمم.
يتألف الكتاب من ثمانية فصول. ففي الفصل الأول وعنوانه (عبقرية النظام في عالم الأقزام)، والمقصود بعالم الأقزام عالم المخلوقات الصغيرة، مثل الطيور والنحل والنمل الأبيض والفراشات، يتناول المؤلف تميُّز هذه الكائنات الصغيرة بأدمغتها الضئيلة من خلال قيامها بالمآثر العقلية الجبارة.
يتمتع نحل العسل بنوع من الحياة الاجتماعية بالغة التعقيد، تتوزع فيها الأعمال ضمن نظام طبقي متكامل. فتقوم كل نحلة بأداء دورها وتنفّذ المهام المنوطة بها بدقة عالية. كما أن نحل العسل يعد من أمهر الكائنات في الملاحة والتواصل. ناهيك عن أن له مهارتين أساسيتين في بحثه عن الغذاء وتحديد أفضل المواقع لبناء خلاياه. والعجيب أن ذلك يجري باستخدام دماغ لا يحتوي أكثر من واحد بالألف من الواحد بالمائة فحسب من الخلايا العصبية التي يحتويها دماغ الانسان.
أما لدى الفراشات، فتخوض الملكة رحلة سنوية تجسّد فيها ملحمة بطولية. فهي تقطع فيها ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف من الأميال بين كندا والمكسيك. وقد يستغرق إتمام هذه الرحلة ثلاثة أجيال. وهذا يشير إلى معرفتها بمساراتها ضمن تكوينها البايولوجي، وأنه ليس سلوكا مكتسبا. وهي تمتلك مهارات في تحديد الاتجاهات تضاهي أدق أنظمة الملاحة التي توصل إليها الانسان. فتقضي الفراشة فصل الشتاء في المكسيك على الشجرة نفسها التي سبق لأسلافها الالتجاء إليها احتماء من البرد.
ويصنع العنكبوت شبكتَه من الحرير الذي تتوفر فيه مجموعة خصائص استثنائية، أبرزها المتانة الفائقة والمرونة العالية. يضاف إلى ذلك ما يقدمه العنكبوت عند نسج شبكته من صورة هندسية تتسم بالأناقة والدقة والوظيفية في الوقت نفسه. فبالإضافة إلى كون الشبكة وسيلة للاصطياد، فهي تقوم بمهمة مساعدة العنكبوت على تحديد موقع الفرائس حال وقوعها في الشبكة، حتى في الظلمة الحالكة، اعتمادا على الاهتزازات التي يستشعرُها العنكبوت بأرجله.
وتبني بعض فصائل النمل الأبيض مستعمراتها بصورة أعجوبة هندسية ومعمارية مبهرة. وقد تبلغ التلال الطينية التي يبنيها النمل الأبيض أكثر من عشرين قدما. ويحتوي تصميمها الداخلي المعقد على غُرف ملكية وحضانات لتربية الصغار وحدائق لزراعة الفطريات ومجالات لإلقاء النفايات وأبار للمياه وأنظمة تهوية متطورة لتنظيم الحرارة والتخلص من غاز ثاني أوكسيد الكربون.
وتتغذى الدبابير على رحيق الأزهار للتزود بالطاقة إضافة إلى اصطياد الحشرات الأخرى للحصول على البروتين ليرقاتها. وقد تختلف فرائسها اعتمادا على نوعية تلك الدبابير. وقد تشمل تلك الفرائس نحل العسل والخنافس والعناكب الضخمة. وتتجلى الدهشة في قدرة الدبور على شلِّ فريسته شللا تاما دون أن يقتلها. وتتطلب العملية استهداف موضع العقدة العصبية في جسم الفريسة الذي يختلف من فريسة إلى أخرى. فمثلا، يُدخل الدبور إبرتَه بين صفيحتين في الجانب السفلي من رقبة نحلة العسل. ويجري كل ذلك من خلال التحكم ببرنامج حركي يشتمل على سلسلة متشابكة من إجراءات فرعية منظمة بالغة الدقة. ولا يمكن تفسير ذلك اعتمادا على تحليل العوامل الفيزيوكيميائية أو الهندسة التقليدية فحسب.
ندرك من الأمثلة القليلة أعلاه أن سلوكيات الحيوانات البدائية تتسم في أحيان كثيرة بمستوى التعقيد نفسه الذي تتسم به سلوكيات الحيوانات الأكثر تعقيدا، مثل الثدييات. والحقيقة أنه ليس هنالك علاقة بين القدرات المعرفية للحيوانات وقدرتها على إظهار تلك السلوكيات بالغة التعقيد التي يبدو أنها مبرمجة جينيا. ويعود السبب في ذلك إلى كون تلك السلوكيات خاضعة لبرمجة دقيقة مسبقةـ أي أنها غريزية بطبيعتها. وهذا ما يجعل تلك الحيوانات تستغني عن قدراتها الادراكية لأداء تلك السلوكيات.
ومما لا شك فيه أن تفسيرات التصميم الذكي الذي يؤمن به المؤلف لا يروق للكتّاب التطوريين(أتباع داروين). ولكن دعاة التصميم الذكي يقولون إن ذلك يفتح الباب على مصراعيه أمام البحث العلمي. ويعدُّ هذا الكتاب مساهمة فريدة في هذا الإطار.
فلا عجب أن يكون علماء التطور في حيرة من أمرهم بشأن أصل الخوارزميات المشفرة وراثيًا والضوابط العصبية الأساسية للسلوكيات الحيوانية المعقدة، مثل قدرات الملاحة والهجرة، وبناء الأعشاش، ومجتمعات الحشرات الهرمية، وما إلى ذلك.
والمعروف أن مؤلف هذا الكتاب الممتع، إريك كاسيل، مستشار سابق لدى ناسا وإدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية، وينتمي إلى فريق التصميم الذكي، حظي بمسيرة مهنية ناجحة كمهندس أنظمة طائرات. وهو خبير في أنظمة الملاحة، وبذلك فهو مؤهَّل تأهيلاً عالياً لتأليف كتاب عن خوارزميات الحيوانات، يستكشف فيه آليات وأصول السلوكيات الحيوانية المعقدة.
وعندما نفكّر في مدى صغر أدمغة بعض هذه الحيوانات مثل: النحل والنمل والنمل الأبيض، فمن المؤكد أننا سنخلص إلى الاستنتاج من أننا يمكن تفسير التحسين المطلوب لدمج الخوارزميات في مثل هذه الأدمغة الصغيرة على أفضل وجه بوصفه نتاجًا للتصميم الهندسي الماهر.
ويقرُّ الخبراء في مجال هجرة الحيوانات بأن تلك الحيوانات تحظى بمستوى عالٍ من التكامل بين هذه الأدوات والسلوكيات. فجميع هذه الأنظمة مُشفّرة بطريقة ما في جينومات الفراشات والنحل والنمل والسلاحف البحرية والطيور وغيرها من الحيوانات الملاحية. وهذا يفرض قيدًا إضافيًا لا يُمكن تفسيره لدى أتباع نظرية التطور الداروينية.
يُخصَّص المؤلف فصلين لبراعة الملاحة والهجرة لدى الحيوانات. فيُفصِّل في أحدهما الأساليب التي تستخدمها الكائنات الحية المختلفة: الملاحة باستخدام المعالم؛ والحساب الموضعي، أي تكامل المسارات، حيث يتتبع الحيوان اتجاه البوصلة والمسافة المقطوعة ليتمكن من حساب مسار مباشر للعودة إلى المنزل؛ وبوصلة الضوء المستقطب التي تحدد موقع الشمس حتى في الأيام الغائمة؛ وبوصلة الملاحة السماوية، التي تعتمد على مواقع النجوم؛ والملاحة الحقيقية، أي الإحساس بالخرائط وما يُشبه نظام تحديد المواقع العالمي. وتُعَدّ الأخيرة مثيرة للإعجاب على نحو خاص، وتتضمن، لدى بعض الطيور، قدرتها على اكتشاف المجال المغناطيسي للأرض، مما يُمكِّن الطائر من تحديد خطوط العرض.
فكيف يُمكن أن تحدث كل هذه التغييرات الدقيقة والمعقدة والمنسقة في الجينوم عبر عملية عمياء لا هدف لها؟ هذا ما لا يُدركه أحد.
فهل يُعيق التصميم الذكي العلم؟ بالتأكيد لا.
بعد نشر كتاب (خوارزميات الحيوانات)، استخدم الباحثون في جامعة جونز هوبكنز فيديو الأشعة تحت الحمراء لتحديد تسلسل بناء شبكة العنكبوت بالكامل في نوع صغير من العناكب الليلية. وقد صرَّح قائد الفريق البروفيسور أندرو جوردوس، في معرض تأمله للنتائج، "أعتقد أنها أنيقة بشكل لا يصدق، وتذكرني بمشاهدة ممثل يؤدي رقصة".
ملاحظات ختامية
في هذه المراجعة للكتاب حاولنا أن تستعرض بعض الأمثلة العديدة التي عرضها المؤلف إريك كاسيل. يتناول الجزء المتبقي من الكتاب المزيد من المعضلات التي تواجه من يحاولون تفسير الأنظمة المعقدة غير القابلة للاختزال لـ CPBs المتكاملة، والتي تظهر في مجال علم السلوك الحيواني المثير، ويبرهن على تفوق التصميم الذكي على التطور الأعمى.
لقد قدّم الكاتب حجة قوية لصالح التصميم الذكي، مستندًا إلى المعرفة العلمية المتعلقة بـ CPBs وتشفيرها الخوارزمي في الحمض النووي. كيف يُعقل إذًا أن يستمر بعض العلماء في معارضة التصميم الذكي بكل قوة؟ يُجادل كاسيل قائلًا: "هذا النفور يعود إلى رهاب الغائية، أي النفور أو عدم الرغبة في الاعتراف بوجود تصميم أو أسباب نهائية في الطبيعة، نظرًا لصعوبة دمجها مع النموذج الطبيعي. وبذلك، فإنهم ينتهكون روح العلم الحقيقي".
وفي الختام، لا يفوتنا أن نذكر أن عدد صفحات الكتاب 347 صفحة، مما يجعل من الصعوبة تلخيصها بمثل هذه العُجالة. ناهيك عن أن تلك الصفحات مليئة بالرأي والرأي الآخر، وما يقتضيه ذلك من نقض للآراء وتقديم أخرى غيرها، ومن أدلة وبراهين من جانبي علماء النظريتين.
.................................................................................
(1) المقصود بالخوارزميات مجموعة متسلسلة وواضحة من التعليمات الرياضية والمنطقية لحل مشكلة أو إنجاز مهمة معينة. وهي تستخدم على نطاق واسع في علوم الحاسوب والرياضيات.
إعداد وترجمة
د. حميد حسون بجية المسعودي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat