العادات الموروثة من السومريين: بين الأسطورة والواقع
فريدة الحسني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
فريدة الحسني

كل شيء بدأ بلحظة عابرة. أختي أرسلت لي فيديو يتضمن لقاءً مع باحث في علم الآثار يتحدث عن العادات الموروثة من حضارة سومر. لم أتوقع أن هذا الفيديو سيهز فضولي ويدفعني إلى الغوص في صفحات التاريخ السومري. ومع كل معلومة كنت أقرأها أدركت أن عاداتنا اليومية ليست مجرد سلوك اجتماعي بسيط، بل خيوط ممتدة من آلاف السنين، بعضها ارتبط بالعلم والابتكار وبعضها الآخر تشكل من الأساطير والخرافات.
بين دفاتر التاريخ وأساطيره تقف حضارة سومر شامخة كأول حضارة مدونة عرفتها البشرية في بلاد الرافدين. حضارة أهدت العالم الكتابة المسمارية ونظام الحساب، لكنها أيضا ورّثت لنا حكايات ومعتقدات بقيت تتناقلها الألسن حتى صارت جزءا من عاداتنا اليومية. ولعل الفضول الذي يثيره لقاء مع باحث في الآثار كما حدث مع كثيرين حين يشاهدون مثل هذه اللقاءات يكشف لنا كيف أن ما نمارسه اليوم من طقوس وسلوكيات قد يكون امتدادا لألاف السنين بعضها علمي وعقلاني وبعضها الآخر انغمس في الخرافة والأسطورة.
شجرة النبگ (السدر) ورمزية الشجر
من أبرز ما ورثناه الاعتقاد بأن شجرة النبگ (السدر) مقدسة وحرام قطعها. هذا الموروث له جذور في الأساطير السومرية حيث ارتبطت الإلهة عشتار (إنانا) بهبوطها إلى الأرض وسكنها بين الأشجار، وخاصة ما يسمى بالخبخاب، وهو تسمية أخرى للنبگ. في ملحمة شجرة الهلوبو، تروى حكاية الشجرة التي زرعتها الإلهة في حديقتها، فاستوطنتها الكائنات الأسطورية حتى جاء كلكامش ليخلصها ويصنع منها عرشا وسريرا. من هنا نرى كيف تحولت رمزية الشجرة من أسطورة إلى عادة ومعتقد اجتماعي متوارث.
الزراعة والخبز والرز
كان السومريون أول من زرع القمح وصنع الخبز، حتى أن كلمة خبز تحمل أصداء لغتهم. أما الأرز، فلم يكن من نتاج أرض الرافدين بداية، بل جاء اقتراح زراعته من الصينيين، فتبناه السومريون وسموه شلب أو (شي لب) هذه التسمية بقيت إلى اليوم في لهجات أهل العراق. ما يظهر هنا هو كيف أن ثقافة الطعام عندنا لم تولد من فراغ، بل من تلاقح حضاري بدأ منذ فجر التاريخ
الوقت والعدد: الإرث المستمر
حتى تقسيم الوقت الذي نستخدمه اليوم (60 ثانية للدقيقة، 60 دقيقة للساعة، 360 درجة للدائرة) هو هدية من العقل السومري، الذي ابتكر النظام الستيني لينظم حياته وزراعته وتجارته، لم يكن ذلك مجرد حسابات بل أصبح عادة بشرية عالمية راسخة.
ومثلما ورثونا علماً وتنظيماً، ورثونا أيضا معتقدات تحولت إلى خرافات. فحرمة قطع بعض الأشجار، أو ربط طقوس معينة ببركة الآلهة، أمثلة على كيف يلتبس المقدس بالعرف الاجتماعي. هذه العادات وإن بدت لنا اليوم مجرد موروثات تحمل جذورا عميقة في الخيال الجمعي للسومريين.
بين العلم والخرافة
بين العلم والأسطورة، يقف الميراث السومري شاهدا على أولى خطوات الإنسان نحو الحضارة. لقد علمونا كيف نزرع ونحسب ونكتب، لكنهم أيضا تركوا لنا رموزا وأساطير لا تزال تسكن عاداتنا اليومية. وما بين شجرة النبگ، ورغيف الخبز، وتقسيم الوقت، نكتشف أن الماضي لم يرحل أبدا، بل يعيش في تفاصيل حاضرنا. فالتاريخ ليس مجرد وقائع مدفونة في ألواح طينية، بل هو روح ممتدة نلمسها في كل عادة ومعتقد نمارسه حتى اليوم
ذلك الفيديو الذي أرسلته أختي لم يكن مجرد مادة عابرة، بل بوابة أعادتني إلى جذورنا الحضارية. اكتشفت أن الماضي السومري لم يختف في ألواح الطين أو في المتاحف، بل يعيش بيننا: في شجرة لا نجرؤ على قطعها، في رغيف خبز نتقاسمه، وفي عقارب ساعة تواصل الدوران على إيقاعهم القديم. وبين الحقيقة والأسطورة، يبقى الميراث السومري حاضرا في تفاصيل حياتنا اليومية، شاهدا على أن التاريخ لا يموت، بل يعيد صياغة نفسه في عاداتنا ومعتقداتنا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat