القصيدة عاصفة يحتويها قلب شاعر، ويقال أنها ليست على وئام مع شاعرها، إلا في القصيدة الحسينية، لقد وحد الدم الحسيني المشاعر والأحاسيس وظلال النخيل مع ضفاف الرؤى.
الجراح غبطة لا تنام، وعقل القصيدة كربلاء، عطرها العطش المقدسة ولمراثي، وظهيرة حملت شظاياها قرابا مذبوحة الوريد، وماء بلا ماء، حتى صار الحزن هوية.
لهذا يأتي السؤال أين موقع الذات في قصائد الرمز الحسيني؟
**
ـ في قصائد الرمز الحسيني تصبح الذات متسقة مع الرمز، مرآة تتجلى فيها أبعاد الأهداف الحسينية، فهو "سلام الله عليه" المركز الذي تتسع حوله تجربة الوعي الشعوري والوجودي للشاعر الحسيني، حيث تنصهر ذات الشاعر في المعنى الذي يتغذى من شجون الفاجعة، فتنتج التجربة كوجود مستلهم من خلال الرمز.
" الشاهد الصامت"
سَقَطَ الحُزْنُ عَلَى الصَّحْـرَاءِ حَــائِــرْ أَ كَذَا دَارَتْ عَلَــى الدِّيــنِ الدَّوَائِرْ؟
نَهَـــرَ الدَّهْـــرُ نَمِيـــرُ النَّــهْرِ حَتَّــى شَهِـقَ الْمَـاءُ بِأَسْــرَارِ السَّرَائِـــرْ
شَاهِدٌ كَانَ عَلَى صَمْتِ الشَّوَاطِـي يَسْتَجِيــرُ اللهَ مِـنْ مَــوْتِ الضَّمَائِرْ
إِذْ تَعَرَّى فِـي مَهَــبِّ الرِّيــحِ قَــــوْمٌ أَوْقَدُوا الشَّرَّ عَلَى خَيْـرِ الْعَشَائِــرْ
وَإِذَا التَّـارِيخُ فِـي سَــرْدِ الْمَآسِـــي قَدْ رَوَى لِلدَّهْرِ عَنْ عُنْفِ الْمَجَازِرْ
وَإِذَا الطُّـــفُّ بِـعَــاشُــــورَ يَـتِـيــــــمٌ بَعْـــدَ أَنْ حَـــزُّوا نُحُــورًا بِالبَوَاتِــرْ
وَالنَّــوَاوِيـــسُ بِـوَيْــــلَاتٍ تُـنــــــَادِي تَنْدُبُ الْأَحْرَارَ فِي وَعْيِ الشَّعَائِرْ
سَطَّرَتْ فِي كَرْبَلَا أُسْطُورَةَ الْمَــجْـ ــدِ حَكَــايَــا وَحَكَــايَـــا لِلْمَنَــابِــرْ
وَبَكَى التَّارِيخُ مِنْ هَوْلِ الْمَآسِــي بَعْدَ مَا شَاهَدَ مِنْ سَبْيِي الْحَرَائِرْ
وَانْطَوَى كَـرْبٌ عَلَـى صَـدْرِ الْبَرَايَــا خَطَّهُ السَّيْفُ وَوَشَّــتْــهُ الْمَحَاجِرْ
صُبِـغَ الْأُفْـقَ دَمًـا حَتَّــى أُصِيبَـــتْ كُلُّ أَدْيَــانِ الْبَرَايَــا بِالْخَـسَــائِــــرْ
وَإِذَا الرَّأْسُ عَلَـى السَّهْـمِ اعْتَــلَاهُ صَوْتُ حَقٍّ وَالْفِدَا تَحْتَ الْحَوَافِـــرْ
والرمز (المجاز) في النص الحسيني لا يمكن أن يكون مجرد زخرفة لفظية أو انزياح بلاغي فارغ، يجب أن يكون حاملا لوعي ودلالات تتجاوز حدود المباشرة، فحين نقرأ صورة "الرأس على السهم" مثلا، لا ينبغي أن نكتفي بالجانب المادي، بل نستلهم من الرمز معاني (الحرية والكرامة والتضحية والسمو الروحي).
هو مرآة للعالم الداخلي والخارجي، إذ ترى الذات في الحسين امتدادا للقداسة في الرحلة الإنسانية السماوية المقدسة، وحين تتفاعل مع الرمز، فإنها تعكس أزمتها ومعاناتها وأملها في تحقيق الحق والعدل الذي جاءت به الأديان السماوية.
قصيدة الرمز الحسيني هي تجربة وجودية تعيد تشكيل موقع الذات الشعرية التي تنفتح لتصبح وعيا، ورمزا للحرية والكرامة والسمو الروحي والديني والأخلاقي والإنساني في آن واحد، أي تصبح التجربة ساحة التقاء بين المطلق في رمزية الشهادة والمعراج روحي،
من خلال التاريخ في استدعاء واقعة الطف وما حملته من مآسٍ وملاحم، والأخلاق والقيم التي تجسد التضحية والحرية ومواجهة الظلم، لتصوغ رؤية فلسفية-بلاغية تعطي للذات موقع الشاهد المتجاوز، الذي يذوب في الحسين، ويتماهى معه، ليصبح امتدادا لصوته ورسالته.
باختصار الذات في الرمز الحسيني حاضرة في كل حركة رمزية، في كل حرف ناع، في كل صرخة، في كل ظل مأساة وحلم عدل، وهي بيئة خصبة للتفكر والتأمل في الذوات المقدسة والخلود والمعنى.
"شهر الأسى "
شَهْرٌ كَئِيـبٌ سَقِيــمٌ يَلفُظُ النَّفَسَــا فَالكَرْبُ فِيهِ عَلَى شَطِّ الفُـــرَاتِ رَسَــا
أَحْتَاجُ طَودَ خُشُــوعٍ كَــيْ يُخَوِّلَنِـي لِأدْخُـــلَ الطُّـــورَ لِلـظَّمْآنَ مُلْتَـمِــسَـــا
خَلَعْتُ ثَوبَ سُرُورِي الآنَ وَاتْشَحَتْ رُوحِي السَّوَادَ وَشَاحَ السَّعْدُ وَانْطَمَسَا
وَجِئْتُ أنْدُبُ وَالأشْجَانُ تَعْصِفُ بِـي تَكَدَّسَ الدَّمْعُ فِـي جَفْنَـــيَّ وَانْبَجَـــسَا
هَنَا رَفَعْـتُ إلى المُخْتَــارِ تَعْزِيَتِــي بِمَنْ سَقَتْهُ كُفُـوفُ الدَّهْـرِ كُــلَّ أسَــى
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat