صفحة الكاتب : هاشم الصفار

الوجوه النحوية وأثرها في توجيه المعنى ج/2
هاشم الصفار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

  من أسباب التعدّد التي أخذت حيّزًا من اهتمام الباحثين، الاختلاف في الحروف في القرآن الكريم، من حيث نوعها ومعناها، وتضمين حرف معنى حرف آخر، ثمّ الخلاف النحوي الذي يعدّ ركيزة أساسية من أسباب التعدّد في الاحتمال والتوجيه النحوي؛ من جراء انتصار لمذهب أو قاعدة على حساب أخرى، ثم يأتي التأويل حلًّا لكثير من الشواهد التي لم يسعفها السياق، شريطة عدم العدول عن فهم ظاهر اللفظ إلى التأويل إلا بقرينة تمنع إيراد المعنى على الظاهر، فيكون التأويل إلى معانٍ أُخَر بحسب ذلك الدليل الموجب لهذا الاقتضاء، ولا ننسى الخلاف الفقهي والعقدي الذي كان عاملاً قوياً في إيراد أكثر من وجه للمعنى في الآية الواحدة؛ فقد كان المعنى «أساساً مهماً من الأسسِ التي وجَّهت المفسِّر نحو الاحتمال، ومسألةُ إناطة دلالة معينة بوجهٍ تركيبـيّ ما قد لا تكونُ صحيحة فيلجأ إلى وجهٍ آخر، فتوهُّمُ الدلالة، وعدمُ إحراز ما يدلي به الوجهُ النحوي من دلالة كانت عاملاً مهماً من عوامل نشوء الاحتمال»( )، فعلى مستوى العقيدة، يتسلّح المفسّر بأدواته الخاصة من معرفته بالناسخ والمنسوخ والخاص والعام وأسباب النزول، وغيرها من علوم القرآن الكريم، ومع ذلك نجد الاختلافات الفقهية والعقدية قد أدت أيضاً إلى تعدّد المعنى النحوي، على الرغم من «الجهد الذي بذله علماؤنا في التنقيبِ عن الاحتمالات النحوية التي يحتملُها التركيبُ القرآني، هو جهدٌ يستحقُ الفخرَ والاعتزاز، ويدلُّ على عقليةٍ فذَّة وحرصٍ كبير على استقصاء الدلالات القرآنية، وهي بَعدُ تعدُّ مناجمَ للدلالات القرآنية التي قد تظهرُ لقارئٍ دون آخر على مرِّ العصور»( )، لذا ينبغي عند الخوض في استعراض الأوجه المحتملة للنصّ، الاستناد إلى رأي مفسّر أو نحوي، وليس أن يحاول الباحث أن يُورد احتمالًا لم يقُل به أحد بداعي التميّز والتفرّد، إلا إذا كان يحمل منحًى منطقيًّا مبنيًّا على أسس تحليلية واضحة مرتبطة بآية أخرى توافق المقام، أو ربط نحوي مبنيّ على تحليل للصنعة النحوية وتطويعها فلا بأس؛ فالأمر لا يعنى بتصحيح مسار معين، بقدر اهتمامه بالمحافظ على سياقات نحوية، تواضعَ عليها النحاة، ولا ينبغي الخروج عنها، إلا بما يتوافر من تحليل أو تفسير معتدّ به لذلك الخروج؛ خدمة للمعنى. 
 ومن الأسباب التي أدّت إلى التعدّد هي تلك المتعلّقة بفهم السياق، والتقارب الدلالي، وكذلك إغفال بعض القرائن السياقية، يؤدي أحياناً إلى تعدّد في الأوجه الإعرابية، فضلا عن ذلك الغموض في فهم لفظ ما يقود إلى تعدّد في معاني اللفظ، وينعكس على عملية التحليل النحوي، فإذا كانت اللغة: «تعكس الطبيعة الإنسانية بأنها لا تخضع للأحكام خضوعاً مطلقاً فإنها تعكس تلك الطبيعة بمظهر آخر يمثل الغموض المحيّر الذي لا يخضع لتفسير واحد، فقد لاحظ النحاة أن هناك شواهد لم تخرج على قاعدة ولم يؤثر فيها أمرٌ سياقي، وتبقى فيها بعض القضايا المحيّرة في الفهم التي تقبل غير وجه، مما جعل طبيعة اللغة الإنسانية سبباً في تعدّد أوجه التحليل أحياناً»( )، وقد تتضافرُ كلّ هذه الأسباب لإنتاج الاحتمال والمعنى النحوي المترتب عليه( )، ومن أمثلة التعدّد في الرأي النحوي، الذي أنتج تعدّداً في الأوجه الإعرابية، الاختلاف في إعراب (إبراهيم) في قوله تعالى: ﴿قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ﴾( )، بين كونه نصباً على النداء، أو خبراً لمحذوف، أو نائباً عن الفاعل( )، وهناك التعدّد في التأويل من قبيل تقدير محذوف في الجملة يمكن تصوره من خلال السياق والمعنى الذي أرادته الجملة، وهذا بلا شك محل خلاف بلا خلاف( )، فالتعدّد جاء للحفاظ وليس لتصحيح؛ فالنصّ صحيح والقاعدة صحيحة، ولكن فيها تصور حذف موضع معين بحاجة إلى تقدير، أو حركة معينة بحاجة إلى تأويل، أو كلمة مبهمة بحاجة لتفسير دلالتها بما يتوافق مع السياق، فإذا حُمل اللفظ على غير ظاهره؛ فهو لتقعيد معنى موافق للسياق، أو يخدم قراءة أو عقيدة ما، أو هناك قاعدة نحوية بحاجة للمحافظ عليها والتأكيد على مجراها؛ وهذا يضعنا أمام محورين؛ الأول:
إنّ التعدّد وتأويل الاحتمالات عند النحوي أو المفسّر إن كان يخدم المعنى المترسّب في خاطره مسبقاً، فإنه سيقع في إشكالية أنّ هناك معنًى سابقاً مترسّخاً في ذهنه، بغض النظر عن الوجه الإعرابي المخالف لذلك المعنى، وهو ما يسمّى بالانتصار للتفسير على حساب الإعراب؛ والأمر المنطقي حينها أن التجرّد لزومي في أن يأتي النحوي على النصّ مجرّدا من كلّ خلفية سابقة عن المعنى المراد، ثم يأتي النصّ مُفصحاً ومفسّراً وكاشفاً عن المعنى الأصلي قيد القصد، فالنصّ القرآني ليس كغيره من النصوص التي يمكن استخراج دلالات منها؛ بناء على إسقاطات القارئ؛ «فالمقولةُ التي نقبلها اليوم بأنّ القارئَ قد يستخرجُ من النصِّ دلالةً ليست ما قصد إليه المؤلفُ؛ لأنّ النصَّ يحتملها وفقاً لرؤية أوسع مما قصده المؤلفُ، أو ما لا يحتمله النصُّ دون أنْ يلتفتَ إليه، أو حتى إنها ليست فيه بل من إسقاط القارئ»( )؛ فالدلالات القرآنية موجودة، «وعلى القارئ أنْ ينطلق من فضاء النصّ لا أنْ يقتحمَه اقتحاماً، ويفرضَ عليه فهماً لا يحملُه، فمهمة القارئ استنباط الدلالة لا إنتاجها»( )، أمّا المحور الآخر، فهو المفسّر النحوي الذي يحاول الانتصار لقاعدته التي ورثها وآمن بها، فهو يرى أن لا ضير في توسيع المعنى، واحتمال وجوه عدة للنصّ بتعدّد الوجوه الإعرابية، «فاحتالوا لذلك بإيجادِ أوجهٍ أخرى تحفظُ هذه القواعد والأصول، وقد تُغفلُ التقلباتُ الدلالية عند ذلك مما يؤدّي إلى دلالات بعيدة»( )، وكذلك نظرة النحويين لكثير من المسائل الواردة في القرآن الكريم، إمّا تأييدا أو رفضا لها، فهم بين محاولة تطويعها للتقعيد النحوي المتوارث، أو تطويع الصنعة النحوية لخدمة المعاني والمقاصد التي أرادها القرآن الكريم، فكان لزاماً وجود الأدوات اللازمة للتبرير والتعليل النحوي، لا أن يُلقى الحبل على غاربه، وهذا من دواعي توسيع المعنى في اللغة العربية، وثرائها.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


هاشم الصفار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/13



كتابة تعليق لموضوع : الوجوه النحوية وأثرها في توجيه المعنى ج/2
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net