صفحة الكاتب : رياض سعد

الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (4)
رياض سعد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أكتب... وكأنني أنقذ نفسي من الغرق.

أكتب... وكأن الكلمات الحرة الصادقة هي آخر حبل نجاة في هذا الطوفان الجارف من التزييف واللامعنى .

أكتب لأن الصمت، في زمن التشويه، لم يعد حيادًا، بل صار جريمة.

هل يُغفر لكاتب أن يصمت حين يُهان وطنه؟

هل يُعذر مثقف إذا سكت حين تُجزّ الحقيقة أمامه كالشاة وينحر الصدق كالابل ؟

وهل من الجائز أن نُقايض ضمائرنا بالسلامة، وعقولنا بالرواتب، وحروفنا بالمجاملات والامتيازات ؟

لا والله... ؛ إننا بذلك نكون قد قتلنا أوّل ما وهبنا الله: الكلمة.

الكلمة التي علّمها آدم، وفهم بها الخلق، وميّز بها الخبيث من الطيب.

الكلمة التي لم تكن يومًا مجرّد حروف، بل وعدٌ، وعهدٌ، وثورة.

يا صاحبي، إنّ الكتابة الحقّة ليست "نشاطًا ثقافيًا" في صالون مخملي، ولا منشورًا يحصد اللايكات، ولا مرآة لغرورنا المعلّب.

الكتابة التي أعنيها، هي تلك التي تُربك، وتُخيف، وتُوقظ، وتُطارد الطمأنينة الزائفة في عقل القارئ، وتنتزع أقنعته قطعةً قطعة .

حين أكتب عن العراق، لا أمارس الحنين، بل المحاسبة .

وحين أستحضر مآسيه، لا أثير الشجن، بل أحرّض على التغيير.

العراق لا يحتاج مزيدًا من الرثاء، بل يحتاج من يصرخ في وجه التاريخ: "قف، لقد سُرقت الحقيقة والحاضر والمستقبل !"

إننا في بلادٍ، صار فيها الماضي كذبة، والحاضر لعنة، والمستقبل مجهولًا مبهمًا مروّعًا.

في بلادٍ، حيث الطفل يولد حاملًا طائفته قبل اسمه، والشاب يشيخ قبل أن يحلم، والمثقف يُستبدل بـ"مؤثر"، والمنبر الديني يُستثمر سياسيًا، والسياسي يزني بالوطن ثمّ يخطب في شرفه ... .

فكيف لا أكتب؟

كيف لا أستشيط من الغضب، وذاكرتي مثقلة بصور المذابح، وسجلات الإعدامات، وقبور المجهولين؟

كيف لا أكتب، وأنا أرى أبناء الوطن يُصنّفون ويُقسّمون ويُهانون، ثم يُطلب منهم أن يُحبّوا جلّاديهم؟

أكتب... وأنا أعلم أن الحرفَ الحرّ لا يجد منصّة، بل يجد حبلًا مشنوقًا، أو نافذةً مغلقة، أو طعنة من "صديق".

أكتب... لأنني قررت أن لا أكون شاهد زور في جنازة وطنٍ يتداعى.

الكتابة الحقيقية — كما قال سارتر — شكلٌ من أشكال الحرية.

لكنها أيضًا، في عالمنا، شكل من أشكال الشهادة والهلاك .

وما أكثر الكُتّاب الذين اغتيلوا، لا لأنهم حملوا سلاحًا، بل لأنهم كتبوا سطرًا لم يُعجب السلطة او قوى الظلام ، أو كشفوا فضيحة أزعجت الطائفة، أو انتصروا للمهمّشين، لا للنافذين... .

لا يوجد قلم نظيف لا يُلاحق، ولا عقل حر لا يُخوَّن، ولا كلمة حقّ لا تُداس في البداية... ؛ ثم تُرفع لاحقًا كأيقونة بعد أن تُسفك الدماء.

لكن... هل يهمّ؟

هل نكتب لنُصفّق؟ أم نكتب لنعري الواقع ونوقظ الغافلين؟

وهل معنى الحياة في أن نعيش طويلًا؟ أم أن نعيش صادقين، ولو كلفنا ذلك أعمارنا؟

أنا أكتب لأجل الذين لا صوت لهم.

لأجل تلك الأمّ التي تنتظر ابنها في السجون منذ عقد ولم تسمع خبراً.

لأجل الشهداء الذين شوّهت أسماءهم في نشرات الأخبار،

ولأجل أطفال الشوارع الذين يتوسدون الأرصفة ويأكلون من نفايات المدينة التي تنام في أحضان اللصوص.

الكتابة قدر، نعم...

ولكنها ليست قدراً أعمى، بل رسالة.

رسالة تبدأ من الذات — من أن تكون صادقًا مع نفسك —

ثم تمتد إلى الإنسان... كل إنسان.

يا صديقي، إن أردت أن تعرف الكاتب الحقيقي،

فلا تسأله عن بيانه، بل عن جراحه.

ولا تبحث في معجمه، بل في ضميره.

وانظر إلى ما كتبه ساعة الهزيمة، لا ساعة النصر،

إلى ما كتبه عندما خسر، لا عندما صُفّق له.

لأن الكلمة لا تُختبر في الرخاء، بل في الشدة.

وإن لم تكن الكتابة نارًا تأكل صاحبها قبل أن تنير الطريق، فهي حيلة لا تُغني ولا تُسمن من جوع.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رياض سعد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/11


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • ثمن اغتصاب السلطة وثمن الخضوع لها: قراءة تاريخية في إرث الدولة الأموية بين الدم والبطش والانقسام  (المقالات)

    • عقدة الدونية في الوعي الجمعي الشيعي العراقي: تحليل نفسي- اجتماعي - تاريخي- سياسي  (المقالات)

    • معاداة الشيعة : الطائفية السياسية السنية وأوهام العداء لإيران  (المقالات)

    • عقدة اللااتفاق العراقي: بين شتات الهوية العراقية وبوصلة الوطنية المؤجلة .. خور عبد الله نموذجا  (المقالات)

    • من يطارد الفقراء؟ دولة بلا بدائل و"شفل" بلا رحمة  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (4)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net