أربعين الإمام الحسين عليه السلام موسم العطاء
حسن كاظم الفتال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حسن كاظم الفتال

إن ما سمعنا وقرأنا وعاصرنا وتابعنا وكتبنا نحن ومن سبقنا وربما من سيعقبنا عن نهضة الإمام الحسين صلوات الله عليه لعله أكثر بكثير مما قُرئ وكُتِبَ عن أي نهضة أو ثورة أو حركة أو قضية أخرى .وما يجدر الإشارة إليه كلما دوِّن عن النهضة واحتشدت بها بطون الكتب وحتى لو تعاد نشعر كأنها تتجدد وتصبح الكتابة والمعلومات كأنها جديدة مستحدثة لم تعانِ من التكرار والإعادة بل يزداد الشوق للحديث عنها وللإستماع والاستمتاع .
فهي أي نهضة الامام الحسين عليه السلام ما هي إلا ملحمة ربانية كونية نموذجية لا تضاهيها ولا تشابهها اي ملحمة وهي مدار من مدارات الفتح المبين.
انفردت بعظمتها وبكل تكويناتها ومقوماتها وكينوناتها بمسبباتها وتداعياتها وأبعادها وكل ما أفرزت من معطيات ومآثر ومناقب .
ولأنها غاية في العظمة والسمو فما تنتج وما تفرز إلا ملاحمَ تشير إلى العظمة والرقي والرفعة والإزدهار.
ومن الدلائل والعلامات الفارقة التي أنتجتها هذه الملحمة موسم زيارة الأربعين .
فزيارة الأربعين هي الأخرى ملحمة ربانية إنفردت بكل تكويناتها ومضامينها وماهياتها ومعالمها وصارت إنموذجا يشير له كل أحرار العالم ببنان الفخر والعزة والشرف ويتمنى كل الأحرار والعقلاء بشكل عام الإلتحاق بها والانتماء لمنهجيتها وسياقاتها واستراتيجياتها
موسم الفصح عن الولاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بداية نقول : زيارة الأربعين شعيرة أشار وسبق الزمن في بيان عظمة مجرياتها النبي محمد وصنوه وخليفته علي بن أبي طالب صلى الله عليهما وآلهما. وبعد انتهاء واقعة الطف بادر أهل البيت صلوات الله عليهم بالتواصل عن تعريفها بإشارات واضحة ومفصلة وارتكازية ولعل أبرز من أشار لها عميد الجامعة الجعفرية الإمام الصادق عليه السلام أعدها منزلة من منازل الإيمان أي المائز الذي يشخص مستوى ولاء الفرد ويحدد موقعه الإيماني الذي يتصف به إذ أن الإمام الصادق عليه السلام جعلها مؤشرَ البوصلة العقائدية ومتممة لدرجاتها.
والمسعى الذي يسعى الفرد من خلاله للإعلان عن إتمام علامات الإيمان وأماراته فيحق له أن يتصف بالمؤمن عندما ينغمس بها أو يندمج غاية الإندماج كما يراد له أن يتعاطى معها بذلك لذا وصفها الإمام الصادق عليه السلام بأنها ( من علامات المؤمن) .
وهذا مما دعا لأن يشدد الجميع في الحرص على توقير مناخية هذه الزيارة بأية صيغة وأي وسيلة تمكننا من ذلك لأن أجواءها ترتبط بالأفئدة والعقول من فيوضات الإيمان.
وليس غريبا أن نقول : إن من الصعب أن يعثر الباحث بالتوغل بالعمق على أسرار هذه الزيارة ويطلع على أسباب سر التصاق الناس بعمق جوهرها .
فهي عبارة عن موسم لا تماثل أجواءه أي أجواء أخرى
ومن عمق الأسرار معظم المشاركين في مراسمها يبدو وكأنهم مجبولون على ممارستها يذوبون فيها وتذوب معانيها فيهم وربما يصيب الباحث العجز من أن يظهر كينونة معانيها ومغازيها . فقد تعذر على عقول نيرة متفتحة فك رموز هذه الزيارة كظاهرة فريدة وتفسير معانيها إلا ما هو ظاهر للعيان
نعم لقد برزت بعض الملامح التعريفية التفسيرية إنما ليست كافية ولا وافية فهي أعمق بكثير مما توصف .
الأربعينية هي ظاهرة ينبغي أن تكون ممارسة المراد منها إحياء وتثبيت وإدامة المشروع الإصلاحي الحسيني وهذه الممارسة الأربعينية هي السبيل الأقوم لبلوغ الهدف وتحقيق الغاية المرجوة لذلك.
حشود وأمواج بشرية تتدفق كما تتدفق الأمواج في بحر لا حدود له. حشد إيماني يزحف نحو مهوى الأفئدة : ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تهْوِى إِلَيهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَراَتِ لَعَلَّهُمْ يَشكُرُونَ(37) رَبَّنَا إِنَّك تَعْلَمُ مَا نخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخْفَى عَلى اللَّهِ مِن شيء في الأَرْضِ وَلا في السمَاءِ(38)) ـ
تتوافد هذه الحشود بكل عفوية وتلقائية وحماس واندفاع وبإيمان وصدق نية خالصة لتعبر عن مشاعرها الجياشة الملتهبة بالصدق إذ هي تتحدث طوال أيام السنة وتعبر عن المشاعر الفياضة بالمودة تلبية لظاهر منطوق الآية الكريمة : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ـ الشورى / 23 فهي طوال أيام السنة تعلن وتعبر بالنوايا الحسنة بالخفاء والعلن ولكن بشكل نظري وشفاهي وتنتظر أوانا لتبدي إنصهارها وذوبانها مع الحدث عمليا فتعلن ما تضمره القلوب والضمائر والعقول وهذا الإظهار بالممارسة العملية لتبرهن مصداقية الولاء والحب وصدق الإتصال العقائدي بالإمام الحسين عليه السلام.
هذه الجموع قد فكرت وقررت وآثرت أن يكون التعبير عمليا ميدانيا فراحت تشارك بالزحف إلى موطن تهوي إليه القلوب كما يصفه الإمام الصادق عليه السلام. بهذا المسير يَتَحِد الخيالُ والتصور بالبصيرة مع الفعل والواقع والقيام بالعمل. وما هذا المسير إلى الإمام الحسين عليه السلام إلا قرينة تواصُلِ المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله القائل : ( حسين مني وانا من حسين )
وما يؤكد ذلك الصورة التي تعكسها هذه الجموع التي تبدو فيها الأرواح كأنها تعرج من الأبدان وهي في أماكنها قبل الوصول إلى حرم الإمام الحسين عليه السلام لتحط أرواح الوافدين عند مرقده وتطوف قبل وصول الاجساد وهذه الاجساد والألباب استطابت هذا العناء الذي حسبته جهادا في سبيل الله مصطبغا بالصبر المقترن بالطمأنينة وبالأريحية والاستعداد على تحمل قساوة المناخ وكثير من التبعات.
وقد كونت هذه الحشود لوحة فريدة مشعة براقة نموذجية لا تشابهها لوحة في اي موطن آخر ولا يقوى غير هؤلاء على رسم لوحة مشابهة . وهذه اللوحة لا يفك رموزها وإبراز معالمها الا من امتحن الله قلبه بالإيمان إذ هي تشاهد بالبصيرة وليس بالبصر
هذه الجموع انطلقت تلبية لنداء العقيدة في إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام واستجابة لوصاياهم وأوامرهم وهي إعلان ولائي واضح. بل هو تصريح للرغبة الشديدة الملحة لشمولهم بأصل دعاء الإمام الصادق عليه السلام وآملية إرتوائهم من الحوض يوم العطش الأكبر إذ يرجو لهم الإمام الصادق عليه السلام ذلك بدعائه وبمناجاته لله جل وعلا الذي يقول فيها : ( اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافا عليهم، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهم إني أستودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش).
ويحق لهذه الجموع التي شملها هذا التوصيف واستحقت هذا الدعاء ونالت مرادها أن تفخر بما دعا لتحقيقه لهم الإمام صلوات الله عليه.
وجوه لفحتها الشمس وعيون سالت مآقيها وأجساد تغربت عن الديار وما يتبع ذلك من التوصيف وشمولية الدعاء
وبما أن هذا الوفود لهذه الحشود يمثل الجهاد الذي لعله يرتبط بالجهاد الأكبر. لذا قد واجه هذا الجهاد في العصور القديمة حربا شعواء شنت من أجل إخماد جذوة هذا الجهاد وذلك بمحاولة إيقاف الزحف العظيم.
كم من المحاولات جرت على مدى العصور لإيقاف هذا الزحف الروحي والضمائري والعقلي قبل الجسدي وكم تكالب أصحاب المساعي وتضافرت جهود مشتركة من قبل جهات متعددة سياسية وغيرها ولكن كل المحاولات باءت بالفشل.
ولعل إصابة هذه المحاولات بالفشل دليل على أنه سر من الأسرار وإن القضية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو حتى دينية فحسب .
هذه الظاهرة لها علاقة وطيدة بالحركة الإصلاحية الإنسانية التي نهض من أجل تحقيقها الإمام الحسين صلوات الله عليه .
فهو صلوات الله عليه أرشد الأمة إلى سبيل التفاعل مع المشروع الإلهي الذي أسسه صلوات الله عليه وعمل وأصر على تحقيقه بأغلى وأنفس ثمن .
ودعا لأن تتخذ الأمة من جوهر حقيقة نهضته صلوات الله عليه مسارا مستقيما يوصلها إلى النجاة والظفر وذلك بتحقيق العدل الإلهي الذي يتمناه ويؤيد تحقيقه كل الأحرار وهذا ما سبب أن يستشعر معارضو العدل الإلهي أو المرعوبون من إقامة دولة العدل عندما استشعروا الخطر وأدركوا أن ذلك لا يروق لهم وما عليهم إلا اسقاط هذا المشروع ولم يتحقق ذلك إلا بقتل صاحب المشروع الذي هو الإمام الحسين عليه السلام ففعلوا فعلتهم لتكون وصمة عار على جباههم وسواد صفحات تأريخهم المصطبغ بالدم المهدور.
لقد اتخذ الموالون من الأربعينية ساحة لإقامة الشعائر الحسينية تلك الشعائر التي أيقظت الأمة ونبهتها وجعلتها تسترشد وتجد الطريق الصحيح. وإقامة الشعائر وممارستها بالصيغ الصحيحة وهي الطريق الأصح والأوسع لتطبيق وتحقيق العدل الإلهي وإقامة دولة العدل.
وهذه النتيجة تفرض علينا أن نسعى في جعل الشعائر الحسينية تأخذ مسارها الصحيح ونُفَعِلها غاية والتفعيل لتأخذ اثرها وتؤتي أكلها وبالصيغة التي دعا لها ومارسها أهل البيت صلوات الله عليهم وشددنا على أن نتخذ منها شعلة تضيء لنا الطريق للوصول إلى ما نريد .
نتخذ من هذه الشعائر وسيلة توغل إلى وجدان الشعوب والمجتمعات كما أراد لها الإمام الحسين صلوات الله عليه أن تكون ونوجه من خلال هذه الشعائر وممارستها بما يتطلب العامل الفكري والتوعوي ونصوغها علامة محاورة ونتداخل ونحاور عقول هذه الشعوب بممارساتنا الصحيحة الواعية بوعي عميق لكي تكتسب منا لا أن نكتسب منها فتنتقل هي بوعيها لثقافة هذه الشعائر الحية المؤثرة
تناغمية العقول مع المشروع الحسيني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما يثبت تفرد هذا الموسم الأربعيني وتميزه عن كل مواسم الدنيا ويراه الجميع أن لا مثيل له لا من قبل ولا من بعد برهانه مشاركة فئات وطبقات وأجناس خارج الملة راحت تتخذ من هذه المناسبة فرصة للتعبير عن رغبتها للإنتماء لدولة العدل والمشاركة في تحقيق المشروع الحسيني الإصلاحي الإنساني الذي يتناغم مع عقول المجتمعات المتحررة أو تلك التي تطالب بالتحرر وما عملية ميول المجتمعات وإنحيازها لهذا المشروع إلا برهان على أنه مشروع يمثل جوهر الإنسانية وهذا ما دعت إليه النهضة الحسينية المباركة التي ما هي إلا عنوان منبثق من عناوين الرسالة المحمدية التي اتبع كل أهل البيت صلوات الله عليهم منهجيتها وأشرعوا كل ابواب الرحمة لها ليلج إليها الموالون المحبون ويستضيئوا بأنوارها.
كل ما تقدم يستلزم الختام بإشارة خاطفة .وهذا الختام يحثنا على أن ندون ذكر معادلة اقتضى تدوينها وهي معادلة صعبة جدا. المقام الأول فيها ما يصدر من تأكيد وتركيز من قبل أهل البيت عليهم السلام وتشديدهم على مواصلة وإدامة أداء زيارة الأربعين.
والمقام الثاني للمعادلة عزم وإصرار وتركيز اعدائهم على منع استمرار الناس من أداء هذه الزيارة بمراسمها الصحيحة وكم شن الأعداء من حروب شعواء ضدها إنما لم يفلحوا بما ابتغوا أن يحققوه
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat