من يريد حلّ الحشد؟.. قراءة في جوهر الاستهداف وأصوات الإلغاء
حسين النعمة
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حسين النعمة

"حين تقف الأمة على جرف الهلاك، ويهب أبناؤها من دون أمر، لا يكون هذا جيشًا، بل ضميرا"
لم يكن الحشد الشعبي مؤسسة طارئة على الجغرافيا ولا على التاريخ العراقي. لقد جاء كصدى لألم جماعي، وكفعل مقاومة ووجود، لا كقرار إداري أو تنظيمي، حين تمددت خرافة سوداء من رحم الإرهاب لتدّعي دولتها على أرض العراق، ولتغرز خناجرها في خاصرة الموصل وتزحف صوب بغداد، في صيف مظلم من عام 2014.
في تلك اللحظة التي بدت فيها مؤسسات الدولة على وشك الانهيار، وحين غاب المدد، وأُغلقت الحدود في وجه العراق الجريح، ارتفع نداء المرجعية الدينية العليا بفتوى "الدفاع الكفائي"، فجاءها الجواب من الجنوب والوسط... من الفقراء والبسطاء، من مَن لم يدرسوا في كليات الحرب، لكنهم حملوا الوطن في صدورهم، ومضوا.
انتظم الرجال، من العرب والكرد، من الشيعة والسنة، من الإيزيديين والمسيحيين والصابئة، فشكلوا "الحشد الشعبي" الذي لم يكن مجرد ألوية، بل روحًا تُقاتل من أجل الأرض والعرض والمقدّسات.
معارك الحشد في آمرلي، جرف النصر، بيجي، الفلوجة، الموصل، تلعفر، وغيرها، لم تكن فقط ضد تنظيم "داعش"، بل ضد مشروعٍ إقليمي ودولي كان يسعى إلى تفكيك العراق دولة ومجتمعًا.
الحشد بعد المعركة: لماذا لا يُراد له أن يبقى؟
لقد تحقق النصر، وتهاوت دولة الخرافة، ورفرف العلم العراقي فوق مدن كانت تئن تحت سوط التكفير. لكنّ الحشد، هذا الكيان الذي وُلد من لحظة الحاجة القصوى، لم يُحلّ، بل تحوّل إلى هيئة رسمية بقانون مشرّع في البرلمان، يرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة.
منذ تلك اللحظة، بدأت الضغوط.
ليس غريبا على واشنطن، التي غضّت الطرف عن تمدد داعش بادئ الأمر، وتركت مدن العراق تُبتلع على يد التنظيم، أنها لم تستسغ هذا الكيان الوليد، ففي أكثر من تصريح رسمي، وصف مسؤولون أميركيون الحشد بأنه "تهديد للاستقرار"، وأنه "خارج سيطرة الدولة"، رغم أن القانون العراقي قال غير ذلك.
وفي عام 2019، صرّح مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، علنًا:
"على الحكومة العراقية أن تحلّ الميليشيات التابعة لإيران، ومن بينها الحشد الشعبي، إذا ما أرادت شراكةً استراتيجية طويلة معنا".
كلمات لم تكن مجرد رأي، بل تهديدا مشروطًا، يعكس رغبة راسخة في تفكيك هذا الكيان.
ثم جاءت التصريحات الأوضح، من لجان الكونغرس الأميركي، التي طالبت في تقارير دورية "بحلّ الحشد الشعبي كشرط من شروط الدعم العسكري للعراق"، وهو ما ورد في جلسات استماع ضمن لجنة القوات المسلحة في الكونغرس عام 2020، تزامنًا مع التصعيد الأميركي ضد فصائل المقاومة العراقية.
إسرائيل على الخط: الحشد تهديد وجودي!..
لم تكن إسرائيل بعيدة عن هذا الملف، بل إنها من أوائل من صرّح بأن "الحشد الشعبي يمثل تهديدًا مباشرًا لأمن إسرائيل". في تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق أفيغدور ليبرمان عام 2018، قال:
"وجود الحشد الشعبي في العراق لا يقلّ خطرًا عن حزب الله في لبنان"..
ومن هنا، بدأت الضربات الجوية "الغامضة" التي استهدفت مواقع للحشد على الحدود وفي العمق العراقي، وسقط الشهداء، وكان من أبرزهم الشهيد القائد أبو مهدي المهندس، الذي اغتيل إلى جانب الفريق قاسم سليماني، في ضربة أميركية مباشرة قرب مطار بغداد.
اغتيال القيادة لم يكن سوى خطوة في مشروع الحل النهائي للحشد.. لكنّه فشل.
من الداخل: معاول تتلبّس الوطن
في الداخل، تواطأت أصوات سياسية وإعلامية على النغمة ذاتها: "تفكيك الحشد"، "حصر السلاح بيد الدولة"، "حلّ الميليشيات".
لكنّ هذه الأصوات، في أغلبها، تعود لأطراف لم تطلق طلقة واحدة في وجه داعش، وبعضها كان يتنقل بين عواصم اللجوء، أو يوقّع على مشاريع التقسيم، أو يروّج "للفدرلة" الطائفية والمناطقية.
من يُنادون اليوم بحل الحشد، هم في أغلبهم من لم تطأ أقدامهم جبهات القتال، وهم أنفسهم من باركوا الاتفاقيات مع الاحتلال الأميركي، ومن لا يرون بأسًا في التحالف مع الكيان الصهيوني تحت عنوان "الواقعية السياسية".
من يريد حل الحشد؟
السؤال لم يعد لغزًا، بل صار جليًا:
من يريد حلّ الحشد، هي واشنطن، لأنها تريد عراقًا بلا ذاكرة مقاومة، وبلا مناعة داخلية.
من يريد حل الحشد، هو الكيان الصهيوني، لأنه يعرف أن اليد التي قاتلت داعش قد تمتد لمنع تطبيع الذل.
من يريد حل الحشد، هم أدوات الداخل، ممن يدّعون الوطنية وهم يهرّبون النفط، ويعقدون الصفقات مع شركات الأمن الأميركية.
من يريد حل الحشد هم الذين يبيعون من تراب وموج الوطن بذريعة الاستقرار..
من يريد حل الحشد، هم من خانوا العراق حين ناداه.
في الخاتمة: الحشد ليس سؤالاً إداريا، ولا ترفا وجوديا، بل قضية هوية.
هو ليس مؤسسة فوق الدولة، بل جزء من دمها حين تخلّى العالم عنها.
والمعادلة اليوم واضحة: من يريد حل الحشد، لا يريد للعراق أن يبقى.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat