رفع الحسين دمه دعاءً واستنصاراً: رواية شاهد عيان في تاريخ مدينة دمشق
محمد السمناوي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد السمناوي

في صبيحة هذا اليوم الثلاثاء ٢٢/ ٧/ ٢٠٢٥، الموافق ٢٦ محرم ١٤٤٧هج كنت اقرأ في تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، بسندٍ..... عن الحسن بن زيد بن حسن بن علي حدثني مسلم بن رباح مولى علي بن أبي طالب قال: كنت مع الحسين بن علي يوم قتل فرمي في وجهه بنشابة فقال:" لي يا مسلم ادن يديك من الدم فأدنيتهما فلما امتلأتا قال: اسكبه في يدي فسكبته في يده فنفخ بهما إلى السماء وقال اللهم اطلب بدم ابن بنت نبيك قال مسلم فما وقع منه إلى الأرض قطرة". (ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: على شيري، دار الفكر، بيروت، ١٩٩٥، ج١٤، ص٢٢٣.)
بغض النظر عن البحث السندي لهذه الرواية حَلّق ذهني إلى تلك الأجواء في الظهيرة الحارقة على رمال الطف، حيث انكسرت كل سيوف الحق وانحاز الزمان نفسه ظاهراً إلى صف الباطل، وقف الحسين بن علي (عليهما السلام) - سبط رسول الله وكوكبة من أقمار بني هاشم - وحيداً.. جسده النبيل ممزقاً، وروحه الطاهرة تستعد للتحليق. وفي اللحظة التي اخترقت فيها "نشابة" قاتلة وجهه الكريم، لم يُسدل الستار على المأساة، بل انفتح أفقٌ ميتافيزيقيٌّ مذهل، دوّنه راوٍ شاهدٌ بعينيه، فصار الروح الخالدة لكربلاء: رواية الدم الذي لم يمس الأرض.
تخيل او تصور المشهد بعين القلب:
- لحظة الوجع: يسقط السهم القاتل.. ليس على جسد عادي، بل على وجهٍ كان يُقبّله حبيبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان تفيد الاستمرار، يشبعه لثماً وتقبيلاً. الدم الساخن، دم ابن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ينزف ليس فقط جرحاً جسدياً، بل جرحاً في صميم الكون. إنه دم النبوة، دم الإمامة، دم الإنسانية المقهورة.
- حركة صامتة تصرخ: لا أنين، لا صراخ. فقط إشارة حانية إلى "مسلم بن رباح": قال: لي يا مسلم ادن يديك من الدم". في ذروة الألم، في قمة الوحشة، في ساعة الموت، تبقى رباطة الجأش، تبقى العظمة. يد الحسين (عليه السلام) ترتفع لا لتحتمي، بل لتجمع شهود الدَّم على الجريمة. كأنه يقول: هذا دمي.. فليشهد.
- الكفّان المقدستان: تمتلئ كفا مسلم بذلك السائل الأحمر الساخن. لمسة الدم هنا ليست نجاسةً دنيويةً، بل طُهْرٌ سماويٌّ، " أشهد أنك طهر طاهر مطهر، من طهر طاهر مطهر، طهرت وطهرت أرض أنت بها، وطهر حرمك " كما في الزيارة،( القمي، جعفر بن قولويه، كامل الزيارات، 410). إنه دمٌ يحمل في عروقه ذكرى جده النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهمس أمه الزهراء (عليها السلام)، وعهد أبيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) دمٌ صار وثيقة اتهام ضدّ الظلم إلى يوم القيامة.
- النفث.. الصّرخة التي هزت عرش الرحمن: "سكبه في يدي". فيلمس الحسين (عليه السلام) دمه بيديه المباركتين.. ثم ينفثه إلى السماء! تصوّر: يدٌ مرميةٌ بالسهام، ترفع دماءها الذكية إلى خالقها! ليست حركة استسلام، بل هي أعظم استنصار في التاريخ.
- الدعاء القاصم:" اللهم اطلب بدم ابن بنت نبيك". كلماتٌ قليلة تحمل زلزالاً:
"اللهم": مناجاة الملهوف الذي لم يجد ملجأ إلا بارئه تعالى.
"اطلب": مطالبة بالقصاص الإلهي، إعلان أن الجريمة لن تمر.
"بدم": تقديم الدم نفسه دليلاً دامغاً وشفيعاً.
"ابن بنت نبيك": التمسك بأعظم وسيلة للتوسل: النسب الفاطمي المحمدي. كأنه يذكّر السماء والأرض: أنا لحم من لحم من أرسلته رحمةً للعالمين، فكيف يُسفك دمي هكذا؟!
- المعجزة الصامتة:" فما وقع منه إلى الأرض قطرة". الأرض - التي شربت دماء الشهداء - ترفض أن تلمس هذا الدم الطاهر! السماء تستقبله كقربان مقدس. الدم لا يسقط.. بل يصعد. صعود الدم هنا هو نزول اللعنة على القتلة، ونزول العزاء والمواساة للأتباع، ونزول الوعد الإلهي بأن دم الإمام الحسين (عليه السلام) لن يضيع هدراً. الأرض تستحي أن تلامس جُرحاً في وجه سبط نبيها!
ملحوظة: تمتلك هذه الرواية قوةً تفجيرية للعواطف من خلال:
1- التفاصيل الحسية المروعة: "نشابة في الوجه"، "يدان تملآن دماً"، "نفث الدم". كلها صور بصرية ملموسة تجعل المأساة حاضرةً كأننا نراها. نرى الدم السائل، نحس بحرارته، نسمع صوت النفث.
2- المفارقة المأساوية الصادمة: جمع الدم من الوجه المصاب بدل تضميد الجرح! رفع الدم إلى السماء في لحظة سقوط الجسد على الأرض! الصمت المهيب مقابل صليل السيوف! هذه التناقضات تمزق القلب.
3- رمزية الدم الجامحة: الدم هنا ليس مجرد سائل حيوي. إنه:
- شاهد الإثبات: الوثيقة السماوية على الجريمة.
- وسيلة التوسل: أقوى سلاح في يد المظلوم: دمه البريء.
- جسر التواصل مع السماء: الدم الصاعد هو الصلاة التي لا تحتاج لكلمات.
- عقد الدم الأبدي: دم الحسين الإمام (عليه السلام) صار عهداً بين الله تعالى وأوليائه: أن القضية حية، والثأر آتٍ.
4- العظمة في ذروة الانكسار: الإمام الحسين (عليه السلام) لم ينهار، ولم يجزع، لان قلبه حرم الله تعالى، حتى في هذه اللحظة، هو "سيد الشهداء".. هادئ، وقور، ومطمئن، موصول بالله تعالى، يتحكم وفق عصمته وامامته بمشهده الأخير بكرامة مهيبة. هذا الهدوء في العاصفة هو ما يذيب القلب.
5- الصلة المحمدية الفاطمية: التركيز على "ابن بنت نبيك" يربط المأساة بأعظم قداسة في الوجدان الإسلامي. إهانة الإمام الحسين (عليه السلام) ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إهانة لسيدتي ومولاتي فاطمة(عليها السلام)، تلك الجوهرة القدسية، كما قال عنها المحقق الكبير الشيخ محمد حسين الكمباني الاصفهاني :
جوهرة القدس من الكنز الخفي بدت فأبدت عاليات الأحرف
(الإصفهاني، محمد حسين، الأنوار القدسية، ص26)
وهي إهانة لرسول الله (صلى الله عليه وآله). هذا الرباط يحرك أعمق مشاعر الحب والوفاء والغضب المقدس.
6- الوعد الضمني بالثأر الإلهي: "اللهم اطلب".. هذه الكلمة هي نبأ انتصار قادم. هي بصيص نور في ظلمة المقتل. الدم الذي لم يضيع في التراب، هو وعدٌ بأن الظلم لن يدوم، وأن العدل الإلهي آتٍ، ولو بعد حين. هذا يمنح الأمل مع الدمع.
خاتمة:
الدم الذي صار ذكرى.. والذكرى التي صارت ثورة ورواية "مسلم بن رباح" ليست سرداً تاريخياً فحسب.. إنها لوحة تعبيرية دامعة رسمتها يد القدر لتخلّد أسمى معاني التضحية وأقسى وجوه الظلم. إنها تصويرٌ لـ لحظة التحول: حيث يتحول الدم المادي إلى صرخة معنوية تهز عرش الرحمن، وحيث يتحول الجسد المنهك إلى رمز خالد. دم الحسين (عليه السلام) لم يسقط على رمال صحراء نينوى ليُدفن، بل ارتفع ليصير راية في جبين التاريخ، ودمعة في عين الزمن، ونداءً في أذن الضمير الإنساني إن الظلم مهما علا سيُسقطه دمٌ طاهرٌ رُفع إلى السماء وقال: "اللهم اطْلُب". فهل من مُجيب؟! هذه الرواية هي الدموع التي لم تجفّ، والصرخة التي لم تُخمد، والشاهد الذي لن يموت.. فهي ليست عن دم سال، بل عن حقٍّ صعد إلى بارئه، وعدلٍ سيأتي رغم أنف الظالمين، اللهم عجل لوليك الفرج والعافية والنصر بحق محمد وآله الطاهرين.
المصادر
1- إبن عساكر، تاريخ مدينة دمشق.
2- القمي، جعفر بن قولويه، كامل الزيارات.
3- الإصفهاني، محمد حسين، الانوار القدسية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat