الوجاهةُ الحسينيةُ في ميزانِ الشرعِ والعرفِ: دراسةٌ تحليليةٌ لمفهومِ "الوَجِيهِ عندَ اللهِ" على ضوءِ الكتابِ والعترةِ "عليهم السلام"
محمد السمناوي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد السمناوي

المستخلص
يتناول هذا البحث مفهوم الوجاهة، مميزًا بين الوجاهة العرفية والشرعية المستندة إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة. يركز على سبل تحصيل الوجاهة عند الله تعالى من خلال إقامة الصلاة، وحب أهل البيت (عليهم السلام)، والارتباط الخاص بالإمام الحسين (عليه السلام). ويسعى لتوجيه المؤمن نحو تحقيق القرب الإلهي والوجاهة الدائمة في الدنيا والآخرة.
الكلمات المفتاحية: الوجاهة الحسينية- الوجاهة الشرعية- الوجاهة العرفية - الوجيه عند الله- الكتاب والعترة.
Abstract
This study explores the concept of 'Wajahah' (esteem or standing), differentiating between its conventional (worldly) and divinely-sanctioned forms as rooted in the Holy Quran and Noble Sunnah. It focuses on the means of attaining divine favor in the sight of Allah (God Almighty) through the establishment of prayer, love for the Ahl al-Bayt (Household of the Prophet, peace be upon them), and a special devotion to Imam Hussein (peace be upon him). The research ultimately aims to guide believers towards achieving divine proximity and enduring esteem in both this world and the hereafter.
Keywords: Husseini Wajahah, Divine Wajahah, Conventional Wajahah, Esteem in the Sight of Allah, The Book and The Progeny.
المقدمة:
أولاً: بيان الموضوع:
في زمنٍ تزايدت فيه الحاجة إلى بوصلةٍ تُوجّهُ السعيَ البشريَّ نحو الغاياتِ الساميةِ، لا سيما في ظلِّ طغيانِ المادياتِ وتزاحمِ النفوسِ على مظاهرِ الوجاهةِ الزائفةِ، يبرزُ مفهومُ "الوجاهة" كقضيةٍ محوريةٍ تستدعي التأملَ والتحقيقَ. فبينَ الوجاهةِ العرفيةِ التي تُكتسبُ بينَ الناسِ بمعاييرَ متغيرةٍ وزائلةٍ، والوجاهةِ الشرعيةِ التي هي "عندَ اللهِ تعالى" ومُستمدّةٌ من رضاهُ ومقاييسهِ الثابتةِ، يقعُ التمييزُ الذي لا غنى عنهُ لكلِّ سالكٍ إلى الله تعالى، ويُسلطُ هذا البحثُ الضوءَ على هذهِ المفارقةِ الجوهريةِ، مُستنيراً بآياتٍ من الذكرِ الحكيمِ كقولهِ تعالى في وصفِ أنبيائهِ: ﴿وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾، وبنصوصٍ شريفةٍ من أدعيةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) وزياراتِهم، وعلى رأسها دعاءُ الإمامِ الباقرِ (عليه السلام) في زيارةِ عاشوراء: "اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة". إنَّ الغوصَ في أبعادِ هذا المفهومِ وتحديدِ سُبلِ تحصيلهِ، لا سيما عبرَ طريقِ سيدِ الشهداءِ (عليه السلام)، يُعَدُّ ضرورةً معرفيةً وسلوكيةً لبناءِ شخصيةٍ مؤمنةٍ متوازنةٍ تُدركُ حقيقةَ القيمِ الخالدةِ.
ثانياً: إشكالية البحث:
تُعَدُّ مكانةُ "الوجاهة" و"الاعتبارِ" من المطالبِ الفطريةِ للإنسانِ، التي سعى إليها على مرّ العصورِ، فتجلّت في صورٍ شتى، من طلبِ المالِ والجاهِ إلى السعيِ للمناصبِ الاجتماعيةِ والمكانةِ العشائريةِ. غيرَ أنَّ هذه السعيَ البشريَّ يُواجهُ إشكاليةً محوريةً تُفرّقُ بينَ الوجاهةِ التي يحصّلها المرءُ بينَ الناسِ (الوجاهةُ العرفية)، وتلكَ الوجاهةِ الحقيقيةِ الباقيةِ التي تُنالُ عندَ خالقِ البشرِ (الوجاهةُ الشرعية). فهل كلُّ وجاهةٍ عرفيةٍ تعكسُ وجاهةً شرعيةً؟ وهل الطرقُ التي يسلكُها الناسُ لتحصيلِ الاعتبارِ الدنيويِّ تتوافقُ بالضرورةِ معَ سبلِ تحصيلِ الوجاهةِ الإلهيةِ؟ إنَّ هذه الإشكاليةَ تزدادُ تعقيداً في ظلِّ تداخلِ المفاهيمِ، وغلبةِ المظاهرِ، وابتعادِ الكثيرينَ عن الموازينِ الشرعيةِ التي وضعها اللهُ تعالى وآله (عليهم السلام).
ثالثاً: أهمية البحث:
تكمنُ أهميةُ هذا البحثِ في كونهِ يتناولُ جانباً جوهرياً من جوانبِ التربيةِ الإيمانيةِ والسلوكِ القويمِ الذي دعتْ إليهِ مدرسةُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام). ففي زمنٍ طغتْ فيهِ المادياتُ، وتنافستْ فيهِ النفوسُ على حطامِ الدنيا ومظاهرِ الوجاهةِ الزائفةِ، باتَ من الضروريِّ بمكانٍ تسليطُ الضوءِ على مفهومِ الوجاهةِ الشرعيةِ وأسرارِها. هذا البحثُ يُسهمُ في تصحيحِ المساراتِ الفكريةِ والسلوكيةِ، وتوجيهِ هممِ المؤمنينَ نحو الغايةِ الأسمى، وهي نيلُ القربِ والوجاهةِ عندَ اللهِ تعالى، مما ينعكسُ إيجاباً على الفردِ والمجتمعِ على حدٍ سواءٍ. كما أنَّ التركيزَ على محورِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) في نيلِ هذه الوجاهةِ يُسلّطُ الضوءَ على خصوصيتِه ومقامِه الرفيعِ كبابٍ من أبوابِ اللهِ تعالى وعاملٍ أساسيٍ في بناءِ شخصيةِ المؤمنِ الرساليِّ.
رابعاً: أهداف البحث:
يهدفُ هذا البحثُ إلى تحقيقِ الأهدافِ التاليةِ:
1. التمييزُ الدقيقُ بينَ مفهومِ الوجاهةِ العرفيةِ والوجاهةِ الشرعيةِ، وبيانِ الفروقِ الجوهريةِ بينهما.
2. إبرازُ المنظورِ القرآنيِّ والروائيِّ لمفهومِ "الوَجِيهِ عندَ اللهِ تعالى"، بالاستنادِ إلى آياتِ كريمةٍ من سورتي الأحزابِ وآلِ عمرانَ، ودعاءِ الإمامِ الباقرِ (عليه السلام) في زيارةِ عاشوراء.
3. الكشفُ عن الآثارِ السلبيةِ لطلبِ الوجاهةِ العرفيةِ المجردةِ عن الوجاهةِ الشرعيةِ.
4. تحديدُ الطرقِ العمليةِ والمنهجيةِ لتحصيلِ الوجاهةِ الشرعيةِ، معَ التركيزِ على أمثلةٍ وشواهدٍ من سيرةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) وتجاربِ العلماءِ.
5. تسليطُ الضوءِ على خصوصيةِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) كبابٍ عظيمٍ لنيلِ الوجاهةِ عندَ اللهِ تعالى في الدنيا والآخرةِ.
6. تقديمُ رؤيةٍ متكاملةٍ للمؤمنِ حولَ كيفيةِ بناءِ شخصيةٍ متوازنةٍ، تجمعُ بينَ العملِ الصالحِ والمحبةِ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) والصبرِ في مسيرةِ طلبِ القربِ الإلهيِّ.
مفهومِ الوجاهةِ:
إنَّ سعيَ الإنسانِ للمكانةِ والتقديرِ هو جزءٌ لا يتجزأُ من تركيبتهِ الفطريةِ. فالإنسانُ كائنٌ اجتماعيٌ بطبعهِ، يتوقُ إلى أن يكونَ لهُ شأنٌ، وأن يُنظرَ إليهِ بعينِ الاحترامِ والتبجيلِ. ولكنَّ هذا السعيَ الفطريَّ قد ينحرفُ عن مسارِه الصحيحِ إذا لم يُؤطَّرْ بضوابطِ الشرعِ والعقلِ، ليصبحَ مُجرّدَ بحثٍ عنِ الوجاهةِ الدنيويةِ الزائلةِ، مُغفلاً بذلكَ جوهرَ الوجاهةِ الحقيقيةِ التي هي عندَ اللهِ تعالى.
الوَجَاهَةُ في اللغةِ والاصطلاحِ:
الوَجَاهةُ لغةً تعني القَدرَ والرِفعةَ والمكانةَ، وهي مشتقةٌ من الوجهِ، الذي هو أشرفُ ما في الإنسانِ ويُقابَلُ بهِ. والوَجِيهُ هو صاحبُ الجاهِ والقَدْرِ. وفي الاصطلاحِ الشرعيِّ والعرفيِّ، يتخذُ هذا المفهومُ أبعاداً مختلفةً تستدعي التفصيلَ والتمييزَ.
أولاً: الوجاهةُ العرفيةُ والوجاهةُ الشرعيةُ: التمييزُ والمفارقةُ
لقد أشارَ الإمامُ الباقرُ (عليه السلام) في زيارة عاشوراء: "اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة"، إلى غايةٍ عظيمةٍ، وهي الوجاهةُ "عند اللهِ تعالى". وهذه العبارةُ تحملُ في طياتها تمييزاً جوهرياً بينَ نوعينِ من الوجاهةِ:
1- الوجاهةُ العرفية:
هي الوجاهةُ التي تُكتسبُ بينَ الناسِ وفي أوساطِ المجتمعاتِ المختلفةِ. تُبنى هذه الوجاهةُ على معاييرَ دنيويةٍ ومجتمعيةٍ قد تختلفُ من عصرٍ لآخرَ، ومن بيئةٍ لأخرى. من أبرزِ ملامحِ هذه الوجاهةِ:
المناصبُ الاجتماعيةُ والسياسية: كأن يكونَ المرءُ ذا سلطةٍ، أو مركزٍ قياديٍّ، أو نفوذٍ في شؤونِ الدنيا.
المالُ والثراء: فالكثيرونَ يُنظرُ إليهم باحترامٍ وتقديرٍ بسببِ غناهم وثرواتهم، وإن لم يكنْ لهم فضلٌ في غير ذلك.
الشهرةُ والمكانةُ الإعلامية: حيثُ يُصبحُ الإنسانُ معروفاً بينَ الناسِ، وتُسلطُ عليه الأضواءُ، فيُصبحُ وجيهاً في نظرِ العامةِ.
النسبُ والحسب: بعضُ المجتمعاتِ تُعطي قيمةً كبيرةً للنسبِ العائليِّ أو العشائريِّ، مما يُكسبُ الفردَ وجاهةً عرفيةً حتى لو خلتْ سريقتُه من الإنجازِ أو الفضائلِ.
إشكاليةُ الوجاهةِ العرفيةِ:
ان الناسُ في هذا العصرِ وحتى في العصورِ الماضيةِ مع شديدِ الأسفِ تبحثُ عن الوجاهةِ العرفيةِ تاركينَ الوجاهةَ الشرعيةَ، فاخذوا يبحثونَ عن المواقعِ والمناصبِ الاجتماعيةِ، ووصلَ بهم الحالُ أن يرغبوا أن يُقصدوا ولا يقصدونَ الناسَ، يحبُّ أن يُزارَ، ولا يذهبُ لزيارةِ الآخرينَ، وإنَّ المشكلةَ تكمنُ في أنَّ الوجاهةَ العرفيةَ، إذا لم تستندْ إلى وجاهةٍ شرعيةٍ، غالباً ما تكونُ:
زائلةً ومتقلبةً: فهي مرهونةٌ بالظروفِ والأحوالِ الاجتماعيةِ، وقد تزولُ بزوالِ المنصبِ أو المالِ أو الشهرةِ.
مُغفِلةً للموازينِ الحقيقيةِ: فهي لا تُشترطُ الصلاحَ أو التقوى أو العملَ الصالحَ، بل قد تُنالُ بالباطلِ أو الظلمِ أو الاحتيالِ.
مُفسدةً للنفسِ: فالبحثُ عن الوجاهةِ العرفيةِ لذاتِها يُولّدُ الكبرَ، والعجبَ، وحبَّ الذاتِ، والبعدَ عن خدمةِ الناسِ، والرغبةَ في أن يكونَ الإنسانُ مقصوداً لا قاصداً، ومزوراً لا زائراً. وهذا ما حذر منه أئمة أهل البيت عليهم السلام، بل سعوا جاهدين لنزع هذه القضية من نفوس الناس.
2- الوجاهةُ الشرعيةُ (الوَجِيهُ عندَ اللهِ تعالى):
هي الوجاهةُ الحقيقيةُ والدائمةُ، والتي تُكتسبُ بالقربِ من اللهِ تعالى وطاعتهِ، والتزامِ منهجِ الأنبياءِ والأوصياءِ (عليهم السلام). هذه الوجاهةُ تُعبّرُ عنها الآياتُ الكريمةُ والرواياتُ الشريفةُ:
وجاهةُ موسى (عليه السلام):
قال تعالى في سورة الأحزاب (الآية 69): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾.
هنا، يصفُ اللهُ تعالى نبيَّه موسى (عليه السلام) بأنه كانَ "عند الله وجيهاً". هذا الوصفُ يأتي بعدَ أنْ بَرّأهُ اللهُ مما اتهمهُ بهِ قومُهُ. دلالةُ الآيةِ عظيمةٌ؛ فهي تُبيّنُ أنَّ الوجاهةَ الحقيقيةَ ليستْ فيما يقولهُ الناسُ أو يتهمونَ بهِ، بل فيما يُثبتُهُ اللهُ تعالى لعبدهِ من مكانةٍ وعصمةٍ وقدرٍ. فموسى (عليه السلام) كانَ مُتّهماً ومُؤذىً من قومِه، وهذا يُقللُ من وجاهتهِ العرفيةِ في نظرِ البعضِ، ولكنَّ اللهَ تعالى يؤكدُ وجاهتهُ الكبرى التي لا تتبدلُ وهي "الوجاهةُ عندَ اللهِ تعالى".
وجاهةُ المسيحِ عيسى (عليه السلام):
قال تعالى في سورة آل عمران (الآية 45): ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾.
تُبرزُ هذه الآيةُ الكريمةُ وجاهةَ عيسى (عليه السلام) بأنها "وجيهاً في الدنيا والآخرة". وهذه الوجاهةُ الدنيويةُ لم تكنْ مبنيةً على المالِ أو السلطةِ، بل على كونهِ "كلمةً من اللهِ تعالى"، ونبيّاً مُرسلاً، وروحاً طاهرةً. فالوجاهةُ الدنيويةُ في هذا السياقِ هي انعكاسٌ للوجاهةِ الشرعيةِ، وليستْ مستقلةً عنها. وهذا يعني أنَّ من كانَ وجيهاً عند اللهِ تعالى، فإنهُ في كثيرٍ من الأحيانِ يكونُ وجيهاً ومحترماً بينَ الناسِ الصالحينَ أيضاً، وإنْ لم يبحثْ عن ذلكَ ابتداءً. ويزيدُ على ذلكَ أنهُ "من المقربينَ" إلى اللهِ تعالى، مما يُشيرُ إلى منزلةٍ خاصةٍ من القربِ الإلهيِّ.
الفارق الجوهري بينهما:
إنَّ الفارقَ الأساسيَّ بينَ الوجاهتينِ يكمنُ في مصدرِ الاعتبارِ ونقطةِ الارتكازِ. فالوجاهةُ العرفيةُ تُستمَدُّ من تقديرِ الناسِ ومقاييسهم الزائلةِ، بينما الوجاهةُ الشرعيةُ تُستمَدُّ من تقديرِ اللهِ تعالى ومقاييسهِ الثابتةِ والأبديةِ. من كانَ وجيهاً عندَ اللهِ تعالى، فإنهُ يُحظى بالقبولِ الإلهيِّ، وهذا هو الأهمُّ، وقد ينعكسُ هذا القبولُ الإلهيُّ عليهِ بوجاهةٍ بينَ الناسِ الأخيارِ الصالحينَ أيضاً. أما من كانَ وجيهاً عندَ الناسِ فقط، فليسَ بالضرورةِ أن يكونَ وجيهاً عندَ اللهِ تعالى.
النموذجُ التطبيقيُّ: قصةُ الوجيهِ في عهدِ الغيبةِ الصغرى:
كانَ هناكَ شخصاً من الموالينَ لمدرسةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) يرى في نفسهِ شيئاً من الوجاهةِ العرفيةِ بينَ أهلِهِ وعشيرتهِ، وربما وصلَ بهِ الأمرُ إلى أنْ يرى نفسهُ أهلاً لأن يكونَ نائباً للإمامِ المهديِّ (عجل الله فرجه). أرادَ الإمامُ (عجل الله فرجه) أن يُربّيهِ ويُعرّفهُ الوجاهةَ الحقيقيةَ. فأرسلَ إليهِ أحدَ سفرائِه في بغدادَ أيامَ الغيبةِ الصغرى (حيثُ كانت تحركاتُ النوابِ الأربعةِ بتوجيهٍ مباشرٍ من الإمامِ).
أمرَ السفيرُ هذا الرجلَ بأنْ يأخذَ أموالاً وكفناً، ويذهبَ إلى نهرِ دجلةَ، حيثُ سيلتقي بسفينةٍ صغيرةٍ ورجلٍ فيها، ويُسلّمهُ الأمانةَ بتكليفٍ خاصٍ ومباشرٍ من الإمامِ (عجل الله فرجه). بينما كانَ الرجلُ يسيرُ، أخذَ يحدثُ نفسهُ بلومٍ للإمامِ: "لماذا لم يختَرْني سفيراً ونائباً له؟". وعندَ اللقاءِ، تبيّنَ أن الرجلَ الآخرَ فقيرٌ محبٌّ لأهلِ البيتِ ( عليهم السلام)، وقد تُوفيَ له ميتٌ وليسَ لديهِ ما يُكفّنهُ بهِ.
العبرةُ من القصةِ:
إنَّ هذه القصةَ تُبيّنُ كيفَ أنَّ الشيطانَ يستغلُّ غفلةَ الإنسانِ عن ذكرِ اللهِ تعالى، وتعلّقَه بالمظاهرِ الدنيويةِ، ليُوسوسَ لهُ حبَّ الظهورِ والوجاهةِ العرفيةِ. لكنَّ الوجيهَ في القصةِ سرعانَ ما تنبّهَ لغفلتهِ واستغفرَ، وعادَ إلى رشدهِ، مُدركاً أنَّ الإمامَ (عجل الله فرجه) حكيمٌ، وأنَّه "وضعَ الشيءَ في موضعهِ في اختيارِ الرجلِ المناسبِ في المنصبِ المناسبِ".
هذه القصةُ درسٌ عمليٌّ بأنَّ الوجاهةَ عندَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) تُقاسُ بالطاعةِ والمعرفةِ للهِ تعالى، لا بالمناصبِ أو المكانةِ الظاهريةِ. أهلُ البيتِ (عليهم السلام) لا يُريدونَ وجاهةً دنيويةً فحسبُ، بل يريدونَ وجاهةً شرعيةً عندَ اللهِ تعالى، فـ"من كانَ وجيهاً عندَ اللهِ يكونُ وجيهاً عندَ الناسِ، ومن كانَ وجيهاً عندَ الناسِ ليسَ بالضرورةِ أن يكونَ وجيهاً عندَ اللهِ تعالى".
ثانياً: سبلُ تحصيلِ الوجاهةِ الشرعيةِ
بعدَ أنْ عرفنا أنَّ الوجاهةَ الشرعيةَ هي مطلبُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) وأساسُ القربِ الإلهيِّ، يبقى السؤالُ الأهمُّ: كيفَ نحصلُ على هذه الوجاهةِ؟ وما هو الطريقُ والمنهجُ لتحصيلها؟ يمكن ذكر ثلاثةَ طرقٍ رئيسةٍ، تُعدُّ من أقصرِ الطرقِ وأوضحها، بل من أفضلها لتحقيقِ هذه الغايةِ العظمى:
1. إقامةُ الصلاةِ (لا مجردُ إتيانها):
إنَّ الفرقِ بينَ "إقامةِ الصلاة" و"إتيانِ الصلاة". فكثيرٌ من الناسِ يُصلّونَ، ولكنَّ صلاتَهم قد لا تُحدثُ الأثرَ المطلوبَ في النفسِ والسلوكِ، بل قد "تُدخلهُ جهنمَ لأنها لم تنهَ لا عن فحشاءَ، ولا عن منكرٍ".
الصلاةُ المعراجية: هي الصلاةُ التي تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ، وهي التي تُحققُ القربَ الإلهيَّ وترفعُ العبدَ إلى مقامِ الوجاهةِ عندَ اللهِ. إنها ليستْ مجردَ حركاتٍ وسكناتٍ، بل هي حضورُ قلبٍ، وتأديةٌ لحقوقِها، والتزامٌ بآثارها. وإنَّ من يُحوّلُ الصلاةَ الأدائيةَ (في وقتها) إلى قضائيةٍ عمداً، ويعتبرُ ذلكَ "حراماً شرعاً" ويُصدقُ على صاحبهِ أنه "مستهزئٌ باللهِ تعالى"، لأنَّ الاستخفافَ بالصلاةِ هو استخفافٌ بأمرِ اللهِ تعالى ومقامِه.
وينقل عن بعض أحوال وقصص الصالحين أنَّ مؤمناً كانَ متشوقاً لرؤيةِ الإمامِ المهديِّ (عجل الله فرجه)، وذهبَ للحجِّ عشرينَ مرةً، الأولى بنيةِ الوجوبِ، والبقيةُ بنيةِ اللقاءِ بالإمامِ. وفي إحدى السنواتِ، امتنعَ عن الذهابِ غضباً لأنهُ لم يُوَفقْ للرؤيةِ، لكنَّ هاتفاً غيبياً ناداهُ: "إنْ أقبلتَ هذهِ السنةَ ترانا إن شاء الله تعالى". وهذا الهاتفُ كانَ "بالأذنِ الأخرى المعنويةِ أو الحواسِ البرزخيةِ وقلبٍ عرشيٍ". وبالفعلِ، التقى بالإمامِ (عجل الله فرجه) في مكةَ. فسألهُ الإمامُ عن رجلٍ في بغدادَ، فلما أجابهُ، قالَ الإمامُ (عجل الله فرجه): "رحمهُ اللهُ قد تُوفيَ فقد كانَ مقيماً للصلاةِ".
العبرةُ من القصة: إنَّ الإمامَ (عجل الله فرجه) أرادَ أن يُنبّهَ هذا المؤمنَ إلى أنَّ مفتاحَ اللقاءِ والوجاهةِ هو إقامةُ الصلاةِ، لا مجردُ أدائها. فالصلاةُ الخاشعةُ، الملتزمةُ بأوقاتِها، والتي تُحدثُ أثراً في سلوكِ الإنسانِ (المعراجية)، هي التي تُقرّبُ العبدَ، وهي التي تجعلُ الإمامَ هو من يزورهُ ويقصدهُ. ويُعزّزُ هذا المعنى ما وردَ عنهم (عليهم السلام): "لا تنالُ شفاعتُنا أهلَ البيتِ من استخفَّ بصلاتهِ".
2. حبُّ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) ومعرفتهم:
لا شك أنَّ "المعرفةَ تفضي إلى الحبِّ"، فالحبُّ الحقيقيُّ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) ليسَ مجردَ عاطفةٍ جياشةٍ، بل هو نابعٌ من معرفةٍ عميقةٍ بمقامِهم، وفهمٍ لرسالتهم، والتزامٍ بنهجهم.
المحبةُ العملية: لا شك أنَّ "المحبةَ لا تكتملُ إلا بالعملِ والحبُّ العمليُّ هو مطلبُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) لأنَّ النظريَّ ليسَ مطلوباً إطلاقاً". كثيرونَ يدّعونَ الحبَّ لأهلِ البيتِ بالشعاراتِ، ويقتلون شيعتهم بشتى ألوان القتل والتنكيل عبر التاريخ، فالمحبةُ الصادقةُ تُترجمُ إلى:
الالتزامِ بأوامرهم ونواهيهم.
التأدبِ بآدابهم وأخلاقهم.
خدمةِ الموالينَ لهم ونصرتِهم.
البراءةِ من أعدائهم ومنهجِهم. لقد قالَ الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) للمفضلِ بنِ عمرَ: "إني أُحبُّكَ وأُحبُّ من يُحبُّكَ". وهذا الحبُّ متبادلٌ بينَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) ومواليهم، ولكنهُ يستدعي عملاً يُثبتُ هذا الحبَّ، فالمحبةُ تزدادُ كمالاً وزكاةً وطهارةً كلما كانتْ عملية، وفي دعاءِ الافتتاحِ: "إلهي إنكَ تدعوني فأُوَلّي عنكَ، وتتحببُ إليَّ فأتَبغّضُ إليكَ"، مُبيّناً تناقضَ حالِ العبدِ معَ محبةِ اللهِ تعالى، فكيفَ بالمحبةِ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام)؟
3. طريقُ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام):
لا ريب أنَّ طريقَ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) كسبيلٍ مُختصرٍ ومميزٍ لنيلِ الوجاهةِ، وقد جاء زيارة عاشوراء: "اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة"، إنَّ للإمامِ الحسينِ (عليه السلام) خصوصيةً عظيمةً في القربِ الإلهيِّ ونيلِ القبولِ.
مظاهرُ الخصوصيةِ الحسينيةِ في نيلِ الوجاهةِ:
إقامةُ المآتمِ والخدمةُ الحسينية: من يبذلُ جهدهُ ومالهُ في خدمةِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) وإقامةِ مآتمهِ، يُحظى بعنايةٍ خاصةٍ من اللهِ تعالى والإمامِ (عليه السلام) نفسهِ. وذكرَ النصُّ قصةَ مؤمنٍ لم يُوفقْ لبناءِ حسينيةٍ لكنهُ فكّرَ فيها، فوجدَ مصحفاً في ملحودِ قبرهِ عندَ وفاتهِ، مما يُشيرُ إلى منزلةِ نيّتهِ. وكذلكَ قصةَ العالمِ الذي أوصى أن يُدفنَ معهُ المنديلُ الذي كانَ يبكي بهِ على مصيبةِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام)، مما يدلُ على عظيمِ شأنِ هذا الارتباطِ.
البكاءُ على مصيبةِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام): البكاءُ على الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) ليسَ مجردَ عاطفةٍ، بل هو "محطةُ قربٍ إلهيٍ، وبابٌ من أبوابِ اللهِ تعالى، وطريقٌ واضحٌ لتحصيلِ الوجاهةِ الشرعيةِ والقبولِ في الساحةِ الإلهيةِ".
الخاتمة:
لقد أبانَ هذا البحثُ أنَّ السعيَ للوجاهةِ البشريةِ المجردةِ عن الوجاهةِ الإلهيةِ هو سعيٌ خاسرٌ، يُودي بصاحبهِ إلى الكبرِ، وحبِّ الظهورِ، والبعدِ عن مقاييسِ الحقِّ. في حينِ أنَّ الوجاهةَ الشرعيةَ هي الغايةُ النبيلةُ التي نُدعى إليها، وهي التي ترفعُ العبدَ عندَ اللهِ تعالى في الدنيا والآخرةِ، كما دلّتْ على ذلكَ نصوصُ الكتابِ والعترةِ، ويمكن ذكر جملة من النتائج والتوصيات، وفق ما يلي:
أولاً: أهم النتائج:
1. التمييزُ جوهريٌ بينَ الوجاهةِ العرفيةِ المبنيةِ على معاييرَ دنيويةٍ زائلة، والوجاهةِ الشرعيةِ المستمدةِ من القربِ الإلهيِّ.
2. الآياتُ القرآنيةُ (آل عمران: 45، الأحزاب: 69) تُبرزُ أنَّ الوجاهةَ الحقيقيةَ هي "الوجاهةُ عندَ اللهِ تعالى"، وأنَّ الوجاهةَ الدنيويةَ الصادقةَ هي انعكاسٌ للوجاهةِ الإلهيةِ.
3. دعاءُ الإمامِ الباقرِ (عليه السلام) في زيارة عاشوراء "اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام" يُعدُّ غايةً عظيمةً في طلبِ الوجاهةِ المطلقةِ، ويُسلطُ الضوءَ على دورِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) كبابٍ عظيمٍ لنيلِ القربِ الإلهيِّ.
4. الصلاةُ المعراجيةُ، وحبُّ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) العمليُّ المبنيُّ على المعرفةِ، والارتباطُ بمسيرةِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) (إقامة المآتم والبكاء عليه)، هي من أقصرِ وأوضحِ وأفضلِ الطرقِ لتحصيلِ الوجاهةِ الشرعيةِ.
5. الابتلاءاتُ والغفلاتُ قد تكونُ سبباً لدخولِ الشيطانِ إلى النفسِ، ولكنَّ سرعةَ التنبّهِ والعودةِ إلى الرشدِ تُصحّحُ المسارَ.
ثانياً: التوصيات:
1. ضرورةُ نشرِ الوعيِ حولَ مفهومِ الوجاهةِ الشرعيةِ وأهميتِها، وتعميقِ الفهمِ بآثارِها الإيجابيةِ على الفردِ والمجتمعِ، وذلكَ من خلالِ المنابرِ الحوزويةِ والإعلاميةِ.
2. التركيزُ على التربيةِ العمليةِ في المساجدِ والحسينياتِ والمدارسِ، لغرسِ حبِّ إقامةِ الصلاةِ المعراجيةِ والالتزامِ بها كعمودٍ أساسيٍّ لتحصيلِ الوجاهةِ عند الله تعالى.
3. دعوةُ المؤمنينَ إلى تعميقِ معرفتهم بأهلِ البيتِ (عليهم السلام) لجعلِ حبّهم حباً عملياً يؤثرُ في سلوكِهم وأخلاقِهم، وليسَ مجردَ شعاراتٍ أو عواطف.
4. الاستفادةُ القصوى من المناسباتِ الدينيةِ، لا سيما محرمٍ وصفرَ، لتعزيزِ الارتباطِ بالإمامِ الحسينِ (عليه السلام)، وبيانِ أنَّ خدمتهُ والبكاءَ عليهِ ليسا فقط تعبيراً عن الحزنِ، بل هما بابٌ عظيمٌ للقربِ الإلهيِّ والوجاهةِ في الدنيا والآخرةِ.
5. الحثُّ على قراءةِ السيرِ العطرةِ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) وقصصِ العلماء والصالحين، لتقديمِ نماذجَ حيةٍ للوجاهةِ الشرعيةِ، تُلهمُ الأجيالَ وتُوَجهُهم نحو المطالبِ السامية.
قائمة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم.
زيارة عاشوراء.
دعاء الافتتاح.
الترمذي، محمد بن عيسى. سنن الترمذي. ج 5، ص 66.
المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار، ج 45، ص 55؛ 82؛ 196.
الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الطبري، ج 5، ص 452؛ 465.
ابن الأثير، عز الدين علي بن محمد. الكامل في التاريخ، ج 2، ص 572؛ 576.
الخوارزمي، موفق بن أحمد. مقتل الحسين. ج 2، ص 74.
الصدوق، محمد بن علي بن بابويه القمي. أمالي الصدوق. ص 139.
الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد. سير أعلام النبلاء. ج 3، ص 303.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat