أسلوب السرد في القصص القرآني رونق أسلوب.. وبديع نظم ح1
كريم شلال نعمه
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
كريم شلال نعمه

قد يتأثر أحدنا فيخفق فؤاده ويهتز، وقد تتساقط دموع عينيه بغزارة إذا قرأ قصة جميلة لأحد القصاصين أو الأدباء المبدعين، أو سمع حكاية معبرة من أحد الناس، أو مرّ على مشهد مؤثر من مشاهد الحياة الزاخرة، فكيف إذا كانت هذه القصة أو الحكاية أو المشهد في القرآن الكريم؛ أعظم كتاب في الوجود: (لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، وكيف إذا كان القاص وصاحب الحكاية وناقل المشهد هو الله رب العالمين، الخالق العظيم جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولذلك كانت القصة القرآنية دوحة باسقة الظلال، دانية الجنى، ذات أفنان مختلفة الثمار، عميقة الأصل، سامقة الفرع، لا ينتهي ظلها، ولا يذهب رونقها، فهي ذات ظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة. رونق أسلوب، وبديع نظم، وجمال صورة، عدا ما فيها من المواقف والتحاليل النفسية، في حين أن قصص القرآن والكتب السماوية حق وليست اختلاق، أو كما قال الكافرون في مهد الدعوة: أساطير الأولين.
وتأتي أهمية السرد في القص القرآني لتثبيت الفؤاد واخذ النصيحة، والقصص القرآني والأسلوب الإلهي في السرد، يأتي على قدر علمي، وقد أكون مخطئاً والله أعلم حيث لم يرد في سرد متسلسل للقصة الواحدة إلا في سورة سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما باقي القصص، فوردت لقطات وصور متفرقة في سور عديدة، وأسلوب السرد في القصص القرآني مشوق وموحي يجذب القارئ أو المستمع للقصة للمتابعة، فتترك فيه الأثر المراد، وكما يقول (والتر الن): (هي أكثر الأنواع الأدبية فعالية في عصرنا الحديث بالنسبة للوعي الأخلاقي؛ ذلك لأنها تجذب القارئ لتدمجه في الحياة المثلى التي يتصورها الكاتب، كما تدعوه ليضع خلائقه تحت الاختبار إلى جانب أنها تهبنا من المعرفة ما لا يقدر على هبته أي نوع أدبي سواها، وتبسط أمامنا الحياة في سعة وامتداد وعمق وتنوع)، ولذلك، كانت القصة ولا تزال مدخلا طبيعيا يدخل منه أصحاب الرسالات والدعوات، والهداة، والقادة، الى الناس والى عقولهم وقلوبهم، ليقوا فيها بما يريدون عليه من آراء، ومعتقدات وأعمال، "ولقد أصبحت الفنون كلها اليوم من وراء القصة".
والقصة: لغة: جاءت من كلمة / قص / وهذه الكلمة أصلها اللغوي تدل على التتبع لأمر ما، ومنه قوله تعالى: (فَارتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) ومنه القص: بمعنى ذكر الحوادث والوقائع السابقة لأن القاص يتتبعها في الحديث، يقول تعالى في سورة الكهف: (نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدناهُمْ هُدىً) ومن استعمال هذه المادة قوله تعالى على لسان يعقوب: (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيداً)، أما عند الأدباء فالقصة حكاية تروي نثرا وجها من وجوه النشاط والحركة في حياة الإنسان، وتقسم القصة إلى عدة أقسام، فهناك القصة الواقعية والقصة التاريخية والسياسية والقصة الأسطورية... ومن ذلك استحوذت القصة على فكر كثير من الأدباء والمفكرين وأدلى كل واحد بدلوه فيما يتعلق بها، ودار حولها حديث كثير، ويأتي مفهوم القص أو القصة بمعنى الخبر يقتطع من سياق الحديث اقتطاعاً، كما يقتطع من سياق الأحداث المتصلة في الحياة المحيطة لأهميته وطرافته لكل من المتحدث والسامع، والمحاور الثلاثة التي يدور حولها المعنى وهي (القطع، والخبر، وتتبع الأثر) وتعد الأساس في فن القصة، حيث تقوم على القطع أصلاً أي: اختيار الحدث، أو الأحداث الصالحة، وفصلها عن سياق الأحداث الحياتية الأخر، ثم يتتبع القاص أثر هذا الحدث ويستقصيه، ويحاول الإلمام بكل تفاصيله لإمكانية تصويره، ثم الإخبار والإبلاغ به، بمعنى نقله إلى المتلقي قارئاً كان أو سامعاً، ومن الناحية الاصطلاحية، فالمفهوم الفني الأدبي لفن القصة في أبسط صوره وبعيداً عن المصطلحات المعقدة فيلخص في قولنا: إن القصة عبارة عن مجموعة من الأحداث الجزئية التي تقع في الحياة اليومية للمجتمع مرتبطة ومنظمة على وجه خاص، وفي إطار خاص، بحيث تمثل بعض جوانب الحياة وتجلوها في شتى وجوهها، بغرض الوصول من خلال الوعي الكامل بالأحداث، والظروف الاجتماعية إلى الحقائق الإنسانية، مع عدم إغفال الحرص التام على جانب التسلية والإتباع، وجانب التثقيف والتهذيب. والقصة بهذين المفهومين: اللغوي والاصطلاحي يقوم بنيانها، وتشكيل هيئتها على عدة عناصر رئيسة لا يمكن إغفالها وهي:
أولاً: الحدث أو الأحداث، وهذا العنصر هو الأساس في القصة، الذي تبنى عليه، بل هو صلب الحكاية أو ما يسمى بالمتن القصصي.
ثانياً: الشخصيات، وهذا العنصر تدور الأحداث من خلاله، سواء وقعت منه أو عليه.
ثالثاً: البيئة الزمانية والمكانية، فلابد لكل حدث من شخص أو أشخاص يوقعونه، حسب القاعدة التي تقول: (كل حدث لابد له من محدث).
علي الخباز, [25/07/2025 12:07 ص]
رابعاً: الحبكة القصصية: ويقصد بها منهج الكاتب في عرض أحداث قصته، والخطة التي يتحرك أبطال قصته على أساسها، وطريقة تنظيم كل ذلك.
خامساً: الحوار، وهو ما يحدث بين أشخاص القصة تعبيراً عن جانب من الأحداث والتفاعلات، بحيث يكشف عن الجوانب النفسية للأشخاص، ويفلسف الواقعات، سواء تم ذلك من خلال المشافهة بين أبطال القصة وشخوصها.
سادساً: أسلوب القاص وطريقة عرضه، وهذا عنصر شديد الأهمية لأن الأسلوب إذا كان ركيكاً مفككاً جاءت القصة مهلهلة النسج، غامضة المعاني وكذلك طريقة العرض إذا لم تكن جيدة منظمة، جاءت الأحداث مختلطة متداخلة لا تغري القارئ بالمتابعة المستمرة، وسرعان ما يصاب بالملل لكثرة ما سيلقاه من تعقيدات وغموض بسبب هذا الخلط والتداخل.
ويدور نقاش طويل بين النقاد حول قدم الفن القصصي عند العرب، حيث يذهب (احمد حسن الزيات) إلى القول: (... وهم أشد الناس اختصاراً للقول، وأقلهم تعمقاً في البحث، وقد قل تعرضهم للأسفار البعيدة، والأخطار الشديدة، وحرمتهم طبيعة أرضهم، وبساطة دينهم، وضيق خيالهم، واعتقادهم بوحدانية إلههم كثرة الأساطير، وهي من أغزر ينابيع القصص)، أما فاروق خورشيد فيرى: (إن هذا الفن نوع من أنواع النثر، والفن الكتابي أو النثر الفني ظل في حكم العدم في زمن الجاهلية وصدر الإسلام حتى آخر الدولة الأموية، حين وضع ابن المقفع الفارسي مناهج النثر، وفكر في تدوين شيء من القصص).
أما الأستاذ (يحيى حقي) فهو من الذين جردوا أدبنا القديم من فن القصة، حيث ذهب إلى أن القصة العربية نشأت تحت التأثير الأوروبي، فقد حملت الرياح التي تهب من أوروبا بذرة غربية على المجتمع العربي، بذرة القصة، كما ذهب إلى أن ما يحويه التراث العربي من قصص على شكل سير وأخبار ومقامات ما هو إلا فتات فني تنقصه الوحدة. أما (بطرس البستاني) فأضطرب في رأيه حول جذور الفن القصصي، بعدما ناقض نفسه بعد كلمات قليلة من قوله هذا حيث قال: (ثم كان عصر الانحطاط، فانحدرت القصة انحداراً مشؤوماً، وآلت لغتها إلى العامية، أو ما يشبه العامية، وأصبحت عبارة عن تعداد حوادث خارقة يشترك فيها الإنس والجن، ولا تصور في أكثر وجوهها الحياة الطبيعية التي يحياها الإنسان. على أنه ما انتشرت الثقافة الغربية في القرن الفائت (أي في القرن التاسع عشر)، واطلع الكتاب على القصص الأعجمية حتى أكبوا على نقلها). فأي قصص هذه التي انحدرت انحداراً مشؤوماً قبل القرن الفائت كما يقول؟ إنها بلا شك قصص عربية قديمة وجدت في أدبنا العربي، وأصابها ما أصاب الأدب على وجه العموم شعره ونثره من انحطاط.. وهو بهذا ينقض ما قرره آنفاً بشأن عدم وجود قصص في أدبنا العربي القديم !
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat