عاشوراء الحسين أولى بالإحياء من أوهام الظالمين (5)
محمد الرصافي المقداد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الرصافي المقداد

البكاء حالة من تجليات النفس البشرية لأصل خلقتها، محتاجة في تصريف شؤون حياتها إلى من يذكّرها بقيمها وأسباب وجودها، وندرك عندما نقرأ فيما جاءنا من قصص الأنبياء، عن نزول نبي الله آدم إلى الأرض وحيرته وبكاؤه، وما لاقاه نبيّ الله نوح من قومه من عنت وتجاهل، ما دفع به إلى النّوح عليهم، أسفا على ما فرطوا فيه من دعوة حق، لأجل ذلك لُقّب بنوحٍ، والبشرية طوال مسيرتها المضنية بحاجة أكيدة إلى من يرشدها إلى الحق، فكان صفوة الله في كلّ أمّة من أوكلت إليهم مهمة هدايتهم إلى اتباع الأولى والأصلح، ولولا أولئك المصطفين الأخيار لأندرست معالم الأديان، وذهب بها بعيدا أولياء الشيطان.
تعابير الحزن قلبيّة محضة، رسمت في ظاهرها حالة القلب التي انتابته من حزن، ولا ملجأ لها ولا وسيلة غير لغة المناجاة والبكاء، تعابير القلوب الحيّة، إن العنوان الذي كان يجب أن تحافظ عليه البشرية على مدى الدهر، هو البكاء على هذا الامتحان الكبير الذي خاضته ولا تزال تخوضه، في غفلة من الإحساس بخطورته وأهميته، والحزن على كل فرصة ضيعتها في جنب الله تعالى، والحداد على كل لحظة مرت سُدى، بلا توجه إلى الله تعالى، لا تدري نفس إلى أي مصير ستؤول إليه، والى أي منقلب ستنقلب فيه؟
هذا ولم يذمّ الله في وحيه الحزن ولا المحزونين، ذلك أنّ الحزن شعور انساني نابع من القلب، محمود فقط في حال الأسف والأسى، على فوت أمر فيه مرضاة الله سبحانه، ففي شخص خليل الله أبراهيم عليه السلام، ذكر أنّه أوّاه (إنّ ابراهيم لأوّاه حليم) (1) بمعنى أن نبيّ الله المقرّب كان كثير التأوّه، وأوه فلان تأوها قال: آه آه آه تعبيرا عن وجع أو شكوى من ألم أو مرض أو نحوهما، وتأوّه أبراهيم عليه السلام كان نابعا من اشفاقه على من أخذتهم شقوتهم في عناده، فلم ينهه الله عن ذلك التأوّه بل وصفه بالحلم، وهذا يؤكّد على أنّ الله يحبّ التعابير الإنسانية، المتّسمة باللطف والحلم والشفقة على باقي البشر.
لأجل ذلك أمتدح الله تعالى المحزونين البكائين في عدد من آيات كتابه، فقال جل من قائل:﴿فخروا سجدا وبكيا﴾ (2) حتى أنّ السماء والأرض أعطاهما الله سبحانه خاصية الشعور بمآسي البشر تفاعلا معهم: ﴿فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين﴾ (3) ونبي الله يعقوب كان مؤمنا ﴿وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم﴾ (4) وفيه دلالة على جواز التعبير بالحزن على أمر مهمّ فقده الشخص، مع أن
الحزن على الامام الحسين عليه السلام كقيمة انسانية رفيعة، لا يجب أن تتعنون بالعنوان الطائفي وحده، فذلك حدّ من عالميته، التي يجب أن تتجاوز ذلك الإطار الضيق، الذي وضعت فيه إحياءات شعائر ثورته، والحسين أكبر شأنا في عالميته من (ارنستو تشي غيفارا)، رجل الثورة في امريكا اللاتينية والعالم، ولو كان (تشي) زمن الامام الحسين عليه السلام موجودا، أو كان مطّلعا على ثورته الإصلاحية العظيمة، لكان حسينيا دون شك، لذلك يجب علينا نقل الصورة الواقعية، لمسيرة الامام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، منذ انطلاقها إلى نهاية مطافها، مع ملازمة الحديث عن أهدافها وقيمها العليا في التغيير، هكذا نكون قد وفّيناه حقّه، وقدمنا الاسلام المحمّدي الأصيل، الذي ثار من أجل إعادة جوهره، المغيّب عمدا من طرف أعدائه.
إن آلام البشرية اليوم، وهي على مشرحة بني جنسها، من الطغاة والجبابرة والظالمين، من ناهبي لقم عيشها، وسارقي آمالها في العيش الكريم، والعبث بمصائرها في حسن التوجّه إلى الله، تتطلب منا أن نبحث في عمق التاريخ ما نتخذه عبرة، وننظر في حاضرنا ما ينقصنا منه، والمحزونين دائما هم الوجِلون من سوء العاقبة، الذين تحملهم حالات حزنهم إلى حمل نبض قلوبهم على وقع حادثة كربلاء وما أدراك ما كربلاء أبي عبد الله الحسين، هو محرار قيمة حياة العزّة والإباء، ولا قيمة لحياة مسلم ليس فيها من أبي الأحرار مستمسك رفض للظلم والظالمين.
أول من حزن وبكى على الحسين عليه السلام
لا شكّ أن النبي صلى الله عليه وآله حزن على ابنه الحسين لما علم بما سيجري عليه في كربلاء، فقط بكاه قبل أن تقع الحادثة بعقود من الزمن، وكان تعبيرا طبيعيا صدر منه أسفا على ما سيلاقيه من أمّته، وقد دوّن ذلك الحفاظ الحادثة في دلالة على وقوعها فقد جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ فِي بَيْتِي قَالَ: " لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدٌ ". فَانْتَظَرْتُ فَدَخَلَ الْحُسَيْنُ، فَسَمِعْتُ نَشِيجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِي، فَاطَّلَعْتُ فَإِذَا حُسَيْنٌ فِي حِجْرِهِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ حِينَ دَخَلَ، فَقَالَ: " إِنَّ جِبْرِيلَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مَعَنَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَتُحِبُّهُ؟ قُلْتُ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَنَعَمْ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ سَتَقْتُلَ هَذَا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: كَرْبَلَاءُ، فَتَنَاوَلَ جِبْرِيلُ مِنْ تُرْبَتِهَا ". فَأَرَاهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (4)
روى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين عن " سلمى قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَبْكِي وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ التُّرَابُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: شَهِدْتُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ آنِفًا. (5)
علي يؤكد الخبر:
عن عبد الله بن نجا عن أبيه: أنه سار مع عليّ (عليه السلام)، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، نادى: «صبراً أبا عبد الله، صبراً أبا عبد الله بشط الفرات»، قال: قلت: وما ذاك؟ قال: «دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: قام من عندي جبرئيل قبل، فحدثني أن ولدي الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أشمّك من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني إن فاضتا. (6)
وأخرج ابن سعد ـ كما في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة لابن حجر(2) ـ عن الشعبي، قال: مرّ علي (رضي الله عنه) بكربلاء عند مسيره إلى صفين، وحاذى نينوى، فوقف وسأل عن اسم الارض؟ فقيل: كربلاء، فبكى حتى بلّ الارض من دموعه، ثم قال: «دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك ـ بأبي أنت وأمي ـ؟ قال: كان عندي جبرائيل آنفاً، وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات، بموضع يقال له كربلاء. (7)
وروى الماوردي الشافعي ـ في باب إنذار النبي (صلى الله عليه وآله) بما سيحدث بعده(الصواعق المحرقة 2 / 564 و 565)، من كتابه أعلام النبوة ـ عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل الحسين بن علي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يوحى إليه، فقال جبرائيل: إن أُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء، وقال: في هذه يقتل ابنك، اسمها الطف، قال: فلما ذهب جبرائيل، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى أصحابه والتربة بيده ـ وفيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وحذيفة، وعثمان، وأبو ذر ـ وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: «أخبرني جبرائيل: أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أنّ فيها مضجعه.(8)
عمل قام به النبي صلى الله عليه وآله قبل أن تحصل مأساة أهل بيته، عبّر فيه عن أساه وحزنه على ما سيجري عليهم، سُنّة أجراها في حياته كلما رأى ابنه الحسين أمامه، وكلّما تفكر خبر الوحي بشأنه، أفلا يجدُر بنا أن نقتدي به فيها، ونعمل بصدق على مواساته في فجيعته التي أصيب بها في العاشر من محرم سنة 61 هجرية، تأكيدا على فريضة مودّة قرباه، التي فرضها الله سبحانه على أمّته، أجرا لجهوده التي بذلها من أجل هدايتها، فعلى من فهم هذه الفريضة أن يعمل على حسن أدائها، وعلى من لم يفهمها أن لا ينخرط في طابور من أنكرها وعمل على تشويهها.
المراجع
1 – سورة التوبة الآية 114
2 – سورة مريم الآية 58
3 – سورة الدخان الآية 29
4 – سورة يوسف الآية 84
4 – مجمع الزائد ابن حجر الهيثمي ج 9 ص189ح 15116/ مسند احمد مسند انس ج21ص173ح13539
5 – المستدرك على الصحيحين الحاكم النيسابوري ج 4ص20ح 6764
6 – الصواعق المحرقة ابن حجر 2 / 566/ مسند أبي يعلى ح363/ مسند البزار ح 884/ذخائر العقبى في منقب ذوي القربى للمحب الطبري ص 148/ المعجم الكبير الطبراني ح 2811/ مجمع الزوائد ج 9 ص 187 وقال: رجاله ثقات/ سير أعلام النبلاء 3ج ص 288/مسند أحمد بن حنبل مسند علي بن أبي طالب ج2ص77ح648
7 – الصواعق المحرقة ابن حجر ج 2 ص 566/ المعجم الكبير للطبراني ح2811/ مجمع الزوائد الهيثمي ج 9ص187 وقال: رجاله ثقات
8 – سنن الترمذي ح3774/ الصواعق المحرقة ابن حجر ج 2 ص 567/ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى محب الطبري ص 148 مسند أحمد بن حنبل حديث ابن عباس ج2 ص283
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat