دوافعُ الانسلاخ عن الهوية والذات الجمعية... من الطمع إلى الجرح
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

لا يوجد إنسانٌ سويٌّ على وجه المعمورة لا يحب وطنه وأهله وبيته وأبناء جلدته، إلا من كان مريض النفس، منحرف الفكر، معوجَّ السيرة، ملوَّث الفطرة.
وفي تراثنا العربي، يُوصَف من ينسلخ عن قومه ويهجر أهله ويلتحق بجماعاتٍ غريبة أو يعلن الولاء لقبائل لا صلة له بها، بأوصاف مهينة كـ"الدعي"، و"اللصيق"، و"الهجين"، و"المولى"، و"الجراش"، و"الدخيل"، و"عديم الأصل والفصل"... ؛ وهو ما عبّر عنه المثل الشعبي المصري ببلاغة: "اللي يخرج من داره، يقل مقداره".
فما بالك بمن يهجر أهله وإخوانه وقومه، أو ينسلخ عن وطنه وهويته بكل ما فيها من انتماءٍ وجذور؟
نعم، التحوُّل الفكري المشروع شيء، أما الانسلاخ والخيانة بدافع الطمع أو الخوف أو الانتقام، فشيء آخر تمامًا.
إن معشر "الدونية" – أولئك الذين سلكوا درب الخيانة والعمالة والارتزاق والتملق للعدو والتبعية للغريب – تدفعهم إلى ذلك ثلاثة دوافع رئيسية:
1. الطمع والارتزاق:
يبيع هؤلاء ضمائرهم وأهلهم لقاء مال أو منصب أو مصلحة ، فيصيرون أدوات طيّعة بأيدي الطغاة والمستعمرين والأجانب والدخلاء والاعداء ... ؛ وهؤلاء لا يُؤمن جانبهم، حتى لو عادوا مؤقتًا إلى صفوف الأغلبية أو إلى حضن الوطن، لأن دينهم هو الدينار والدرهم، ولا مبدأ لهم سواه... ؛ فمتى ما توقفت مكافأة الأعداء، عادوا لأهلهم، وحين يُستأنف الدفع، انقلبوا عليهم ثانية... ؛ وتحت ذرائع جديدة، يظنون أنها تنطلي على السذج والبسطاء.
2. الخوف والجبن:
يفرّون من المواجهة، ويبحثون عن حماية الأقوياء – حتى لو كانوا أعداءً – فيذلون أنفسهم طلبًا لأمانٍ وهمي... ؛ وقد يصبحون سيوفًا بيد أعدائهم ضد إخوتهم، ويتحوّلون إلى سياط تعذيب تُلهب ظهور أهلهم... ؛ فالخوف أعمى بصيرتهم، والرهبة أماتت ضمائرهم.
إنهم يعلمون يقينًا أن الأغلبية العراقية الأصيلة ترحم ولا تعذّب، ولا تقتل لمجرد الاختلاف، بينما يعلمون في الوقت ذاته أن بعض الجماعات الهجينة، والطائفيين والتكفيريين من ابناء الطائفة السنّية الكريمة ، و شراذم القوميين ، والبعثيين، والصداميين ومن لفّ لفّهم لا يرحمون صغيرًا أو كبيرًا، وإذا بطشوا بطشوا بطشة جبار منتقم.
لذا ترى شراذم "الدونية" يرتجفون من هؤلاء الأوغاد، بينما يتظاهرون بالبطولات المزيفة والعنتريات الفارغة على أبناء جلدتهم وفي القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي .
كلابٌ للأجانب هم، ولكن... على أهلهم أسود!
3. العُقَد النفسية والجروح الاجتماعية:
هنا تكمن الدراما الإنسانية الأشد مرارة... ؛ فمن تعرّض لظلم قاسٍ أو خيانة من بني جلدته، يُصاب أحيانًا بما يشبه "عقدة الخيانة المعكوسة"، فينقلب حبه المنكسر إلى حقدٍ أعمى على الجميع بلا تمييز... ؛ويهرب إلى أحضان الغرباء – الذين قد يكونون أشد كرهًا له من قومه – طلبًا للاعتراف أو الانتقام... ؛ لكنه يسقط في فخّ الاستغلال، وتُعمي "غشاوة الإسقاط النفسي" عينيه، فلا يرى أنه في نظرهم مجرد أداة رخيصة، أو كلب عقور، يُستخدم ضد أهله، ثم يُلقى في القمامة متى ما انتهت الحاجة إليه.
ولذا كنت وما زلت ضد كل أشكال الانتقام والثأر والتصفيات الجسدية داخل صفوف المكوِّن الأكبر، لأني أعلم جيدًا تداعياتها الكارثية... ؛ فمن قُتل له أب أو أم أو أخ أو صديق أو قريب، لن يغفر للقاتل فعلته، حتى لو انتمى لجيش الإمام علي ، فضلًا عن انتماءه لهذه الأحزاب والشخصيات السياسية والحركات والفصائل الإسلامية والعشائر والقبائل العراقية .
لقد تعامل الساسة الأكراد – رغم كل المآخذ – بذكاء مع البعثيين الكرد، فلم يطاردوهم أو يقصوهم أو يقتلوهم، رغم الفوارق الشاسعة بينهم وبين بعثية الاغلبية ، بينما وصل الأمر ببعض التيارات الشيعية إلى تصفية رجال الشرطة والجيش من أبناء جلدتهم , والذين انخرطوا في الحكومات الجديدة بعد عام 2003 ؛ فضلا عن عمليات اقامة الحدود الدينية بحق الزاني والزانية وشارب الخمر وغيرهم !
النتيجة المأساوية : بيوت امتلأت بالنوائح والفواجع ، وأزقة عجّت بالثكالى، ومدن اختنقت بالأرامل والأيتام... ؛ اذ لا يكاد بيت يخلو من شهيد أو قتيل... ؛ فانتشر الحقد والاحتقان الاجتماعي ، وتعاظم طلب الثأر، حتى ولو بعد حين... ؛ ولعل انتفاضة او حراك او ثورة تشرين مثال صارخ على ما نقول... ؛ لهذا ترى الحكماء والساسة الوطنيين والقادة الدينيين والاجتماعيين وشيوخ العشائر، يتفادون سفك الدم، ويسعون لحل النزاعات بالحكمة والموعظة الحسنة، لما علموا أن الدم لا يولد إلا الدم.
وقد تتبعت طروحات العديد من المدونين والنشطاء والكتاب من أبناء الأغلبية المحسوبين على "الدونية"، فوجدت أن أغلبهم يحمل جرحًا قديمًا :إما تعرض للإهانة في محيطه، أو أُهمل من قِبل حكومته وأحزابه ومؤسساته والمحسوبة على الاغلبية ، أو جُرِح من بيئته، فلجأ إلى المكونات الأخرى طلبًا للشعور بالأهمية والانتصار الذاتي.
ومهما اختلفت الدوافع والاسباب ...؛ فإن النتيجة واحدة: هجر الأهل، والتنكر للأصل، والبراءة من التاريخ، والانخراط في صفوف الأعداء ضد الوطن... ؛ فتراه يسفّه منجزات الأغلبية، ويحقّر رموزها، ويمتدح الآخرين، بل ويبرر أخطاءهم ويغضّ الطرف عن جرائمهم!
والمفارقة المؤلمة أن الخائن قد يصبح أشدَّ بغضًا لأهله من العدو نفسه...!!
ومع كل الدروس التاريخية التي سجلت سقوط الخونة والمتملقين والمرتزقة سقوطًا مدويًا...؛ يبقى "الدوني" أسيرَ جرحه أو طمعه أو وهمه، لا يعتبر ولا يتّعظ...؛ فمهما تملّق للأعداء، ومهما تشبّث بأهدابهم ... ؛ يبقى في أعينهم مجرد "كلب أجرب"، أو "أداة مستهلكة"... ؛ يُرمى بها إلى الهامش متى ما انتهت مهمتها .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat