*مقدّمة:
ليس الزمن خطًّا مستقيمًا نمشي عليه، بل نهرٌ خفيّ يجري في داخلنا دون أن نلحظ انسيابه وتدفقه ... ؛ و نغفل عنه ونحن نضحك ... ؛ ننساه ونحن نغضب، ونكتشفه متأخرين حين يغدو الرماد مرآتنا... ؛ فالحياة ليست بطولها، بل بعمقها، ولا تقاس بالسنوات، بل باللحظات التي وعيناها بكامل حضورنا.
نعم : إن جوهر الحياة لا يُقاس بطولها بل بكثافتها، ولا تُدرك قيمتها إلا حين تهمّ بالانفلات من بين أصابعنا كحبة رمل عنيدة... ؛ إن الحياة، في حقيقتها، ليست سوى ومضة في ليل أزلي، ومضة يُخفيها الضوء بقدر ما يكشفها... ؛ فالعمر سلسلة من اللحظات المحدودة، تتناقص بثبات مثل شمعة تحترق في صمت، وكل ثانية تنقضي إنما هي جزء من وجودٍ لن يعود، قطعة من الذات تسقط في بئر العدم.
* أولًا: العمر... رأسمال الإنسان الوحيد / رأس المال الزائل: سريالية العدم واللحظة
إن قيمة الحياة تكمن في قِصرها، في محدوديتها، في كونها زمنًا متناقصًا لا يُستعاد... ؛ فالعمر ليس سوى كومة من الساعات والدقائق والثواني التي تتساقط تباعًا، ولا يمكن لأحدٍ أن يوقف نزيفها.
الإنسان في العادة لا يشعر بقيمة الدقيقة، ولا يعبأ بذهاب الأيام، لكنه حين يقترب من حافة الفناء يبدأ بتقديس الثانية كما يقدّس العطشان قطرة الماء... ؛ عندها يدرك متأخرًا أن رأسماله الحقيقي لم يكن مالًا ولا سلطة، بل الوقت نفسه، ذاك الكنز الذي أضاعه وهو يبحث عن كنوزٍ أخرى...!!
نعم : في الأحوال العادية، يعيش الإنسان كأنه خالد، يبدّد أيامه كما يبدّد الطفل فقاعات الهواء، لا يشعر بثقل الزمن إلا حين يوشك على الرحيل... ؛ يمضي السنين وكأنها لا تعنيه، يركض خلف أحلامٍ لا يدري إن كانت تستحق الركض، ويؤجل الحياة ليومٍ لم يُخلق بعد... ؛ ولكن حين يلامس وجه الموت، حين يشعر بأن أنفاسه تُعدّ كما تُعدّ حبات المطر الأخيرة في صحراء يابسة، يتحوّل الزمن عنده إلى معجزة صغيرة... ؛ تصبح الدقيقة أثمن من الذهب، والساعة أوسع من مجرّة، واليوم حياةً كاملة تُختصر في لحظة واحدة من الإدراك.
عندها فقط يفهم أن الثروة الوحيدة التي مُنحت له هي الزمن... ؛ ليس المال، ولا المجد، ولا السلطة، بل تلك الساعات التي تذوب بين يديه دون أن يشعر... ؛ إن الزمن هو جوهر الوجود، هو المقياس الحقيقي للحياة، فمن يفقده يفقد ذاته، ومن يهدره يهدر معنى وجوده بأكمله... ؛ حين تنتهي الساعة الأخيرة، يعود المرء إلى صمت العدم، إلى حيث لا "أنا" ولا "هو"، إلى النقطة التي بدأ منها كل شيء.
نعم : من هنا ندرك أن رأس مال الإنسان الجوهري ليس المال ولا المجد ولا السلطة والنفوذ ، بل العمر فقط... ؛ إنه العملة الوحيدة في سوق الوجود... ؛ وهو يساوق الحياة ذاتها، وبغيابه يتحول الإنسان إلى ذكرى، إلى ظلٍّ في متحف الذاكرة، ثم يعود إلى دوامة العدم التي جاء منها.
ليست الحياة سوى حلم سريالي يطارده شبح الزمن... ؛ فقيمتها لا تكمن في طولها، بل في قصرها المُطلق، في سرعتها الهاربة كظلٍّ تحت أقدامنا... ؛ إنها لوحة سوريالية مرسومة بألوان المحدودية والعدم... ؛ فالعمر - ذلك الكائن الغريب - ليس سوى زمنٍ مُقدَّرٍ يُقاس بقطعٍ متتالية: سنوات تشبه أحلاماً طويلة، وشهوراً كالكوابيس المتكررة، وأياماً تذوب كما قطرات المطر على زجاج النافذة.
يجب على الإنسان أن يهتم بأصغر أجزاء هذا الحلم... ؛ فاللحظة - تلك الوحدة الزمنية المجنونة - هي حجر الأساس في صرح وجودنا الهش... ؛ إنها الجوهرة المضيئة في بحر من الظلام... ؛ فالثانية والدقيقة والساعة، إذا غادرت مسرح الوجود، لن تعود أبداً، كطيور سوداء تحلق نحو مجهول لا نهاية له.
* ثانيًا: الإدراك عند حدود الموت
حين يواجه الإنسان لحظة النهاية، تتكشّف له أسرار الزمن كلها... ؛ اذ تصبح الساعة حياةً كاملة، واليوم كونًا بأسره... ؛ هناك، عند خطّ الموت الفاصل، يتجلى الزمن لا كشيء خارجي، بل ككائن حيّ كان يسكنه طوال حياته.
في تلك اللحظات، يكتشف الإنسان أنه لم يعش بما فيه الكفاية، بل مرّ عبر الأيام كما يمرّ الغريب في مدنٍ لا يعرف أسماءها... ؛ فيتمنى لو يعود ليعيش ثانيةً واحدة بوعيٍ كامل، لكنه لا يعود، لأن الزمن لا يلتفت إلى الخلف أبدًا.
نعم : في الأحوال العادية، يسير الإنسان كالنائم في متاهة الحياة... ؛ لا يكترث لضياع الساعات والأيام، كأنه بطل في مسرحية لا يعرف حبكتها... ؛ لكنه حين يُواجه بالموت - سواءً كان حكماً بالإعدام أو مرضاً عضالاً خطيرا - تتحول اللحظة إلى أبد، واليوم إلى قرن... ؛ فيصبح اليوم كالأسبوع، والأسبوع كالشهر، والشهر كالسنة... ؛ إنها المفارقة الوجودية: لا ندرك قيمة الشيء إلا عندما يصبح على حافة الاختفاء والفناء ...!!
* ثالثًا: لا ماضي يُستعاد ولا غد يُضمن
الماضي مقبرة اللحظات، والغد وعدٌ مجهول... ؛ من ينفق حاضره في البكاء على ما مضى أو في الترقب لما سيأتي، إنما يقتل يومه بيديه.
اليوم هو كل ما تملكه، وهو جوهر وجودك الفعلي... ؛ عش لحظتك كما لو كانت آخر ما تبقّى لك في هذا العالم، لا لأنك تميل إلى التشاؤم، بل لأنك تدرك عمق الحقيقة: أن الوجود لا يُقاس بالزمن الذي مرّ، بل بالوعي الذي يُنيره.
نعم : لا تلتفت إلى الماضي - فالأيام الماضية لن تعود، كحلم انتهى بمجرد الاستيقاظ... ؛ و الندم لا يجدي نفعا ، فهو كمن يحاول إمساك الماء بين أصابعه... ؛ وكذلك لا تفسد حاضرك خوفاً من مستقبل قد لا يأتي... ؛ فربما لا تكون من أهل الغد، وربما يكون الغد نفسه مجرد وهم في مخيلتنا.
رأس مالَك الحقيقي هو هذه اللحظة بالذات، هذه النقطة الواقعة بين ماضٍ مات ومستقبل لم يولد بعد... ؛ فلا تشوّهها بحسرات الأمس ولا بهواجس الغد... ؛ عِشْ كفنان سريالي يرسم على جدار الزمن، مدركاً أن كل ضربة فرشاة هي جزء من لوحة وجودك الفريدة، التي ستزول حتماً، لكن جمالها يكمن في زوالها نفسه.
* رابعًا: الزمن يسكننا لا يمرّ بنا
الزمن ليس عجلة تدور حولنا، بل نبض يسكننا... ؛ إنه يختبئ في تنفّسنا، في أفكارنا، في نظرة الحنين حين نسترجع لحظة جميلة غابت ولن تعود.
كل ثانية تُهدر في الحزن على الماضي أو في انتظار المستقبل، هي حياةٌ تموت دون أن تُدفن... ؛ والمأساة الكبرى ليست في الموت ذاته ، بل في أننا لا نعيش قبل أن نموت.
لهذا، لا تلتفت إلى الوراء، فالماضي مقبرة اللحظات، لا يحييها ندم ولا تستعيدها ذاكرة... ؛ ولا تُرهق نفسك بالغد، فهو وعدٌ غامض لا يملكه أحد... ؛ عش يومك كما لو كان عمرك كله، وامنح لحظتك كل وعيك، فهي وحدها الحقيقة التي تملكها الآن.
فالزمن ليس ما يمضي خارجك، بل ما ينساب فيك... ؛ هو نبضك، أنفاسك، أفكارك، دموعك وضحكتك... ؛ وكل لحظة تهدرها في الحنين أو الترقب، إنما هي حياةٌ تموت دون أن تُدفن.
* خامسًا: المقطع السريالي – حوار الإنسان والزمن
في لحظةٍ غريبة من الصمت، حين توقفت عقارب الساعة عن الدوران، وجد الإنسان نفسه في فضاءٍ أبيض لا ظلّ فيه ولا جهة , في فراغٍ لا لون له لا طعم ، لا ليل فيه ولا نهار ... ؛ ومن قلب الفراغ انبعث صوتٌ لا يُشبه الأصوات ؛ ، صوتٌ يعرفه دون أن يسمعه من قبل :
قال الإنسان بخوفٍ ودهشة:
ـ من أنت؟
أجاب الصوت بطمأنينةٍ عميقة:
ـ أنا الزمن الذي كنت تهدره، وأنا أحيا فيك منذ ولادتك.
قال الإنسان مذهولًا:
ـ كنت أظنك تجري خارج حياتي، كنت أهرب منك كل يوم.
ابتسم الزمن وقال:
ـ بل كنت تهرب من نفسك، فأنا أنت حين تنسى أن تعيش.
سكت الإنسان قليلًا ثم سأل بصوتٍ مرتجف:
ـ هل تأخرتُ كثيرًا؟
قال الزمن وهو يتلاشى كالضوء في الماء:
ـ لم تتأخر، يا صديقي... أنت فقط لم تصل أبدًا.
وبقي الصدى في الفراغ يهمس كصلاةٍ مبللة بالدموع:
"من لا يعيش لحظته... يموت مرتين."


التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!