كتابات في الميزان
كتابات في الميزان

حين يتكرر المشهد: تكالب الأقليات السياسية على الأغلبية العراقية

في كل منعطف تاريخي أو أزمة سياسية يمر بها العراق، تتكشف حقائق كانت تُغطّيها المصالح المؤقتة والخطابات الدبلوماسية... ؛  واحدة من هذه الحقائق هي ظاهرة الاصطفاف الكردي–السني ضد المكون الشيعي كلما تعرّض العراق إلى ضغوط داخلية أو خارجية... ؛  وهي ظاهرة لا تعكس وعياً سياسياً رشيداً أو شراكة وطنية متوازنة، بقدر ما تكشف عن حسابات ضيقة وعُقد تاريخية دفينة، تتجلى في صورة توافق ضمني بين الطرفين على اعتبار الشيعة "الطرف الأضعف سياسياً" رغم كونهم الأغلبية العددية وصمام أمان العملية الديمقراطية.

نعم , من يقرأ تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد سقوط النظام البعثي الهجين عام 2003  , يلحظ ظاهرة غريبة تتكرر عند كل أزمة كبرى، داخلية كانت أم خارجية : اصطفاف القوى السياسية السنيّة والكردية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ضد المكوّن الشيعي الذي يمثل الأغلبية العراقية الأصيلة وحامل التجربة الديمقراطية الحديثة وراعي العملية السياسية الجديدة  بعد عام 2003... ؛  وكأن هذه القوى، بحساباتها الضيقة أو بارتباطاتها الإقليمية والدولية ، تجد نفسها في لحظة اندفاع أو فرصة ذهبية للضغط على الاغلبية العراقية ... ؛ فقد وضعت الشيعة في خانة "الخصم الأول" لا بوصفهم شركاء في الوطن، بل كعقبة أمام طموحاتها أو مشاريعها الخاصة...!

*بين المظلومية التاريخية والاستعلاء السياسي

لقد عاش الشيعة في العراق قروناً طويلة تحت التهميش والإقصاء، ومع ذلك لم يخرجوا عن دائرة الانتماء الوطني، بل كانوا دائماً في مقدمة من يضحون لأجل بقاء العراق دولة موحدة... ؛  لكن الغريب أن بعض القوى السنية والكردية، بمجرد أن تهبّ عاصفة إقليمية أو يظهر ضغط دولي، تبدأ بالتصرف باستعلاء سياسي، وكأنهم وحدهم الضحايا أو المهددون، وكأن العراق لا يقوم إلا بهم... ؛  فيرفعون سقف المطالب، ويطلقون تصريحات استفزازية، ويبشرون بتغييرات كبرى، متكئين على الخارج أو على أوهام القوة الذاتية، متناسين أن التجربة أثبتت عكس ذلك مراراً.

نعم , فما أن تتصاعد الأزمات الإقليمية والتهديدات الخارجية أو تتعقد الملفات الدولية، حتى يبدأ الخطاب السياسي الكردي والسني يتجه نحو التصعيد، وكأن العراق ملكية حصرية لهما، أو أن التهديدات لا تطال إلا مصالحهما أو تعتبرها اللحظة المناسبة لأخذ الثأر وتصفية الحسابات مع الاغلبية ...!!  

فنسمع خطاباً مليئاً بالفوقية والاستعلاء والطائفية والعنصرية القومية والمناطقية ... ؛  يتهم الأغلبية الشيعية بالهيمنة، ويتعامل مع وجودها وكأنه أمر طارئ ينبغي تقليصه أو التفاوض الدائم على حصته... ؛  بل إن بعض الشخصيات السنيّة والكردية لا تكتفي برفع المطالب، بل تمضي أبعد من ذلك إلى إطلاق تصريحات استفزازية، والتبشير بتغييرات محتملة، مستندة إلى ضغوط الخارج أو رهانات أنظمة الإقليم الحاقد .

الشيعة: الأخ الأكبر الذي يُستَضعف ويُستَغل

غير أن الواقع الميداني والتاريخي يقول عكس ذلك تماماً...   فالشيعة، على الرغم من حجم الظلم التاريخي الذي تعرضوا له، كانوا الأكثر حرصاً على وحدة العراق وصيانة كيانه... ؛  فحينما اجتاح تنظيم "داعش" الإرهابي مدن ومناطق السنة، كان أول من لبّى نداء القتال والتضحية هم أبناء الجنوب والوسط الشيعي ... ؛  والدماء التي سالت في الموصل والأنبار وصلاح الدين لم تكن دماءً كردية أو سنيّة بقدر ما كانت دماء أبناء الأغلبية الشيعية الذين قدموا أرواحهم دفاعاً عن العراق كلّه، لا عن طائفتهم وحدها.

نعم , حين اجتاح تنظيم داعش الإرهابي مدن السنة، لم يكن أبناء تلك المناطق هم من تصدوا له أولاً، بل الشيعة الذين استجابوا لنداء الوطن ، فحملوا السلاح، وقدموا أرواحهم، وحرروا الأرض التي لم تكن تخص مناطقهم حصراً... ؛  وفي الوقت ذاته، لو أن الخطر نفسه داهم مناطق الكرد، فهل كان بمقدور البيشمركة وحدها أن تصد جحافل الإرهاب من دون دعم شيعي عسكري وميداني؟ الواقع يجيب بالنفي... ؛ فإن التجربة تثبت أنهم عاجزون عن التصدي للخطر الخارجي بمفردهم، وسيكون الشيعة هم من يدفعون مجدداً فاتورة الدم لحماية الإخوة الكرد من الفناء أو الانكسار... ؛  لكن المشكلة ليست في العجز العسكري للكرد أو في الضعف السياسي للسنة، بل في العقلية المنكوسة التي تتعامل مع الشيعة باعتبارهم "الأخ الأكبر" الذي يجب ابتزازه أو اتهامه، بدلاً من الاعتراف بفضله ومركزيته في بقاء العراق دولة واحدة.

ومع ذلك، تصر بعض القيادات السنية والكردية على التعامل مع الشيعة باعتبارهم "خزان الدم" وقت الأزمات، و"خزان الشرعية" وقت التوافقات، ثم يتحولون إلى خصوم عند لحظات تقاسم النفوذ والمصالح... ؛  إنها ازدواجية سياسية تؤسس لحالة من الغبن التاريخي المستمر.

*تجربة الديمقراطية العراقية: بين المظلومية والاستحقاق

لقد منح الشيعة للسنة والكرد دوراً أكبر من حجمهم الديموغرافي في العملية السياسية بعد 2003، في محاولة لتأسيس شراكة وطنية متوازنة... ؛  لكنّ البعض أساء فهم هذه المرونة، واعتبرها ضعفاً يمكن ابتزازه... ؛  فأصبح الخطاب الكردي يتحدث عن "حق تقرير المصير" وكأن العراق مجرد محطة عابرة، بينما ظل الخطاب السني يتأرجح بين نزعة الانتقاص من النظام السياسي , وبين الرهان على الخارج لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء , او الدعوة للإقليم والانفصال .

لقد قدّم الشيعة مواقف تاريخية مشرّفة في دعم الكرد والسنة، سواء عبر الفتاوى الدينية العليا التي وقفت معهم في المحن، أو عبر المواقف السياسية التي منحتهم شراكة في العملية السياسية، رغم أن أوزانهم الديموغرافية لم تكن تعادل ثقل الأغلبية كما اسلفنا ... ؛  ومع ذلك، يتجاهل البعض هذه الحقائق، ويتعامل مع العملية الديمقراطية وكأنها "غنيمة" يتقاسمها مع الشيعة لا عقداً اجتماعياً وطنياً ينظم الجميع.

*ضرورة التوازن بين المرونة والقوة

من هنا، فإن التحدي الحقيقي أمام الشيعة اليوم لا يكمن فقط في إدارة الحكم أو تقديم الخدمات، بل في كيفية التعامل مع شركاء الوطن الذين يخطئون قراءة الواقع... ؛  لا بد أن يكون هناك توازن بين المرونة السياسية التي تُبقي الباب مفتوحاً للتفاهم، وبين استعراض عناصر القوة التي تذكّر الآخرين بأن الأغلبية قادرة على الحسم إذا اقتضت الضرورة... ؛  فالتجارب التاريخية تثبت أن الطرف الذي لا يلوّح بالقوة يُستَضعف، وأن الطرف الذي لا يذكّر بوزنه الحقيقي يُختَزل إلى مجرد أداة بيد الآخرين.

إن التجربة السياسية العراقية الحديثة أثبتت أن الشيعة – بما يملكون من تاريخ وتجربة وصبر – كانوا صمّام الأمان لبقاء الدولة، وأن عليهم أن يعوا حقيقة مهمة: لا بد من التلويح بعناصر القوة والقدرة كلما شعر الآخرون بإمكانية الانقلاب أو التمرد على الشراكة... ؛  فالمصالح لا تُصان بالخطابات والشعارات وحدها، وإنما بالتوازن الواضح بين المرونة من جهة، وإظهار القدرة على الحسم من جهة أخرى.

*احترام التاريخ المشترك

إن التاريخ العراقي يروي أن الشيعة لم يتخلوا عن إخوانهم، لا عن الكرد في لحظات الاضطهاد، ولا عن السنة في مواجهة الإرهاب... ؛  بل كانوا دائماً "الأخ الأكبر" الذي يُعطي أكثر مما يأخذ، ويضحي أكثر مما يطالب... ؛  وعلى بقية المكونات أن تعترف بهذه الحقيقة، وأن تدرك أن احترام الأغلبية ليس خياراً سياسياً قابلاً للتفاوض، بل واجب وطني وأخلاقي يضمن بقاء العراق موحداً وقادراً على مواجهة التحديات.

نعم , على المكونات الأخرى أن تدرك أن احترام "الأخ الأكبر" ليس منّة، بل واجب سياسي وأخلاقي وتاريخي كما اسلفنا ... ؛  فالتجارب السابقة، من اجتياح داعش وحتى الأزمات الاقتصادية والسياسية، كلها تشير إلى أن الشيعة كانوا ولا يزالون السند الحقيقي للعراق، وأن أي محاولة لابتزازهم أو الاصطفاف ضدهم في لحظات الأزمات لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والضعف الوطني.

2-18.jpg

التعليقات

لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!