نسائم الجنوب التعايش الديني والإجتماعي في سوق الشيوخ
كاظم ال ناشي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
كاظم ال ناشي

النجف الثانية، او سوق عكاظ، هكذا كان يسميها المهتمون بالفكر والأدب، وذلك لمكانتها الأدبية المعروفة، وتوافد الأدباء والمفكرون عليها من مختلف المدن العراقية والعربية.
سوق الشيوخ، مدينة تغفو مطمئنة على الضفة اليمنى للفرات، (30) كيلو مترا الى الشرق من مركز مدينة الناصرية، يخترق الفرات صدرها الرؤوم، لتنقش على موجاته اول بيت من الابوذيّة، وتذكره بأول نجمة سهرت تراقب السمّار، وهم يرددون (طوّل يا طريج السوگ)... يحدها من الشمال ناحية (العكيكة)، ومن الشرق تمتد بساتين النخيل وصولاً الى ناحية گرمة بني سعيد، والى الجنوب منها تمتد الصحراء مهرولة في تيه الرمال، عابرة الطريق المؤدية الى محافظة البصرة، أما من جهة الغرب، فتمتد البساتين على ضفتي الفرات بإتجاه ناحية الفضلية، لتكون هذه المدينة شبيهة بالنخلة، حيث تحيطها البساتين الخضراء من ثلاث جهات، سوى الجنوب حيث تمتد الصحراء.
التقينا الأستاذ فرقد الحسيني، رئيس التجمع الثقافي في سوق الشيوخ، ليحدثنا عن تاريخ المدينة، وعن طبيعة التعايش الديني والاجتماعي فيها، فقال:-
أسست المدينة على تل قديم، يقال له قديماً (ايشان) ومجموعها (يشن)، كانت له عدة اسماء في التاريخ القديم منها (سوگ مارو، ماروسي). اسسها الشيخ ثويني المحمد جد اسرة السعدون عام 1762م، وذلك لرغبة اعراب ثويني بأن تقام سوق دائمة قريبة من الفرات - بدل السوق المتنقلة - فأقيمت في الموقع الذي يعرف اليوم بـ(قضاء سوق الشيوخ)، وذلك لعذوبة مائه ووفرة مرعاه. وقبل ان يُعرف بهذا الاسم كان يسمى (سوق النواشي) نسبة الى عشيرة النواشي المجاورة له، حيث كان ابناؤها اكثر من يرتاد هذا السوق للتبضّع والمتاجرة وبيع المحاصيل، ثم اصبح اغلب شيوخ القبائل المجاورة يترددون على هذا السوق فعُرف فيما بعد باسمهم جميعا، ثم اخذ التجّار والحرفيون والكسبة بالتوافد على المدينة بشكل كثيف، واتخذت كل فئة من هذه الفئات مساكن لها في جوانب المدينة لا على اساس مهني بل على اساس عرقي وقبلي؛ فالذين قدموا من نجد والحجاز واطراف الجزيرة العربية اتخذوا مساكن لهم غرب المدينة، فعُرفت محلّتهم باسم(محلة النجادة) وهي اقدم محلة في سوق الشيوخ، اما الذين جاءوا اليها من الأهواز وما جاورها من مناطق جنوب العراق وبينهم رابطة عشائرية فقد اتخذوا مساكنهم قرب الفرات من شرق المدينة وعرفت محلتهم(محلة الحويزة)، ومن جاءوا كتجار ومقاولين من بغداد وبلد والحلة والموصل وما جاورها فعرفت محلتهم(البغادّة)، أما من جاءوا من مدن وجهات اخرى متفرقة؛ فاتخذوا مساكنم الى الجنوب من محلة النجادة، وسميت محلتهم(محلة الحضر)، كما ان هناك عمّالاً وكسبة ليس لديهم إلاّ الجهد العضلي، شيّدوا اكواخهم في المنخفض المجاور الى الجنوب من التل سُميت محلتهم فيما بعد(محلة الاسماعيلية)... اتسعت المدينة وتطورت حياتها، ولكن اهلها ما زالوا يتمسكون بعاداتهم وقيمهم وتقاليدهم ويعيشون بسلام ووئام.
وماذا عن الطوائف والأقليات غير المسلمة التي سكنت المدينة، وكيف كانت علاقاتهم الاجتماعية مع الآخرين، وما ابرز شخصياتهم؟
من جملة من جاء الى المدينة جماعة من ابناء طائفة الصابئة من اصحاب الصناعات والحرف اليدوية كصياغة الحلي والمجوهرات، والحدادة والنجارة البدائية، سكنوا الضفة اليسرى لنهر الفرات فسُميت محلتهم والى اليوم(محلة الصابئة)، ومن ابرز شخصياتهم الشاعر(فديعم عيادة الصابئي) الذي كتب الابوذية فأجاد فيه، قال عندما سافر الى مدينة العمارة للعمل فأصابه مرض جعله يندم على هذا السفر:
مفتّگ للطمع دومك ينابي
او ملك الموت عد راسي ينابي
حسافة اموت وبديرة ينابي
ولا(هضلة) من اخواني عليه
وقصصه مع شيوخ المنتفگ معروفة، حيث انه كان يحظى بحبهم واحترامهم لانسانيته وشعره.
كما كانت هناك جالية من اليهود وصل تعداد بيوتها الى ما يقارب(100) بيت قبل ان يهاجروا المدينة نهائيا في الاربعينيات من القرن المنصرم، ومنطقتهم قرب محلة النجادة تسمى (التوراة)، كان ابناء هذه الجالية يمارسون مهنة التجارة، والصيرفة والربا، وما زال ابناء المدينة يتذكرون ذلك، خصوصاً الشاعر (يعقوب آيوها القماش) الذي قال من الابوذيّة:
عليمن مُرخي دمعي ما سلوني
على الّي بالتنازل ما سلوني
بيوم اكفة ظعنهم ماس لوني
غيار ونارهم تشتعل بيّه
كما سكن المدينة قديما جماعة من الايرانيين، كانوا يسمون العَجم، وكان سكنهم في خان يسمى(خان العجم) او(خان الشميسي) حيث كان العلم الايراني يرفع عليه، والذي لاتزال آثاره في محلة الحويزة الى الآن...
وقد كان (محمد علي البهبهاني) معتمد الحكومة الايرانية في السوق آنذاك، أما اعمالهم فقد كانت(شكرچيّة، حلوچيّة، كبچيّة، خرده فروش، خياطة الفرفوري، نقر الرحى).
اما الطائفة المسيحية فقد سكنت المدينة هي ايضا، ولكنها هاجرت فيما بعد، ولم يبقَ من آثار كنيستها ما يدل على وجودها إلاّ ما ينقله ابناء المدينة؛ حيث انها كانت بجوار منزل الحاج (ادريس الحمدي) الذي شيدته اسرة هندية تسمى(بيت أمان) عام 1909م على طراز الشناشيل، والذي كان مدرسة للبنات، ثم عيادة لأحد الأطباء اللبنانيين قبل ان يشتريه الحاج ادريس، وهو منزل غاية في الروعة والجمال والدقة، حيث النقوش والأقواس الاسلامية المصنوعة من الخشب المستندة الى الجدران الطابوقية التي حُفرعليها العلم العراقي يتوسطه التاج الملكي.
ولتفاصيل اكثرعن تاريخ وطبيعة الحرف اليدوية القديمة التي يحترفها ابناء طائفة الصابئة في سوق الشيوخ التقت صدى الروضتين الأخ بدر داخل(ابو وسام)، فقال:
منذ اكثر من مئتي عام امتهن الاجداد هذه المهنة، فتوارثناها عنهم التالي فالتالي، سابقا كانت تستخدم(الكورة) وهي عبارة عن فرن مصنوع من الطين، ومنفاخ يدوي، يُحرق فيها القصب والبردي نصف احتراق ليصبح كالفحم، حيث تكون مغلقة سوى فتحة المنفاخ، وفتحة من الأعلى لخروج العادم، وفتحة اخرى لوضع الأشياء التي يراد العمل عليها، وكان العمل حينها لايتم إلاّ بوجود ثلاثة اشخاص للنفخ والطرق كحد ادنى، اما اليوم فوجود الغاز السائل سهّل العمل كثيرا.
عملنا سابقاً هو صناعة السكاكين، والساطور، والطبر، والمنجل بأنواعه، والمسحاة، وسكاكين تكريب النخيل، ومشوى السمك، ومستلزمات الخيول، وسلاسل اللّوي.
اما اليوم فاختلفت الطرق كثيرا، واصبحت الكثير من المواد تأتي جاهزة، كالسلاسل والادوات الزراعية، ولكنها لاترقى الى صناعتنا اليدوية التي تمتاز بجودة المادة والمتانة، كما ان تردي الواقع الزراعي بسبب ملوحة التربة، وشحة المياه اثّر سلباً على عملنا الذي كنا نعتمد فيه على الفلاحين والمزارعين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat