صفحة الكاتب : محمد السمناوي

مِنْ دُكَّانِ التَّمْرِ إِلَى مَنَصَّةِ الصُّلْبِ: المَسَارُ الثَّوْرِيُّ لِمِيْثَمِ التَّمَّارِ فِي رِحَابِ مَدْرَسَةِ الإِمَامِ عَلِيٍّ (عليه السلام)
محمد السمناوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

المستخلص 
     تُمثّل سيرة ميثم التمار (رضوان الله عليه) إحدى اللّمع الثورية الخالدة في التاريخ الإسلامي، التي لم تُدرس بعدُ بوصفها نتاجًا عضويًّا لمشروع الإمام أمير المؤمنين( عليه السلام) الفكري والسياسي. هذه المقالة تُقدّم قراءةً في مساره الحياتي: من دكّانٍ متواضعٍ لبيع التمر في أزقّة الكوفة، إلى منصّة الصلب التي ارتقى منها شهيدًا بكلمة الحقّ في وجه السلطة الأموية، وتنطلق إشكالية البحث من سؤالٍ جوهري: كيف استطاع هذا العبدُ المُحرَّر – في مجتمعٍ تغلب عليه القيم القبلية – أن يتحوّل إلى ظاهرةٍ ثوريةٍ تُقلقُ عروشَ الطغاة؟ وكيف جسّدت نهايته المأساوية (التلجيم ثم الصلب) ذروةَ الصدام بين مشروعين: مشروع الإمام علي (عليه السلام) القائم على العدل والحرية، والمشروع الأموي القائم على القمع والاغتصاب؟  عبر الإجابة على هذه التساؤلات – تركز على التكوين المعرفي، والأداء السياسي، ورمزية الاستشهاد – تسعى الدراسة إلى كشف الآليات التي صنعت من ميثم أيقونةً للثبات على المبدأ، وإثبات أن استشهاده لم يكن حدثًا منعزلاً، بل حلقةً في تمهيد الطريق لملحمة كربلاء، وتأتي أهمية البحث من كونه يُعيد الاعتبارَ لدور "الهامشيين" في صناعة التاريخ، ويكشف عن نموذجٍ تربويٍّ فذٍّ قادرٍ على تحويل المُستضعفين إلى قوّة تغييرية، وهو يهدف أخيرًا إلى تقديم ميثم التمار ليس كشخصية تاريخية فحسب، بل كدليلٍ حيٍّ على خلود مدرسة الإمام علي (عليه السلام) في صناعة الإنسان الحر.
الكلمات المفتاحية: ميثم التمار - مسار ثوري - الإمام علي (عليه السلام) - دكان التمر - منصة الصلب – مدرسة.
Abstract
The life of Maytham al-Tammar (peace be upon him) represents one of the enduring revolutionary beacons in Islamic history, yet his journey has not been fully examined as an organic product of Imam Ali ibn Abi Talib's (peace be upon him) intellectual and political project. This article offers an analysis of his life's trajectory: from a humble date seller's stall in the alleys of Kufa to the crucifixion platform from which he ascended as a martyr, voicing truth against the Umayyad authority. The research's core inquiry stems from a fundamental question: How did this freed slave – in a predominantly tribal society – transform into a revolutionary phenomenon that troubled the thrones of tyrants? And how did his tragic end (bridling then crucifixion) embody the pinnacle of conflict between two projects: Imam Ali's (peace be upon him) founded on justice and freedom, and the Umayyad project based on oppression and usurpation? By answering these questions – focusing on his intellectual formation, political performance, and the symbolism of his martyrdom – this study aims to uncover the mechanisms that forged Maytham into an icon of steadfastness to principles. It seeks to prove that his martyrdom was not an isolated event but a crucial link paving the way for the epic of Karbala. The research's significance lies in re-establishing the role of "marginalized" figures in shaping history and revealing a unique pedagogical model capable of transforming the oppressed into a force for change. Ultimately, it aims to present Maytham al-Tammar not merely as a historical figure, but as a living testament to the eternal nature of Imam Ali's (peace be upon him) school in cultivating the free human being.
Keywords: Maytham al-Tammar - Revolutionary Path - Imam Ali (AS) - Date Stall - Crucifixion Platform - School.

المقدمة
أولاً: بيان الموضوع:
     تتناول هذه الدراسة الموجزة سيرة ومسيرة ميثم بن يحيى التمار – العبد المُحرَّر، وتلميذ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الملازم، والثائر الذي صُلِبَ على أعواد التاريخ – كحالةٍ فريدةٍ في التشكُّل الثوري في صدر الإسلام، وهي تركّز على تحوُّله من بائعٍ متواضعٍ في دكّان للتمر إلى رمزٍ للمقاومة الفكرية والسياسية، انتهاءً باستشهاده على منصة الصلب بأمرٍ من السلطة الأموية.  
ثانياً: إشكالية البحث: 
رغم ورود سيرة ميثم التمار في مصادر التاريخ الإسلامي، إلا أنها ظلّت تُقرأ غالبًا كـ "قصة بطولة فردية" منعزلة عن سياقها الحضاري. هنا تُطرح الإشكالية المركزية:
     كيف استطاعت مدرسة الإمام علي (عليه السلام) أن تصنع من شخصٍ مستعبَدٍ – في مجتمع قبلي يُمجّد النسب – قائدَ رأيٍ عامٍ يُزعزع عروشَ الطغاة، وكيف مثّل مساره (من التمر إلى الصلب) نموذجًا لتجسيد المشروع العلوي في مواجهة الانحراف الأموي؟ 
ثالثاً: تساؤلات البحث:
1. ما طبيعة التربية المعرفية والروحية التي تلقّاها ميثم في مدرسة الإمام علي (عليه السلام)؟ وكيف حوّلت هويته من "عبد" إلى "حَواريٍّ"؟  
2. كيف وظّف ميثم معرفته في خلق حراكٍ سياسيٍ مضادٍ لبني أمية؟ وما دور خطابه في التمهيد لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)؟  
3. ما الدلالات الرمزية والتاريخية لـ استشهاده بالصلب (التلجيم، الطعن، الثلاثة أيام على الخشبة)؟ وكيف حوّلت هذه النهايةُ سيرتَه إلى "مِسمارٍ في جدار الطغيان"؟  
رابعاً: أهمية البحث:
1.    دراسة ميثم كـ نموذج تطبيقي لمخرجات المدرسة العلوية (التربية/المقاومة/الشهادة).  
2.    تحليل كيف يُنتج الفكرُ الرافضُ للظلمِ أدواتِ تغييره حتى تحت القمع.  
3.    إبراز دور الشخصيات "غير الأرستقراطية" في الصراع السياسي المبكر.  
4.    تقديم ميثم كمثالٍ لـ قوة الخطاب الأخلاقي في مواجهة السلطة المستبدة.  
خامساً: أهداف البحث:
1. رصد مراحل التحوّل الجذري في حياة ميثم (العبودية → التحرير → التلمذة → الثورة → الاستشهاد).  
2. تحليل آلية التربية العلوية القائمة على المصاحبة المباشرة (ملازمة الظل) وتأثيرها في صقل الهوية.  
3. توثيق دوره كجسرٍ بين نهجَي الإمامين علي والحسين (عليهما السلام) عبر فضحه لانحرافات الحكم الأموي.  
4. تفسير رمزية الصلب كأول حالة إعدامٍ بـ "التلجيم" في الإسلام، وعلاقتها بخوف السلطة من كلمة الحق.  
سادساً: هيكلية البحث: 
     هيكلية البحث تتكون من مقدمة تعريفية بشخصية ميثم التمار وأهمية دراسته. تليها فصول تفصيلية تتناول تحرره وتربيته العلوية، ثم تحليل عميق لقصة "التمر والدرهم" كدلالة على عمق هذه التربية. بعد ذلك، يتناول البحث دوره السياسي كصوت جريء، وصولاً إلى فصول تسلط الضوء على استشهاده البطولي ومغزاه الرمزي. تختتم الدراسة باستعراض الدروس المستلهمة من حياته وإرثه الخالد كنموذج لمنتج مدرسة الإمام علي (عليه السلام)، وقد جاءت على النحو الآتي:
أولاً: من هو ميثم التمار؟ ولماذا دراسته؟
     ميثم بن يحيى التمار (رضوان الله عليه) ليس مجرد اسمٍ في سجل التاريخ الإسلامي، بل هو نموذجٌ فريدٌ وتجسيدٌ حيٌ للتحوّل العميق الذي يمكن أن تحدثه التربية الإلهية في النفس البشرية. إنها قصة عبدٍ مملوك، لم تكن له مكانة اجتماعية تُذكر، لكنه بفضل بصيرة وإرادة الإمام علي (عليه السلام)، ارتقى ليصبح تلميذاً خاصاً، وحوارياً وفياً، ومستودعاً لأسرار الإمامة، ثم ثائراً جسوراً ضدّ الطغاة، لينتهي به المطاف شهيداً عظيماً صُلِبَ جسده، فصار مكان صلبه مَعْلماً خالداً للبطولة والفداء.
     وُلد ميثم في النهروان بالعراق، منطقةٌ معروفةٌ بتقلباتها التاريخية، وشاء القدر أن يكون عبداً لامرأة من بني أسد. لكن هذا القدر لم يكن نهاية المطاف، بل كان منعطفاً قدرياً قاده نحو محطةٍ غيرت حياته جذرياً. فما إن اشتراه الإمام علي (عليه السلام) حتى حرره، لم يكن ذلك تحريراً لجسدٍ فحسب، بل كان إيذاناً بانطلاق روحٍ وتفتّحِ عقلٍ ليتلقى أسمى مراتب العلم والمعرفة في مدرسة الإمام علي (عليه السلام)، وهي مدرسةٌ فريدةٌ من نوعها تصنع القادة والشهداء من أعمق الطبقات الاجتماعية، وترفع من شأن الإنسان بفضل ما يحمله من إيمان ويقين، لا بفضل نسبه أو ثروته. لقد ارتقى ميثم في هذه المدرسة إلى مصاف "الخواص"، تلك الدائرة الضيقة من الصحابة الذين نالوا شرف القرب من الإمام واستودعهم أسرار علمه.
     إن دراسة شخصية ميثم التمار ليست مجرد استعراض تاريخي لشخصية قديمة، بل هي دعوةٌ لكشف أبعادٍ عميقة في شخصيته، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسية تتشابك لتشكل رمزاً خالداً:
1-     التكوين المعرفي: كيف تشكل وعيه ومعرفته تحت ظلّ الإمام علي (عليه السلام)، ليصبح عالماً بأسرار الكون والمستقبل، ولتكون بصيرته نافذةً لا تحجبها ظلمات الجهل أو الإغراء.
2-    التكوين السياسي: كيف تحوّل من بائع تمر إلى مناضلٍ صريحٍ وثائرٍ جريءٍ ضدّ الظلم الأموي، وكيف كان صوته الصادق شوكةً في حلق الطغاة، لا يخشى في الله تعالى لومة لائم، ولا يهاب السيف ولا السجن.
3-     التكوين الاستشهادي: كيف بلغ ذروة الثبات في مواجهة أبشع أشكال التعذيب والإعدام، وكيف أن شهادته لم تكن نهاية المطاف، بل تحولت إلى أيقونةٍ خالدةٍ للصمود والتضحية في سبيل الحق، معلنةً أن مدرسة الإمام علي (عليه السلام) تُخرّج أبطالاً يغيّرون مسار التاريخ بدمائهم وأرواحهم. 
ثانياً: التحرر والتربية: من العبودية إلى صحبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
     رحلة ميثم التمار الوجودية تبدأ بمنعطف حاسم وغير متوقع: التحرر من العبودية. لم يكن شراء الإمام علي (عليه السلام) له ثمّ عتقه مجرد عملية قانونية لتحرير جسدٍ من قيود الرق، بل كان نقلةً نوعيةً من حالة الاستعباد البشري إلى التكريم الإنساني الكامل والتحرر الروحي المطلق. هذا الفعل الجليل من الإمام (عليه السلام) يجسّد عمق تعاليم الإسلام في تحرير الإنسان ورفعته، ويُظهر أن قيمة الفرد لا تُحدّد بمكانته الاجتماعية أو وضعه الاقتصادي، بل بقدرته على تلقي الحق والعلم وتجسيد القيم الإنسانية النبيلة. لم يكن الإمام (عليه السلام) يرى فيه مجرد عبدٍ يُعتق، بل رأى فيه روحاً مؤهلةً للعلم والمعرفة، وقدرةً كامنةً على العطاء والولاء.
     بعد هذا التحرير، انطلق ميثم في مسيرةٍ تعليميةٍ فريدة تحت رعاية الإمام علي (عليه السلام) مباشرةً. وصف المؤرخون تلقيه العلمي من الإمام بأوصافٍ بليغةٍ تُشير إلى مدى التزامه وقربه: فكان "ملازمة الظل" و"حذو الفصيل أثر أمه". هذه التعبيرات لا تُبرز فقط مداومة ميثم على حضور مجالس الإمام (عليه السلام)، بل تُشير إلى كثافة وعمق التلقي العلمي اليومي والمباشر. لم تكن علاقته بالإمام علاقة تلميذ عادي بأستاذه، بل كانت علاقة مريدٍ بمربّيه الروحي والمعرفي الذي ينهل منه بشكلٍ متواصلٍ وشامل. لقد كان الإمام علي (عليه السلام) يفتح له آفاقاً من العلوم اللدنية، ويكشف له أسرار الكون والمستقبل، ويُلقّنه الحكمة والبصيرة. هذا التلقي المكثّف والمباشر هو ما مكّنه من الوصول إلى مراتبَ عاليةٍ في العلم والمعرفة قلّما نالها غيره من الصحابة، فصار من خواص أصحابه وأحد حاملي أسرار علمه.
     وبالرغم من مكانته العلمية والروحية، فقد اشتهر ميثم بلقبه "التمار"، نسبةً إلى مهنة بيع التمر التي كان يزاولها. هذا اللقب، الذي قد يبدو بسيطاً أو عادياً، يحمل في طياته دلالةً عميقةً على قيم مدرسة الإمام علي (عليه السلام). فالإمام (عليه السلام)، الذي كان يحرث الأرض ويعمل بيده، لم يكن يرى في المهنة البسيطة أو العمل اليدوي عيباً أو نقصاً في الشرف والمكانة. بل إن مدرسة الإمام (عليه السلام) قامت على مبادئ التواضع الجم، واحترام العمل، ورفض التمييز الطبقي. فكون ميثم التمار يحتفظ بلقبه "التمار" حتى بعد وصوله إلى مراتب العلم والكرامة، هو تأكيد على أن الشرف الحقيقي يكمن في التقوى والعلم والعمل، وليس في النسب أو الثروة، وهو ما ميّز هذه المدرسة عن الطبقات الأرستقراطية التي كانت تحتقر المهن اليدوية.
ثالثاً: التمر والدرهم: حكايةٌ تكشف سرّ التربية العلوية1 
    لعلّ من أروع القصص التي تُلقي الضوء على عمق العلاقة بين الإمام علي (عليه السلام) وتلميذه ميثم، وتكشف جانباً من أسرار التربية العلوية القائمة على العلم اللدني والكرامة الإلهية، هي الحكاية الواردة في كتاب "مناقب آل أبي طالب" لابن شهر آشوب. هذه الرواية ليست مجرد سردٍ لواقعة تاريخية، بل هي درسٌ بليغٌ في التواضع، الأمانة، والاتصال بالعالم الغيبي.
     تذكر الرواية أن الإمام علي (عليه السلام) أرسل ميثماً في مهمة، لا نعلم تحديداً طبيعتها، لكنها كانت تتطلب منه الابتعاد عن دكانه. وفي غياب ميثم، وقف الإمام علي (عليه السلام) بنفسه عند دكان تلميذه، ينتظره. هذا المشهد بحد ذاته يحمل دلالات عميقة سنتوقف عندها لاحقاً. بينما كان الإمام واقفاً، جاء رجل يشتري تمراً من دكان ميثم. لم يكن ميثم موجوداً، لكن الرجل أخذ التمر، ووضع مقابله درهماً في الصندوق الخاص بالنقود. عادت هذه المعاملة على بساطتها لتكون محور حدثٍ استثنائي.
    وعند عودة ميثم إلى دكانه، اكتشف بعد برهة أن الدرهم الذي تركه المشتري كان "بَهرَج"، أي رديئاً أو مغشوشاً، لا قيمة له، أو أنه ليس من العملة المتداولة. بادر ميثم فوراً بإبلاغ الإمام علي (عليه السلام) بالأمر، وهذا يدل على أمانته وحرصه على ماله وماله الإمام (عليه السلام) الذي كان يراه ملكًا للمسلمين. وهنا جاء رد الإمام (عليه السلام) الذي فاجأ ميثماً، والذي كشف عن حقيقة علمه الغيبي: "سيكون التمر مُرّاً". لم يمضِ وقت طويل، حتى عاد المشتري ليشكو مرارة التمر الذي اشتراه! هذه الإخبارات الدقيقة التي تحققت على الفور، ليست مجرد صدفة، بل هي إشارة واضحة إلى تدخّل إلهي، وكرامة عظيمة لميثم ببركة إمامه.
ثالثاً:  التمر والدرهم: حكايةٌ تكشف سرّ التربية العلوية 2
الدلالات العميقة للحكاية:
1.    تواضع الإمام علي (عليه السلام) الذي لا يُضاهى:
     إن وقوف الإمام علي (عليه السلام)، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه، عند دكان تلميذه البسيط، ميثم بائع التمر، هو مشهدٌ لا يُصدّق في زمنٍ كانت فيه الحكام يحيطون أنفسهم بالقصور والحُجب. هذه الوقفة ليست مجرد فعل عابر، بل هي تجسيدٌ حيٌّ لقمة التواضع والتقارب الإنساني الذي دعا إليه الإسلام، ومثالٌ يُحتذى به للقائد الرباني الذي لا يعلو على رعيته، بل يتواضع لها ويتفقد أحوالها. إنه يُظهر كيف أن الإمام كان يعيش حياة بسيطة، بعيدًا عن مظاهر الأبهة والسلطة الزائفة، وكيف كان يُكرم أصحابه حتى في أبسط شؤون حياتهم، مما يعكس جوهر مدرسة تربوية قامت على كسر حواجز الطبقات الاجتماعية وتقريب القائد من أتباعه.
2.    أمانة ميثم وحرصه على الحق:
     عندما اكتشف ميثم أن الدرهم كان "بَهرَج" (رديئاً أو مغشوشاً)، بادر فوراً بإبلاغ الإمام (عليه السلام) بالواقعة. هذا الفعل البسيط يحمل دلالةً عظيمةً على أمانة ميثم وورعه الشديدين. إنه لم يتهاون في التعامل مع درهم واحد، حتى لو كان ذلك الدرهم قد وصل إليه دون علمه، ولم يفكر في الاحتفاظ به أو التغاضي عن رداءته. هذا الحرص على الأمانة، حتى في أدق التفاصيل، هو ثمرة التربية العلوية التي تُغرس في نفوس أتباع الإمام (عليه السلام)، حيث تُصبح الأمانة جزءاً لا يتجزأ من تكوينهم الأخلاقي، وتعكس مدى إخلاصهم والتزامهم بالحق في كل تعاملاتهم، سواء كانوا مراقبين أم لا، لأنهم يعلمون أن الله تعالى يراهم.
3.    العلم اللدني وإخبارات الإمام (عليه السلام):
     إن إخبار الإمام علي (عليه السلام) بأن "التمر سيكون مُرّاً" قبل عودة المشتري هي دلالةٌ واضحةٌ على علمه اللدني، أي علمه المستقى مباشرةً من الله تعالى، لا من خلال التعلم البشري التقليدي. هذا العلم الغيبي، الذي كان الإمام (عليه السلام) يختص به ويُطلعه على جوانب منه لأصحابه المخلصين، يؤكد على مكانته الإلهية كنقطة اتصال بين السماء والأرض. الحادثة تُظهر قدرة الإمام ( عليه السلام) على رؤية ما وراء الظاهر، بل كان ينظر بنور الله تعالى، والتدخل في مجريات الأحداث، ليس فقط بالدعاء أو الكرامة، بل بمعرفة حقيقة الأشياء قبل وقوعها. هذا الجانب من الرواية يُرسّخ في ذهن المتلقي أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يمتلكون علماً خاصاً يجعلهم مرجعاً فريداً للمعرفة والحقيقة.
4.    كرامة ميثم التمار:
    تحوّل التمر الحلو إلى مرّ بسبب درهم بهرج ليس مجرد معجزة للإمام (عليه السلام)، بل هي أيضاً كرامةٌ عظيمةٌ لميثم التمار. إنها تُظهر المكانة العالية التي بلغها ميثم عند الإمام (عليه السلام)، حتى أن مثل هذه المعاجز قد تجري على يديه، أو ببركته، أو ببركة قربه من الإمام. هذا الحدث يُبرز أن ميثم لم يكن مجرد متلقٍّ للعلم، بل كان أيضاً إناءً طاهراً تتجلى فيه آثار القدسية والبركة الإلهية. هذه الكرامة تُشير إلى أن التربية العلوية لا تُنتج فقط علماء ومجاهدين، بل تُنتج أيضاً نفوساً زكيةً تتصل بالغيبيات، وتظهر فيها قدرات خارقة للعادة نتيجة لإخلاصها المطلق وولائها للإمام الحق. هذه الحادثة، على بساطتها، تُعدّ مرآةً عاكسةً للعمق الروحي والمعرفي الذي كان يميّز مدرسة الإمام علي (عليه السلام) وتلامذتها الأوفياء.
رابعاً: الصوت الجريء: التحدي السياسي في مواجهة الطغيان 1
     لم يكن ميثم التمار مجرد تلميذٍ نجيبٍ للإمام علي (عليه السلام) وحاملٍ لأسراره، بل كان صوتاً جريئاً ومناضلاً سياسياً بامتياز في عصرٍ ساد فيه الكبت والخوف تحت وطأة الحكم الأموي. إن جوهر نشاطه لم يقتصر على التلقي المعرفي فحسب، بل تجاوزه إلى العمل السياسي الفعال في نشر الحق وفضح الباطل.
     وكان ميثم التمار قد كرّس حياته لرسالةٍ مزدوجةٍ وخطيرة في آنٍ واحد، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال ما يلي:
1-     نشر فضائل الإمام علي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام). في زمنٍ كانت فيه السلطة الأموية تسعى جاهدةً لتشويه صورة الإمام علي (عليه السلام) وإقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن الذاكرة الإسلامية، كان ميثم يقوم بمهمة عكسية محفوفة بالمخاطر. فكان يجوب مساجد الكوفة وأسواقها، وهما مركزان رئيسيان للتجمع العام والتبادل الفكري، ليعلن على الملأ عن مناقب الإمام علي (عليه السلام)، ومواقفه البطولية، وعلمه اللدني، ومكانته الشرعية كخليفةٍ للنبي (صلى الله عليه وآله). هذه الأحاديث العلنية لم تكن مجرد سردٍ للقصص، بل كانت تثبيتاً للعقيدة الصحيحة في أذهان الناس، وتذكيراً لهم بالخط الإلهي الحق الذي يمثله أهل البيت (عليهم السلام).
2-     فضح جرائم بني أمية، خاصةً معاوية وعبيد الله بن زياد. لم يكن ميثم يكتفي بالحديث عن الفضائل، بل كان يهاجم بجرأة ووضوح الظلم والاستبداد الأموي، ويفضح سياساتهم القمعية، وجرائمهم بحق الأمة، ومخالفتهم لتعاليم الإسلام. هذا الجانب من نشاطه كان يُعدّ تحدياً مباشراً للسلطة الحاكمة التي كانت ترتكز على القوة والقمع لإسكات أي صوت معارض. كان ميثم يرى أن الصمت عن الظلم هو مشاركة فيه، وأن واجبه الشرعي والأخلاقي يقتضي فضح الظالمين وتحذير الناس منهم.
    لم يكن نشاط ميثم التمار مجرد همسٍ في الأذن أو حديثٍ خاص، بل تحوّل إلى ظاهرةٍ ثقافيةٍ مُقلقةٍ ومزعجةٍ جداً للسلطة الأموية في الكوفة. صوته الجهوري، وحججه القوية المستندة إلى معرفته العميقة بفضائل الإمام (عليه السلام)، وشجاعته النادرة في مواجهة التهديد، جعلت منه شخصيةً مؤثرةً في الساحة العامة. لقد أصبح حديث الناس، وتناقلوا كلماته، مما أثار حفيظة عبيد الله بن زياد وعماله. حتى وصل الأمر بهم إلى القول له: "قد فضحكم هذا العبد!" هذه العبارة البسيطة تكشف عن مدى الإزعاج الذي سببه ميثم للسلطة، ليس بقوته العسكرية أو تنظيمه السري، بل بقوة كلمته وصدق بيانه وتأثيره المعنوي في نفوس الجماهير. لقد كان ميثم، بكلماته، يزعزع أركان حكم الظالمين، ويُبذر بذور الوعي والثورة في قلوب المستضعفين، مُبرهناً أن الكلمة الصادقة يمكن أن تكون أقوى من السيف.
خامساً: الصوت الجريء: التحدي السياسي في مواجهة الطغيان 2 / الانتقال إلى الشهادة
     استمراراً لدوره كـ "صوت جريء"، لم يكتفِ ميثم التمار بنشر فضائل أهل البيت وفضح جرائم الأمويين، بل كان أيضاً أحد القلائل الذين امتلكوا بصيرة نافذة للرؤية المستقبلية، وقد استمد هذه البصيرة من إمامه أمام المتقين (عليه السلام). لقد أطلعه الإمام (عليه السلام) على تفاصيل مصيره، بل ومصير الأمة، وهو ما زاده ثباتاً ويقيناً في مسيرته. كان ميثم يواجه الظلم بقلبٍ يملؤه السكينة، لأنه كان يعلم ما ينتظره، وكان راضياً بقضاء الله وقدَرِهِ، وهذا ما جعله أشد خطراً على السلطة التي كانت تعتمد على الخوف لفرض سيطرتها.
كانت الكوفة في ذلك الوقت تُعدّ بؤرةً للتشيع وللعداء للأمويين، وموقعاً استراتيجياً للصراع السياسي. في هذا المناخ المشحون، كان صوت ميثم التمار كبيراً للغاية. فقد كان يحذر الناس من الانحرافات القادمة، ويُنبّئهم بمقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، ويكشف لهم عن المؤامرات التي تُحاك ضد خط الولاية. لم تكن إخباراته مجرد تخمينات، بل كانت توقعات دقيقة استمدها من مصدرها الإلهي، مما زاد من مصداقيته وتأثيره بين أوساط المؤمنين. هذه الإخبارات، على الرغم من أنها قد تبدو غريبةً أو غير قابلة للتصديق لبعض الناس، إلا أنها أظهرت عمق بصيرته ورسوخ إيمانه.
      إن توقيت استشهاد ميثم التمار يحمل دلالةً عظيمةً وتوقيعاً إلهياً خاصاً. فقد كان استشهاده قبل وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العراق بعشرة أيام فقط. هذا التزامن ليس محض صدفة، بل يجعله حلقةً محوريةً في تمهيد الطريق لثورة الحق التي قادها الإمام الحسين (عليه السلام). يمكن اعتبار ميثم التمار "بوق الإنذار الأخير" و"الشهيد الأول" الذي أُريق دمه في سياق المواجهة الكبرى بين الحق والباطل، قبل أن تتفجر أحداث كربلاء.
     شهادته لم تكن حدثاً معزولاً، بل كانت بمثابة إعلانٍ صريحٍ لحجم الظلم الأموي الذي بلغ ذروته في القتل والصلب، حتى قبل أن يصل ركب الحسين (عليه السلام). إن صلب ميثم التمار كان بمثابة "رسالة دم" إلى أهل الكوفة وإلى الأمة جمعاء، مفادها أن السلطة الأموية لا تتوانى عن قتل كل من يجهر بالحق ويوالي أهل البيت (عليهم السلام). هذه الرسالة المدوية، التي سُطرت بدمائه الزكية على خشبة الصلب، كانت تهدف إلى إيقاظ الضمائر وتنبيه الأمة إلى خطورة المسار الذي تسير فيه، وأن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن مجرد اختيار، بل ضرورة حتمية لمواجهة هذا الطغيان المتزايد. فاستشهاده كان تمهيدًا نفسيًا وروحيا وسياسيا لأحداث كربلاء، وغرسًا لبذور التضحية في سبيل الدين، مما يجعله شهيداً ذا أبعاد استراتيجية في تاريخ الإسلام.
سادساً: المشهد الأخير: الصلب والتسمير.. ذروة الثبات 1
     كان المشهد الأخير في حياة ميثم التمار تجسيداً قاسياً وبليغاً لذروة الصراع بين الحق والباطل، ولكنه كان في الوقت نفسه ذروة للثبات واليقين في مسيرة هذا الرجل العظيم. بعد أن أصبح صوته الجريء ونبوءاته الصادقة مصدر إزعاج كبير لعبيد الله بن زياد، لم يجد الطاغية سبيلاً لإسكاته إلا بالقوة المفرطة والتعذيب الوحشي، وصدر الأمر الفوري من ابن زياد بالقبض على ميثم التمار. وعندما أُحضر إليه، لم يتوان ابن زياد عن إصدار حكم الإعدام الوحشي بالصلب، مضافاً إليه إجراءٌ لم يسبق له مثيل في تاريخ الإسلام، وهو "التلجيم" (وضع اللجام في فمه). لقد كان ميثم التمار أول من أُلجِم في الإسلام! وهذا الفعل لم يكن مجرد إضافة إلى العذاب الجسدي، بل كان له دلالة رمزية عميقة وغاية خبيثة:
1-    إسكات الصوت: كان الهدف الأساسي من التلجيم هو منع ميثم من الكلام، من إلقاء خطبه، من فضح الظالمين، ومن نشر فضائل الإمام علي (عليه السلام) حتى في لحظاته الأخيرة. السلطة كانت تخشى كلمته أكثر من جسده.
2-    الإذلال والتحقير: التلجيم يُستخدم عادةً للحيوانات لضبطها والسيطرة عليها. استخدام هذا الأسلوب مع إنسان، وفي سياق الإعدام، كان يهدف إلى إذلال ميثم وتحقير كرامته الإنسانية أمام الملأ، وإظهاره بمظهر العاجز المقيّد الذي لا يملك من أمره شيئاً.
3-    بث الرعب: كان هذا الإجراء غير المسبوق يهدف أيضاً إلى بث أقصى درجات الرعب في قلوب الناس، وإرسال رسالة واضحة بأن أي محاولة للتعبير عن الرأي أو معارضة السلطة ستواجه بعقوبة قاسية ومهينة لا يتوقعها أحد.
     لكن ما لم يدركه ابن زياد أن هذا الإذلال الجسدي تحوّل بفضل ثبات ميثم إلى إكرام إلهي. فقدرة ميثم على مواصلة خطبه رغم اللجام لم تكن مجرد تحدٍ بشري، بل كانت كرامةً ومعجزةً أظهرت أن الحق لا يمكن تكميم فاه، وأن صوت الولاية سينطلق حتى من أجساد الشهداء المصلوبة.
     جرت فصول استشهاده يوم الأحد ٢٠ ذو الحجة ٦٠ هـ.، في توقيتٍ دقيقٍ جداً قبل وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء بأيام قليلة. وقد صُلِبَ ميثم على خشبةٍ بالقرب من دكانه (وقيل باب دار عمرو بن حريث)، وهو نفس المكان الذي تنبأ له الإمام علي (عليه السلام) فيه بالصلب.
     لكن المدهش والمؤثر في هذا المشهد هو ما تلا الصلب: فقد ظلّ ميثم على الخشبة لثلاثة أيام متتالية، يخطب الناس! نعم، بالرغم من التلجيم والعذاب، كان صوته يصل إلى الجماهير المتجمعة حول خشبة الصلب. كان يصدع بالحق، يروي فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، ويُنبئهم بما سيحدث في المستقبل، ويكشف أسرار السلطة الأموية وجرائمها. هذا المشهد المذهل يُعدّ معجزةً بحد ذاتها، ودليلاً على قوة الروح التي لا تقهرها قيود الجسد، وعلى مدى اتصال ميثم بالله تعالى وإمامه.
سابعاً: المشهد الأخير: الصلب والتسمير.. ذروة الثبات 2
     استمرارًا لمشهد الثبات الأخير، بلغ ميثم التمار ذروة الصمود على خشبة الصلب. لم يكن وجوده هناك مجرد جسد معلّق، بل كان منبراً حياً للحق في وجه الباطل. كان صوته المبحوح، الذي استمر في الصدع بالحق لثلاثة أيام، يمثل تحدياً هائلاً للسلطة التي أرادت إخراسه، وما ميّز استشهاد ميثم هو قدرته الخارقة على مواصلة خطبه وكلماته البليغة للناس، بالرغم من اللجام في فمه والآلام المبرحة للصلب. كان يروي لهم من علوم الإمام علي (عليه السلام) التي تعلمها، ويخبرهم بما سيحدث من فتن ومظالم، وبالتحديد، كان يُخبرهم عن تفاصيل استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ومواقفه البطولية، وعن مصير قاتليه. هذا الجانب يُظهر ليس فقط قوته الروحية، بل أيضاً أن لسانه لم يكن مجرد آلة للنطق، بل كان لسان حق مدعوم بقوة إلهية لا يمكن إسكاتها بوسائل بشرية. لقد تحولت خشبة الصلب، التي أرادها ابن زياد رمزاً للقمع، إلى منبرٍ للشهادة والوعي.
     في اليوم الثالث من صلبه، أي يوم الثلاثاء ٢٢ ذو الحجة ٦٠ هـ.، بلغ صبر ميثم حده، وتحقق وعد الله تعالى له بالشهادة. فقد أُمر الجلادون بطعنه بالحربة. وعندما طُعِن، لم يصرخ ميثم من الألم، بل كبّر الله تعالى، معلناً انتصاره الروحي على جلاديه. وبعد طعنه، انبعث الدم من فمه وأنفه بغزارة، وليس من مكان الطعن فقط. هذه الظاهرة لم تكن مجرد حدث فيزيائي، بل كانت علامةً واضحةً على نقاء روحه وطهارة دمه. فخروج الدم من الفوف والانف في هذه الظروف يمكن تفسيره رمزياً على أنه "دم الكلام الحق"، أو "دم البصيرة"، وأن هذا الدم الطاهر لم يكن سوى تجسيد لروحه النقية التي لم تتدنس بباطل، والتي صدحت بالحق حتى آخر رمق. هذا المنظر المأساوي، ولكن العظيم، ترك أثراً عميقاً في نفوس كل من شاهده، وأكد لهم صدق ميثم ورفعة مقامه.
    إن الإصرار على التلجيم، ثم الصلب لثلاثة أيام، ومحاولة إسكات صوته حتى بعد الطعن، كل ذلك يعكس خوف السلطة الأموية الشديد من كلمة ميثم التمار، حتى بعد مماته. لم تكن تخشى جسده، بل كانت تخشى تأثير كلماته التي كانت تُغرس في وعي الناس. التسمير، بمعنى تثبيت الجسد على خشبة الصلب، كان محاولةً يائسةً لجعل ميثم عبرةً، لكنها تحولت إلى رمزٍ خالدٍ للثبات ودرساً عملياً في عدم الاستسلام. لقد أرادوا أن يكون الصليب نهاية ميثم، لكنه تحول إلى نقطة بداية، ومنبر لا يُنسى، ورمز يتوارثه الأجيال، مؤكداً أن الكلمة الصادقة، ولو نطقت من فم ملجم، يمكن أن تهز عروش الظالمين وأن تبقى خالدة في ضمائر الأحرار.
ثامناً: الإرث الخالد: دروسٌ من حياة ميثم التمار 1
      لم ينتهِ تاريخ ميثم التمار بصلبه واستشهاده، بل بدأ إرثه الخالد في تلك اللحظة. فبمجرد أن أُنزِل جسده الطاهر من خشبة الصلب، دُفن في مكانٍ قريبٍ من مسجد الكوفة، ذلك المركز الحيوي للعلم والعبادة والتجمع. لم يكن قبره مجرد مكان لرفات، بل أصبح مزاراً تُشدّ إليه الرحال، وشاهداً حياً على عظمة الحق، والثمن الباهظ الذي يجب دفعه في سبيله. هذا المزار يُمثل رمزاً لكل من يُؤمن بأن الحياة لا تُقاس بطولها، بل بعمق تأثيرها وصدق التضحية فيها.
ماذا نستلهم من شخصية ميثم التمار؟ إن دراسة حياة ميثم ليست حكايةً تاريخيةً جامدة، بل هي مدرسةٌ حقيقيةٌ لدروسٍ خالدةٍ تُنير دروب الساعين إلى الحق والحرية، ويمكن ذكرها عبر ما يلي:
1.    الولاية طريق التحرر الحقيقي:
      كان ميثم التمار عبداً مملوكاً، فاشتراه الإمام علي (عليه السلام) وأعتقه. لكن التحرير الحقيقي لم يكن فقط من قيود الرق الجسدي، بل كان تحرراً من عبودية الأنا، وعبودية الخوف، وعبودية الظالمين. لقد أدرك ميثم أن الولاية الحقة للإمام المعصوم (عليه السلام) هي السبيل الوحيد للتحرر الكامل للإنسان؛ تحرر الروح من قيود الجهل والخوف والتبعية للبشر. فبمجرد أن ارتبط قلبه بالإمام علي (عليه السلام)، تحوّل من إنسانٍ مقيّدٍ إلى روحٍ حرةٍ لا تخاف الموت، ولا تهاب الظلمة. هذا الدرس يُعلمنا أن التحرر الفكري والروحي يسبق أي تحرر سياسي أو اجتماعي، وأن هذا التحرر لا يتحقق إلا بالالتزام بولاية الحق.
2.    العلم سلاح التغيير في معركة الوعي:
      لم يكن ميثم مجرد بائع تمر، بل كان عالماً وخطيباً مفوّهاً، وقد اكتسب هذا العلم من مصدره الصافي: الإمام علي (عليه السلام). إن معرفته العميقة بفضائل أهل البيت (عليهم السلام)، والأحداث المستقبلية التي أطلعه عليها الإمام، لم تكن مجرد معلومات يختزنها، بل كانت سلاحاً فعّالاً في معركة الوعي ضد التجهيل الأموي. لقد استخدم علمه لـ "فضح جرائم بني أمية" و"نشر فضائل أهل البيت" علناً في الأسواق والمساجد. هذا يُظهر أن العلم الحقيقي ليس مجرد معرفة نظرية، بل هو قوة دافعة للتغيير، وأداة للدفاع عن الحق، وتنوير للناس. إن ميثم التمار يُعدّ مثالاً ساطعاً على أن البصيرة والعلم، عندما يُصقلان بالإيمان والجرأة، يصبحان أداة قوية لهدم عروش الظلم، حتى لو كان القائم به مجرّد فرد أعزل يمتلك صوتاً وحجة.
تاسعاً: الإرث الخالد: دروسٌ من حياة ميثم التمار 2
استكمالاً للدروس المستلهمة من حياة ميثم التمار:
3.    الثبات حتى الرمق الأخير: قوة الإرادة واليقين: إن أكثر ما يُلهم في سيرة ميثم التمار هو ثباته الأسطوري ورباطة جأشه في مواجهة أبشع أشكال التعذيب والإعدام. لم يسكت صوته رغم أنهم أَلْجَمُوهُ، ولم يضعف عزمه رغم الصلب. لقد استمر في خطبه وكشف الحقائق، حتى طُعِنَ بالحربة، ومات وهو يُكبّر الله. هذا الثبات ليس مجرد شجاعة جسدية، بل هو ثمرةٌ ليقينٍ راسخٍ بالإمام الذي بايعه، وبالقضية التي آمن بها. إنه يُظهر أن قوة الإرادة المستمدة من الإيمان العميق يمكن أن تتجاوز الألم الجسدي والخوف من الموت. ميثم التمار يعلمنا أن الحقيقة لا تُكمّم، وأن صوت الحق أقوى من قمع الطغاة، وأن التضحية بالنفس في سبيل المبدأ هي قمة الوفاء والبطولة.
خلاصة الرؤية: ميثم نتاجُ مدرسة الإمام علي (عليه السلام) التي تصنع من "العبد" "شهيداً" يُغيّر به مسار التاريخ.
      إن الرؤية الشاملة لحياة ميثم التمار تُؤكد أنه لم يكن ظاهرةً فرديةً عشوائية، بل هو نتاجٌ أصيلٌ وفريدٌ لمدرسةٍ تربويةٍ ومعرفيةٍ استثنائية: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). هذه المدرسة لم تقتصر على تدريس الفقه والأحاديث، بل كانت منهج حياةٍ كاملاً يُصقل النفوس، ويُربي العقول، ويُقوّي العزائم.
      لقد امتلك الإمام علي (عليه السلام) القدرة الإلهية والبصيرة النافذة على رؤية الجواهر الكامنة في النفوس، حتى لو كانت مغمورة في ظروف العبودية أو الفقر. فلقد اشترى ميثم التمار عبداً، ثم أعتقه، وربّاه، وعلّمه، وأطلعه على أسرار ما كان وما سيكون، حتى جعله من أقرب أصحابه وأوفى حوارييه. هذه العملية التربوية الشاملة حولت ميثماً من إنسانٍ يُنظر إليه في المجتمع بتجاهل، إلى "شهيدٍ" يُغير مسار التاريخ بدمه، ويُصبح رمزاً خالداً للمقاومة والوعي.
      إن مدرسة الإمام علي (عليه السلام) لا تصنع رجالاً فقط، بل تصنع أبطالاً ثوريين، يتحدّون الظلم، ويُعلون كلمة الحق، ويُضحّون بكل ما يملكون في سبيل مبادئهم. قصة ميثم التمار هي برهانٌ ساطعٌ على أن هذه المدرسة تنتج شخصيات ذات بصيرة نافذة، وشجاعة لا تتزعزع، ويقين مطلق، تجعلها قادرة على مواجهة أعظم الطغاة، وتحمل أشد المحن، ليكونوا منارات هدى للأجيال القادمة. فميثم ليس فقط شهيداً، بل هو شهادة على قدرة الإمامة الحقة على صياغة الأفراد، ليس فقط لعبادة الله، بل لمواجهة الظلم وتغيير الواقع.

عاشراً: الخاتمة: الدروس والإرث الخالد لميثم التمار
     إن سيرة ميثم التمار (رضوان الله عليه) ليست مجرد حكاية من الماضي، بل هي نبعٌ متجددٌ للدروس والإلهام لكل من يسعى إلى الحق والحرية في كل زمان ومكان. لقد تجاوز ميثم بمهنته البسيطة كبائع تمر، ليصعد إلى ذرى المجد الإنساني، ليصبح "أيقونة" لا يمكن تجاهلها في تاريخ النضال ضد الظلم.
     يظل قبره مزاراً يرتاده المؤمنون قرب مسجد الكوفة، شاهداً صامتاً على الثمن الباهظ الذي يجب دفعه في سبيل إعلاء كلمة الحق والعدل. إنه ليس مجرد نصب تذكاري، بل هو منارة تضيء دروب الثائرين، ومصدر إلهام للصامدين، يذكرهم بأن التضحية في سبيل الله تعالى لا تذهب سدى، بل تُثمر نصراً حقيقياً وإن بدا للبعض هزيمة ظاهرية. إن وجود هذا المزار يبرهن على أن رسالة ميثم لم تمت معه، بل استمرت عبر الأجيال، مغذيةً روح المقاومة والبصيرة.
ماذا نستلهم منه اليوم؟
1.    التحرر الحقيقي يبدأ من الولاية: نتعلم من ميثم أن التحرر ليس فقط من قيود الرق المادي، بل هو تحرر روحي وفكري يأتي من الارتباط الوثيق بالإمام الحق، الذي يحرر النفس من الخوف، والجهل، وعبودية غير الله تعالى. في عالمنا المعاصر الذي تشوبه أشكال جديدة من الاستعباد الفكري والثقافي، تُقدم سيرة ميثم نموذجاً للتحرر الشامل عبر التمسك بالقيم الإلهية.
2.    العلم سلاح التغيير: ميثم لم يقاتل بالسيف، بل بالمعرفة والبصيرة والكلمة. لقد كان علمه بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) وأسرار المستقبل سلاحه الأقوى ضد دعايات بني أمية وأكاذيبهم. هذا الدرس يؤكد أن الوعي والمعرفة الصحيحة هما المحرك الأساسي لأي تغيير حقيقي ومستدام في المجتمع، وأن الجهل هو أرض خصبة للظلم والاستبداد.
3.    الثبات حتى الرمق الأخير هو الانتصار الحقيقي: قصة صلب ميثم وخطبه من على خشبة الموت هي تجسيدٌ للقوة اللامتناهية للإرادة البشرية المدعومة باليقين الإلهي. لقد أظهر أن الجسد قد يُقهر، لكن الروح لا تُقهر، وأن الصوت الحق لا يمكن إسكاته أبداً. هذا الثبات هو ما يُلهم الأجيال لمواجهة التحديات والصمود أمام الضغوط، وأن الانتصار الحقيقي ليس في تجنب الموت، بل في الموت على الحق.
      إن ميثم التمار هو تتويجٌ لتربية مدرسة الإمام علي (عليه السلام)، وهي مدرسةٌ لا تُخرج علماء فحسب، بل تُخرج شهداءَ قادةَ يغيّرون مسار التاريخ بدمائهم وأرواحهم. لقد حوّل الإمام (عليه السلام) بائع تمر متواضع إلى رمزٍ للثورة، ومصباحٍ يهدي إلى الحق، ودرساً خالداً في مقاومة الطغيان. قصته ليست مجرد سيرة رجل، بل هي تجسيدٌ لمشروع إلهي متكامل يهدف إلى بناء الإنسان الكامل، الذي يُقاوم الظلم بكلمته، ويثبت على الحق بدمه، ويبقى إرثه خالداً يُغيّر الوعي ويُلهم الأجيال. إن دراسة ميثم التمار هي دعوةٌ لنا لإعادة اكتشاف القوة الكامنة فينا، المستمدة من الإيمان الصادق والولاء للحق، وأن نكون، على خطاه، جزءاً من المسار الثوري الذي يصبو إلى العدل والحرية.
المصادر والمراجع
1-    مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 2 / 329، للعلامة المُحدِّث رشيد الدين محمد بن شهر آشوب المازندراني، المولود سنة: 489 هجرية بمازندران/إيران، و المتوفى سنة: 588 هجرية بحلب/سوريا، طبعة مؤسسة العلامة للنشر، قم/إيران، سنة: 1379 هجرية.
2-    الشيخُ مُحَمَّد حُسَين المُظَفَّر. مِيثَمٌ التَّمَّارُ، شهيد الحق والولاء (ط. الثانية). المَكتَبة الحيدريَّة ومَطبَعتُها في النجف الأشرف. ص. 3.
3-    المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، دار احياء التراث العربي بيروت، ج42، ص124. 
4-    خير الدين الزركلي (2002)، الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين (ط. 15)، بيروت: دار العلم للملايين، ج. 7، ص. 336.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد السمناوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/06/19


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • عمومية زيارة الغدير في فكر الشيخ عباس القمي: دراسة في دلالات عدم التقيُّد بزمان أو مكان  (المقالات)

    • الغدير: يوم تنصيب الأوصياء وتكامل الدين - قراءة في الأبعاد العقديّة، التاريخيّة والاجتماعيّة  (المقالات)

    • "اليقظة الليليّة بين إغراءات "الرّها" وبركات القيام: دراسة في الحِكَم التربويّة والمنهج العملي المستنبط من روايات المعصومين عليهم السلام"  (المقالات)

    • عرفات وكربلاء: محطتان للمغفرة وتجديد العهد – "قراءة موجزة في الأبعاد الروحيّة والإجتماعيّة لليوم المشهود"  (المقالات)

    • التقسيم الزمني الوظيفي : تحليل الساعات الانسانية مقابل الساعات الحيوانية في استثمار الوقت "  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : مِنْ دُكَّانِ التَّمْرِ إِلَى مَنَصَّةِ الصُّلْبِ: المَسَارُ الثَّوْرِيُّ لِمِيْثَمِ التَّمَّارِ فِي رِحَابِ مَدْرَسَةِ الإِمَامِ عَلِيٍّ (عليه السلام)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net