عمومية زيارة الغدير في فكر الشيخ عباس القمي: دراسة في دلالات عدم التقيُّد بزمان أو مكان
محمد السمناوي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد السمناوي

قبل الشروع في بيان الموضوع، لا بد من ذكر خاطرتان مهمتان مرتبطتان بيوم الغدير وزيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، إحداهما كانت منذ أكثر من عشرين عامًا، بينما كنتُ جالسًا في حرم الأمير (عليه السلام)، ولعله كان ذلك في أيام شهر رمضان المبارك، جلس بجواري أحد الزائرين من الجمهورية الإسلامية الإيرانية. شاهدني أزور زيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الواردة في يوم الغدير، فبادرني بقوله: "شيخنا العزيز، اليوم هو من ليالي شهر رمضان وليس الثامن عشر من شهر ذي الحجة، فلماذا تزور الإمام بهذه الزيارة؟ عليك بزيارته بالزيارات العامة، والتي منها زيارة أمين الله تعالى، أو الزيارة الجامعة الكبيرة!" فأجبتُه بأن الشيخ عباس القمي (طاب ثراه) يقول: "إن هناك فائدة جليلة يغتنمها الراغبون في زيارة المولى (عليه السلام)". وبينما كنتُ أحدثه بأهمية زيارة الغدير في كل يوم، أخذتُ أتصفح زيارة الغدير في كتاب "مفاتيح الجنان"، وبعد نهايتها، ذكر القمي سطرين مهمين. أخذنا نقرأهما معًا كما جاء في نص كلامه، وكان من حسن الحظ أن النسخة الفارسية كانت بين أيدينا، فوقفنا على نص المقطع حيث جاء فيه:"گفتم: در کتاب «هدیة الزائر» به سند این زیارت اشاره کردیم و در آنجا گفتیم: این زیارت در همه اوقات، چه از نزدیک و چه از دور، خوانده میشود و به روز خاص یا مکان معینی اختصاص ندارد. این بیگمان فایدهای بزرگ است که راغبان به عبادت و مشتاقان به زیارت سلطان ولایت (علیهالسلام) از آن بهره میبرند".
بمعنى : "أقول: قد أومأنا في كتاب (هديّة الزائر) إلى سند هذه الزيارة وقلنا هناك: هذه الزيارة يزار (عليه السلام) بها في جميع الأوقات عن قرب وعن بعد فلا تخص يوماً خاصاً أو مكاناً معيّناً وهذه البتة فائدة جليلة يغتنمها الراغبون في العبادة الشائقون إلى زيارة سلطان الولاية (عليه السلام)"، فتفاجأ الزائر الإيراني المحترم، وقد أجهش بالبكاء، وقال لي أنا مدين لك في طيلة حياتي على هذه الفائدة التي لم التفت إليها وانا بعمر 80 سنة، والأن ولله الحمد لن أترك زيارة الغدير في كل حياتي.
أما الخاطرة الثانية التي يجدر ذكرها هنا، فهي ما حدث اليوم، الأحد الموافق 15 يونيو 2025، حيث وفقتُ لزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في يوم الغدير المبارك. وأثناء مباشرَتي في قراءة نصوص زيارة الغدير الشريفة، التقيتُ بالحاج فلاح اللامي، وهو أحد المؤمنين من مدينة البصرة – قضاء القرنة – ومن أصحاب الخدمة الحسينية الجليلة، وصاحب حسينية يُحيي فيها مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) على مدار العام، لا سيما في شهر رمضان المبارك وشهر محرم الحرام.
كررتُ عليه ما ذكره الشيخ عباس القمي (طاب ثراه) في نهاية زيارة الغدير، من أهمية قراءة الزيارة في كل يوم، سواء عن قرب أو عن بعد. وقد دار بيننا حديثٌ معمّق حول عدة أمور: لماذا أوصى الشيخ القمي بذلك؟ وما هي المطالب المهمة الواردة في الزيارة الغديرية التي جعلته يوصي بقراءتها يومياً؟
أوضحتُ للحاج اللامي أن زيارة الغدير هي خلاصة التاريخ؛ فمن أراد أن يطلع على خريطة السيرة النبوية والعلوية، ومظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام)، وقضية فدك، ومظلومية الأئمة (عليهم السلام) عمومًا، فليقرأ زيارة الغدير. وبيّنتُ له كيف أن الإمام الهادي (عليه السلام) قد صاغ هذه الزيارة البليغة باقتباسات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما يمكن استخراج المئات من المواضيع والعناوين البحثية العلمية والأكاديمية في المجالات المختلفة من هذه الزيارة، وعندما شرعنا أنا والحاج اللامي المحترم بقراءة الزيارة الغديرية، كنا معاً نقف لفهم بعض المفردات والمفاهيم الواردة في الزيارة، والتي هي عبارة عن شواهد قرآنية وروائية نبوية، وقد مضت أكثر من 40 دقيقة وكأنها ثواني، وقد شعرنا معاً ان روح الزيارة هي فهم روح المعاني وليس الإكتفاء في الألفاظ، ومن هنا ينبغي على الزائر ان يطالع الزيارة بشكل مستمر، وفي كل مرة سوف يكتشف العديد من المعاني الجليلة، فضلاً عن مسألة تصحيح القراءة لهذه الزيارة، حيث سمعنا الكثير ممن يقرأها يلح ويخطأ في قراءتها والسب يعود في ذلك في قراءتها مرة واحدة في السنة، وعدم التمرن على قراءتها بصورة صحيحة.
ويمكن إضافة خاطرة ثالثة هنا، وهي أن أحد أساتذتنا الأفاضل قد أوصانا بالمواظبة على قراءة دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) في كل ليلة جمعة، وذلك لأهمية المطالب العالية الواردة فيه. فالعلاقة بهذه الأدعية والزيارات لا يجب أن تقتصر على مناسبة سنوية واحدة، بل ينبغي أن تكون جزءًا من حياة المؤمن اليومية، وذلك لعمق معانيها وأثرها في تهذيب النفس وتقوية الإيمان.
بيان وتوسعة على قول الشيخ عباس القمي في زيارة الغدير
إن ما تفضل به المحدث الشيخ عباس القمي (طاب ثراه)، في خاتمة زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في يوم الغدير، والواردة في كتابه القيّم "مفاتيح الجنان"، ليس مجرد ملاحظة عابرة، بل هو كاشف عن بُعدٍ عظيمٍ ومغزى عميقٍ لزيارة الغدير يتجاوز الزمان والمكان. قوله الشريف: "أقول: قد أومأنا في كتاب (هديّة الزائر) إلى سند هذه الزيارة وقلنا هناك: هذه الزيارة يزار (عليه السلام) بها في جميع الأوقات عن قرب وعن بعد فلا تخص يوماً خاصاً أو مكاناً معيّناً وهذه البتة فائدة جليلة يغتنمها الراغبون في العبادة الشائقون إلى زيارة سلطان الولاية (عليه السلام)"، يستدعي منا الوقوف والتأمل في عدة نقاط جوهرية:
أولاً: عمومية الزيارة: لا تخص يوماً خاصاً أو مكاناً معيناً
لقد اعتاد الكثير من المؤمنين ربط زيارة الغدير بيوم الثامن عشر من ذي الحجة فقط، باعتباره يوم الحدث التاريخي لتنصيب الإمام علي (عليه السلام). ولكن الشيخ القمي (قدس سره) هنا يرفع هذا القيد الزماني والمكاني، مؤكداً أن هذه الزيارة يمكن قراءتها في جميع الأوقات، سواء كان الزائر متواجداً في حرم الإمام (عليه السلام) عن قرب، أو كان بعيداً عنه في أي بقعة من بقاع الأرض عن بعد. هذه الفكرة تعكس فهماً عميقاً لروح الزيارة في المنظور الشيعي، فهي ليست مجرد طقس يُؤدّى في مناسبة محددة، بل هي وسيلة اتصال روحي دائم مع الإمام المعصوم (عليه السلام).
ثانياً: "فائدة جليلة يغتنمها الراغبون في العبادة"
إن وصف هذه الإمكانية بـ"فائدة جليلة يغتنمها الراغبون في العبادة" يُبرز الأهمية العبادية الكبرى لهذه الزيارة. فالعبادة لا تقتصر على الصلاة والصيام والدعاء فحسب، بل تشمل أيضاً التوجه القلبي والارتباط المعنوي بأئمة الهدى (عليهم السلام). زيارة الغدير، بما تحتويه من معارف عميقة وحقائق عقدية، تُعدّ من أعظم العبادات التي تُثري الروح وتُقوّي الإيمان. إنها ليست مجرد ألفاظ تُتلى، بل هي تذكير مستمر بمقام الإمامة وفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، مما يدفع المؤمن إلى مزيد من الطاعة والالتزام. هذه الاغتنام يعني اغتنام الفرصة الروحية والمعرفية المتاحة في هذه الزيارة على مدار العام.
ثالثاً: "الشائقون إلى زيارة سلطان الولاية (عليه السلام)"
تُشير كلمة "الشائقون" إلى المحبة الصادقة التي تدفع المؤمن لطلب القرب من الإمام (عليه السلام). إنها ليست مجرد رغبة عادية، بل هي شوق روحي عميق ينبع من معرفة وتقدير لمقام "سلطان الولاية". الإمام علي (عليه السلام) هو محور الولاية الإلهية، وزيارته – حتى عن بعد – تُعدّ تعبيراً عن هذا الشوق وتعزيزاً للارتباط به. هذا الشوق هو المحرك الحقيقي للاستفادة من هذه الزيارة في غير أوقاتها الخاصة، إذ يرى الشائق فيها معينًا لا ينضب للمعرفة والارتقاء الروحي. هذا البُعد العاطفي والمعرفي يُضفي على الزيارة حيويةً وديمومةً تتجاوز حدود الزمان والمكان.
رابعاً: الغدير: الزيارة كمنهج معرفي وعقدي متكامل
ما يجعل هذه الزيارة ذات أهمية بالغة، وبالتالي قابلة للقراءة في كل وقت، هو أنها تمثل خلاصة لمعارف الدين وأصول العقيدة. إنها ليست مجرد زيارة مدح وثناء، بل هي بيان متكامل للمقامات الإلهية لأمير المؤمنين (عليه السلام) ودوره المحوري في إكمال الدين. هذه الزيارة، التي صاغها الإمام الهادي (عليه السلام) بهذه الدقة والشمولية، تُعدّ بمثابة "موسوعة" عقدية وتاريخية يمكن للمؤمن أن يستقي منها الفهم العميق للولاية، والتعرف على مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، واستلهام الدروس من سيرتهم العطرة. إنها تُقدم رؤية شاملة للمسيرة النبوية والإمامية، مما يجعلها ضرورية لكل باحث عن الحقيقة في كل يوم.
خامساً: زيارة الغدير: كشفٌ لِمَكنوناتها ودلالاتُ ديمومتها
إنّ إصرار الشيخ عباس القمي (طاب ثراه) على استحباب قراءة زيارة الغدير في كل يوم، سواء عن قرب أو عن بعد، ليس مجرد توصية عابرة أو استحباباً محضاً، بل هو فهمٌ عميقٌ ووعيٌ استثنائيٌ لجوهر هذه الزيارة ومحتواها العَقَدي والتاريخي الذي يجعلها منهاجاً متكاملاً للحياة الإيمانية. إنّ الشيخ القمي، بعلمه الواسع وتبحّره في الروايات والعلوم الدينية، أدرك أن هذه الزيارة ليست مجرد دعاءٍ موسمي، بل هي مدرسةٌ متكاملةٌ تُعلم وتُبصّر وتُؤصل، لذا تُعدّ قراءتها المستمرة ضرورةً لتثبيت الإيمان ووعي التاريخ. لنستكشف معًا بعض المقاطع الأساسية التي تُبرر هذه التوصية، مع بيان دلالاتها وأهميتها:
1. الإقرار بمقام النبوة والولاية المطلقة: أساس العقيدة المتكاملة
تفتتح الزيارة بالسلام على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأوصاف جامعة: "خاتَمِ النَّبِيّينَ، وسَيِّدِ المُرسَلينَ، وصَفوَةِ رَبِّ العالَمينَ، أمينِ اللّهِ عَلى وَحيِهِ، وعَزائِمِ أمرِهِ، الخاتِمِ لِما سَبَقَ، وَالفاتِحِ لِمَا استَقبَلَ، والمُهَيمِنِ عَلى ذلِكَ كُلِّهِ". ثم تنتقل مباشرةً للسلام على أمير المؤمنين (عليه السلام) بأوصاف تُؤكد مقام الولاية والإمامة: "يا أميرَ المُؤمِنينَ، وسَيِّدَ الوَصِيّينَ، ووارِثَ عِلمِ النَّبِيّينَ، ووَلِيَّ رَبِّ العالَمينَ، ومَولايَ ومَولَى المُؤمِنينَ".
هذا المقطع يرسّخ فهمًا أساسيًا للعقيدة الإسلامية، حيث يُقدم النبوة والإمامة كوجهين لعملة واحدة؛ فالإمام علي (عليه السلام) هو امتداد طبيعي للنبوة، ووارث لعلومها، وأمينٌ على شريعتها. هذا التكامل بين النبوة والولاية يضمن استمرارية الهداية الإلهية وحفظ الدين من التحريف. إن قراءة هذا المقطع يوميًا تُذكّر المؤمن بأن الارتباط بالإمام علي (عليه السلام) ليس مجرد تفضيل شخصي، بل هو جزء لا يتجزأ من الإيمان بالله ورسوله، ويُبعد المؤمن عن تصور انفصال الإمامة عن أصول الدين.
2. الإمام علي (عليه السلام): دينُ الله القويم وصِراطه المستقيم والنّبأ العظيم
تصف الزيارة الإمام (عليه السلام) بأنه: "يا دينَ اللّهِ القَويمَ، وصِراطَهُ المُستَقيمَ"، وتستشهد بالآية الكريمة: "أيُّهَا النَّبَأُ العَظيمُ، الَّذي هُم فيهِ مُختَلِفونَ، وعَنهُ يُسأَلونَ". وتؤكد الزيارة لاحقاً: "وأشهَدُ أنَّكَ المَعنِيُّ بِقَولِ العَزيزِ الرَّحيمِ: «وَأَنَّ هَـذَا صِرَ طِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ» ضَلَّ وَاللّهِ وأضَلَّ مَنِ اتَّبَعَ سِواكَ، وعَنَدَ عَنِ الحَقِّ مَن عاداكَ."
هذا التركيز يُشير إلى أن الإمام علي (عليه السلام) ليس مجرد قائد سياسي أو عسكري، بل هو تجسيد حي للدين الحق، والسبيل الواضح للنجاة. القرآن الكريم يدعو إلى اتباع الصراط المستقيم، وهنا توضح الزيارة أن هذا الصراط يتمثل في ولاية الإمام (عليه السلام). قراءتها يومياً تُرسّخ في الوعي الجمعي والفردي أن الابتعاد عن ولايته هو ابتعاد عن الحق وضلال عن سبيل الله، مما يُعزّز الالتزام بمنهجه كمنهج حياة.
3. نفي الإيمان عن الشاكّ والمنكر للولاية: تحصين عقدي
تذكر الزيارة بوضوح قاطع: "أشهَدُ يا أميرَ المُؤمِنينَ أنَّ الشّاكَّ فيكَ ما آمَنَ بِالرَّسولِ الأَمينِ، وأنَّ العادِلَ بِكَ غَيرَكَ عادِلٌ عَنِ الدّينِ القَويمِ الَّذِي ارتَضاهُ لَنا رَبُّ العالَمينَ، فَأَكمَلَهُ بِوِلايَتِكَ يَومَ الغَديرِ." ثم تكرر ذلك في مقطع لاحق: "وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ ما آمَنَ بي مَن كَفَرَ بِكَ، ولا أقَرَّ بِاللّهِ مَن جَحَدَكَ، وقَد ضَلَّ مَن صَدَّ عَنكَ، ولَم يَهتَدِ إلَى اللّهِ تَعالى ولا إلَيَّ مَن لا يُهدى بِكَ."
هذه المقاطع تُعدّ من الأشدّاء في الزيارة، فهي لا تكتفي ببيان فضل الإمام، بل تُعلي من شأن ولايته إلى درجة أنها تُربط بصحة الإيمان بالرسول والله. إن الشك أو العدول عن ولايته يُعتبر شكًا في النبوة وكفرًا بالله. هذه الدلالة العقدية العميقة هي جوهر ما أراد الشيخ القمي إيصاله؛ فالزيارة هنا ليست استذكارًا تاريخيًا، بل هي تثبيتٌ لعقيدةٍ مُحكَمةٍ تُمثل صِمَامَ الأمان للإيمان. المواظبة عليها تُحصّن المؤمن من الشبهات والانحرافات الفكرية التي قد تُبعده عن الصراط المستقيم، وتُذكّره بأن الغدير هو نقطة كمال الدين وإتمام النعمة.
4. شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) على إبلاغ الولاية والتوبيخ لمنكرها
تُوثّق الزيارة لحظة إشهاد النبي (صلى الله عليه وآله) على أمته في الغدير: "ثُمَّ أشهَدَ اللّهَ تَعالى عَلَيهِم فَقالَ: أ لَستُ قَد بَلَّغتُ؟ فَقالوا: اللّهُمَّ بَلى. فَقالَ: اللّهُمَّ اشهَد، وكَفى بِكَ شَهيدا وحاكِما بَينَ العِبادِ. فَلَعَنَ اللّهُ جاحِدَ وِلايَتِكَ بَعدَ الإقرارِ، وناكِثَ عَهدِكَ بَعدَ الميثاقِ." وتُعزّز هذا المعنى لاحقاً باستشهادها بآية التبليغ: "يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ".
هذه الفقرات تُسلّط الضوء على الأهمية القصوى لحدث الغدير، حيث يُظهر النبي (صلى الله عليه وآله) حرصه البالغ على إبلاغ الولاية، ويُثبت الحجة على الأمة. لعن الجاحد والناكث ليس مجرد دعاء، بل هو تعبير عن خطورة إنكار هذا العهد الإلهي. قراءة هذا المقطع بانتظام تُذّكر المؤمنين بأن الغدير ليس حدثًا خفيًا، بل هو إعلان صريح وواجب إلهي، وأن من لم يقبله قد خالف أمر الله ورسوله، مما يُقوّي الارتباط بهذا العهد الأبدي ويُجدّد البيعة للإمام (عليه السلام).
5. الغدير: الزيارة كفهرسة للتاريخ الإسلامي وتصوير لمظلومية أهل البيت (عليهم السلام)
تنتقل الزيارة بشكل سلس لتُقدم ملخصاً تاريخياً شاملاً لمسيرة الإمام علي (عليه السلام) وجهاده، ووقوفه الثابت في وجه الفتن والانحرافات. تُذكر مواقفه في بدر، الأحزاب، أحد، حنين، خيبر، ثم تُشير إلى غدر الناكثين والقاسطين والمارقين. تُورد الزيارة أيضاً مظلومية الإمام (عليه السلام) بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله)، وتصوّر كيف أن الظلمة قد كفروا بما أنزل الله في حقه، وكيف أنهم ركنوا إلى الباطل.
هذه الجوانب التاريخية ليست مجرد سرد أحداث، بل هي تأصيل لمظلومية أهل البيت (عليهم السلام) وبيان للانحراف الذي طرأ على الأمة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله). قراءة هذه الزيارة يومياً تُبقي هذه الحقائق التاريخية حية في وعي المؤمن، وتُعزّز فهمه للتحديات التي واجهها أئمة الهدى. إنها تُقدم رؤية واضحة للخط الفاصل بين الحق والباطل، وتُحفّز المؤمن على التمسك بولاية أهل البيت (عليهم السلام) كسبيل للنجاة في زمن الفتن. كما أنها تُبيّن كيف أن الإمام (عليه السلام) لم يتنازل عن الحق، وظل صابرًا ومحتسبًا، مما يُلهم المؤمنين الثبات على المبدأ.
6. اللعن على الظالمين: مفاصلةٌ عقائدية ووعيٌ تاريخي
تتكرر في الزيارة صيغ اللعن على الظالمين، وعلى رأسهم جاحدو ولاية الإمام (عليه السلام) وقاتليه: "ألا لَعنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمينَ"، و"فَلَعَنَ اللّهُ جاحِدَ وِلايَتِكَ بَعدَ الإقرارِ، وناكِثَ عَهدِكَ بَعدَ الميثاقِ"، و"اللّهُمَّ العَن قَتَلَةَ أنبِيائِكَ، وأوصِياءِ أنبِيائِكَ... اللّهُمَّ العَن قَتَلَةَ أميرِ المُؤمِنينَ ومَن ظَلَمَهُ وأشياعَهُم وأنصارَهُم، اللّهُمَّ العَن ظالِمِي الحُسَينِ وقاتِليهِ... اللّهُمَّ خُصَّ أوَّلَ ظالِمٍ وغاصِبٍ لآلِ مُحَمَّدٍ بِاللَّعنِ، وكُلَّ مُستَنٍّ بِما سَنَّ إلى يَومِ الدّينِ".
هذه المقاطع ليست تعبيراً عن الكراهية فحسب، بل هي تحديد للمسؤولية التاريخية والعقدية. اللعن هو ابتعاد عن رحمة الله، وفي اللغة العربية هو الطرد من الرحمة الإلهية، والدعاء به على من جحد الحق وظلم أهله يُعدّ مفاصلة عقائدية واضحة بين الحق والباطل. إنها تُعلي من شأن الولاية وتُحذّر من عواقب مخالفتها. تكرار هذه اللعنات في الزيارة يعزز من وعي المؤمنين بمسار الظلم التاريخي الذي تعرض له أهل البيت (عليهم السلام)، ويُذكّرهم بأن الولاية هي صراط العدل في مقابل سبل الظلم. المواظبة على قراءة هذه الفقرات تُثبّت المؤمن على خط الولاء والبراء، وتُرسّخ في قلبه رفض الظلم وأهله.
7- خلاصة الأهمية في المواظبة على زيارة الغدير:
إن توجيه الشيخ القمي (طاب ثراه) بقراءة زيارة الغدير يوميًا، أو على الأقل المواظبة عليها خارج يوم الغدير، ينبع من إدراكه العميق لما تُقدمه هذه الزيارة من:
1. تثبيتٍ للعقيدة: تُعيد بناء التصور الصحيح للإمامة كجزء لا يتجزأ من التوحيد والنبوة.
2. تعميقٍ للمعرفة: تُقدم خلاصةً لتاريخ الإسلام وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) ومظلوميتهم.
3. تحصينٍ من الانحراف: تُبين الصراط المستقيم وتُحذّر من السبل المنحرفة التي ابتعدت عن ولاية الحق.
4. تجديدٍ للعهد والبيعة: تُذكّر المؤمن بعهده مع الإمام (عليه السلام) وتُقوّي ارتباطه به.
5. تزكيةٍ للروح: بما تحتويه من معارف وفضائل، تُسهم في تهذيب النفس وتقوية العزم على طاعة الله ورسوله وأولي الأمر.
إن الشيخ القمي، بموقعه كعالم ومحدث ومتبحر في علوم آل محمد عليهم السلام، لم يكن يدعو إلى مجرد طقس، بل كان يدعو إلى منهج حياة يتغذى من معين ولاية أهل البيت (عليهم السلام) المستمرة، منهجٍ يُبقي العقل والقلب متيقظين لحقيقة الإمامة، ويُحصّن الأمة من الوقوع في شرك الجهل والضلال الذي أبعدها عن الحق منذ زمن بعيد.
8- خلاصة تحقيق سند زيارة الغدير
إن تحقيق سند زيارة الغدير المباركة، المروية عن الإمام الهادي (عليه السلام) في يوم الغدير، يُظهر بوضوح قوتها واعتبارها. يعتمد السند الأساسي على الشيخ محمد بن جعفر بن علي المشهدي الحائري (المتوفى 610هـ)، مؤلف كتاب "المزار الكبير". وقد أثبتت الدراسة أن المشهدي نفسه ثقة وجليل القدر ومحدّث صدوق، بشهادة كبار العلماء كالسيد ابن طاووس، والشهيد الأول، والشهيد الثاني، والحر العاملي، والمحدث النوري، والسيد محسن الأمين، والنمامي الشاهرودي.
كذلك، يُعدّ كتاب "المزار الكبير" كتابًا معتبرًا وموثوقًا عند علماء الإمامية، حيث اعتمد عليه السيدان ابن طاووس (العم وابن الأخ) ونقلا عنه بكثرة، مما يدل على اعتمادهما عليه بشكل كبير، وهما من المعاصرين للمشهدي. كما أن الحر العاملي والمحدث النوري والسيد محسن الأمين والنمامي الشاهرودي قد أكدوا على اعتباره والاعتماد عليه.
أما رجال السند في الزيارة، فهم سلسلة من الأعلام الثقات المعروفين في علم الرجال الشيعي:
شاذان بن جبرئيل القمي: ثقة وجليل من الفقهاء.
محمد بن أبي القاسم الطبري: فقيه ثقة.
أبو علي الحسن بن محمد الطوسي: ابن الشيخ الطوسي، فقيه ثقة.
الشيخ الطوسي (محمد بن الحسن): رئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة عين، صدوق.
الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان): شيخ الطائفة، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم.
جعفر بن قولويه: من ثقات وأجلاء الأصحاب في الحديث والفقه.
محمد بن يعقوب الكليني: شيخ أصحاب الحديث في وقته، أوثق الناس في الحديث وأثبتهم.
علي بن إبراهيم: ثقة في الحديث، ثبت، معتمد، صحيح المذهب.
إبراهيم بن هاشم: هو أول من نشر حديث الكوفيين بقم، وهو ثقة، وهناك من الأعلام المعاصرين من توقف في وثاقته.
أبو القاسم بن روح وعثمان بن سعيد العمري: كلاهما من النواب الأربعة للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في الغيبة الصغرى، ووثاقتهما وجلالتهما متواترة.
بناءً على ما تقدم، يمكن الجزم بأن سند زيارة الغدير سند صحيح ومعتبر للغاية، وأن هذه الزيارة تصل إلى الإمام الهادي (عليه السلام) عبر سلسلة من كبار محدّثي وفقهاء الشيعة وثقاتهم، مما يُضفي عليها حجية عالية في المنظور الإمامي.
المصادر والمراجع التفصيلية
تُقدم هذه القائمة المصادر والمراجع المستخدمة في متن الزيارة وهوامشها، مرتبة بحسب ورودها في النص، عند مراجعتها من قبل القارئ الكريم مع تفصيلاتها الدقيقة:
1. سورة الفتح: الآية 10.
2. سورة التوبة: الآيتان 111 و112.
3. سورة الأنعام: الآية 153.
4. المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. ج 100، ص 368.
5. سورة آل عمران: الآية 146.
6. المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. ج 100، ص 368.
7. ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب. ج 11، ص 159، مادة "حفل".
8. الأصفهاني، الراغب. مفردات ألفاظ القرآن. ص 100، مادة "أول".
9. سورة طه: الآية 82.
10. سورة المؤمنون: الآية 104.
11. ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب. ج 15، ص 349، مادة "نوي". (لتفسير "ناواه").
12. سورة الزمر: الآية 9.
13. سورة النساء: الآيتان 95 و96.
14. سورة التوبة: الآيات 19 - 22.
15. سورة المائدة: الآية 67.
16. سورة المائدة: الآيات 54 - 56.
17. سورة آل عمران: الآية 53.
18. سورة آل عمران: الآية 8.
19. سورة الشعراء: الآية 227.
20. سورة الحشر: الآية 9.
21. سورة آل عمران: الآية 134.
22. سورة البقرة: الآية 177.
23. سورة السجدة: الآيتان 18 و19.
24. سورة الأحزاب: الآيات 10 - 13.
25. سورة الأحزاب: الآية 22.
26. سورة الأحزاب: الآية 25.
27. سورة آل عمران: الآية 153.
28. الشهيد الأول، محمد بن مكي. المزار للشهيد الأول.
29. سورة التوبة: الآيتان 25 و26.
30. سورة التوبة: الآية 27.
31. سورة الأحزاب: الآية 15.
32. الشهيد الأول، محمد بن مكي. المزار للشهيد الأول. / المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار.
33. ابن الأثير، مبارك بن محمد. النهاية في غريب الحديث والأثر. ج 5، ص 273، مادة "همج".
34. ابن الأثير، مبارك بن محمد. النهاية في غريب الحديث والأثر. ج 2، ص 235، مادة "رعع".
35. سورة التوبة: الآية 119.
36. سورة الصافات: الآية 102.
37. سورة البقرة: الآية 207.
38. سورة طه: الآيتان 90 و91.
39. سورة الأحزاب: الآية 23.
40. سورة التوبة: الآية 111. (إشارة).
41. الشهيد الأول، محمد بن مكي. المزار للشهيد الأول.
42. لمرجعة متن الزيارة وسندها ينظر: المزار الكبير. ص 264، حديث 12، عن أبي القاسم بن روح وعثمان بن سعيد العمري عن الإمام العسكري (عليه السلام). / الشهيد الأول، محمد بن مكي. المزار للشهيد الأول. ص 66، من دون إسناد إليه (عليه السلام). / المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. ج 100، ص 359، حديث 6، نقلاً عن المفيد.
43. العاملي الجزيني، محمد بن جمال الدين مكي، الشهيد الأول ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ج 3 ص 164،
44. المشهدي الحائري، الشيخ أبو عبد الله محمد بن جعفر بن علي ، المزار، ص 473.
45. الرازي، منتجب الدين بن بابويه، فهرست منتجب الدين، ص 107.
46. ابن طاووس الحلي، السيد رضي الدين علي (المتوفی664هـ)، اليقين باختصاص مولانا علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين، ص 280.
47. المجلسي، محمد تقي (المتوفی1070هـ)، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج 1 ص 24.
48. الحلي الأسدي، جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، ص 249.
49. النجاشي الأسدي الكوفي، ابوالعباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس، فهرست أسماء مصنفي الشيعة المشتهر ب رجال النجاشي، ص 399 الي 401.
50. الموسوي الخوئي، السيد أبو القاسم (المتوفی1411هـ)، معجم رجال الحديث ج 1 ص 291.
51. الطوسي أبى جعفر محمد بن الحسن، الأبواب ( رجال الطوسي ) ص 401 .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat