روحية الحج وأبعاده المعنوية في قلب الحاج
رحاب سالم البهادلي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رحاب سالم البهادلي

حين يُلبّي الحاج نداء "لبيك اللهم لبيك"، فإنه لا ينطق بكلمات فحسب، بل يعلن تحرّره من قيود الدنيا، وانطلاقه في رحلةٍ قلبية وروحية إلى الله. فالحج ليس مجرد مناسك تُؤدى، بل تجربة وجودية تهز كيان الإنسان وتوقظه من غفلته، لتُعيد تشكيل علاقته بنفسه وبخالقه وبالعالم من حوله.
في الحج، يُغادر الإنسان بيته ومألوفه، ليقف بثوب الإحرام في مشهدٍ وحدوي يضم ملايين البشر، لا فرق بين غني وفقير، أو قوي وضعيف. الكل سواء أمام الله، وهذا الإحساس العميق بالمساواة يوقظ في القلب معاني التواضع، ويطهّر النفس من الكِبر والتمييز.
ومن أبرز الأبعاد المعنوية للحج هو الإحساس بالعودة إلى الأصل، إلى فطرة الإنسان الأولى التي وُلد بها: نقية، طاهرة، ومتصلة بالله. فكل خطوة في المشاعر المقدسة هي سعي نحو الصفاء، وكل وقفة على صعيد عرفات هي تأمل في معنى الوجود، واستغفار صادق من زلات السنين.
الحج أيضًا مدرسة في الصبر والانضباط. فالزحام، التعب، والمناسك المتتابعة، كلها تدرب الحاج على كبح جماح النفس، واحتمال الآخرين، وتعلّم أن الروح لا تسمو إلا حين تخفّ من أثقال الأنانية والعجلة والغضب.
ومن الجوانب الروحية العميقة أن الحاج، حين يطوف بالكعبة، يشعر وكأنه يدور حول محور وجوده، يعيد ترتيب أولوياته، ويُعلن ولاءه لله وحده، لا لمالٍ ولا لشهوةٍ ولا لسلطان. وفي السعي بين الصفا والمروة، يستحضر قصة هاجر، تلك الأم المؤمنة، فيتعلّم من صبرها وتوكلها أن الفرج يأتي مع اليقين.
إن روح الحج تبقى في قلب الحاج بعد عودته، فتُضيء مسيرته، وتُبقيه حي الضمير، يقظ القلب، متعلّقًا بالآخرة. فالحج الحقيقي هو ما غيّر الإنسان في داخله، لا ما وثّقته الصور أو الشهادات.
بهذا المعنى، يصبح الحج محطة تجديد، وانطلاقة جديدة لحياةٍ أنقى وأقرب إلى الله، وكل من ذاق هذه الروح، عاد وكأنه وُلد من جديد،
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat