صفحة الكاتب : محمد النصراوي

العالم يعيد رسم حدوده
محمد النصراوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مع اقتراب منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يبدو أن العالم يدخل مرحلةً مفصليةً من تاريخه المعاصر، حيث تتشابك الأزمات العسكرية والاقتصادية والمناخية في مشهدٍ دوليٍ شديد التعقيد، من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط، ومن مضيق تايوان إلى أعماق الفضاء السيبراني، تتغير التحالفات، وتتبدل موازين القوى، ويُعاد رسم خرائط النفوذ وسط عواصف من التحديات التي لا تهدأ.
في قلب هذا الإعصار، تستمر الحرب الروسية الأوكرانية كأخطر اختبارٍ للنظام الدولي منذ عقود، ما بدأ كصراعٍ حدودي سرعان ما تطور إلى حربٍ شاملة تهدد استقرار القارة الأوروبية بأكملها، فلم تعد هذه الحرب شأناً شرقياً، بل تحولت إلى معركةٍ على الطاقة تُعيد تشكيل علاقات أوروبا بمصادر الغاز، وتُسرع في الوقت ذاته التحول نحو البدائل المتجددة، مدفوعةً بأزمة الغاز والنفط المتفاقمة، وبينما يتجنب العالم سيناريو الحرب العالمية، فإن الانقسامات بين روسيا والغرب تتعمق، واضعةً أوروبا على أعتاب خريطةٍ سياسيةٍ جديدة لم تتضح ملامحها بعد.
أما في الشرق الأوسط، فإن المشهد لا يقل تعقيداً، بل ربما يزيد التوتر فيه حدةً وخطورة، فالعلاقة بين واشنطن وطهران تترنح على حافة المواجهة، حيث تُلوح إيران ببرنامجها النووي وتدعم حلفاءها الإقليميين، بينما تمضي واشنطن في سياسة العقوبات والعزل، مع احتفاظها بخيار الرد العسكري، وفي هذا الفراغ الاستراتيجي، تتحرك دول الخليج الكبرى بحذرٍ وحنكة، محافظةً على شراكتها مع واشنطن، لكنها في الوقت ذاته تفتح نوافذ على الشرق، حيث تزداد الروابط الاقتصادية مع الصين التي تقدم نفسها كبديلٍ تنمويٍ مستقر وغير مشروطٍ سياسياً.
رحيل بشار الأسد عن المشهد أواخر 2024 لم يكن نهاية فصل، بل بداية عهدٍ جديدٍ في سوريا، فالبلاد انزلقت إلى مرحلةٍ انتقاليةٍ غامضة، تحولت فيها الأرض السورية إلى رقعة شطرنج تتقاطع عليها مصالح تركيا وإيران والولايات المتحدة وروسيا واسرائيل، وسط غياب مشروعٍ وطنيٍ جامع، ربما التقسيم بات أقرب من أي وقت مضى، في ظل تكريس مناطق النفوذ العسكرية والسياسية.
في هذه الفوضى وفي ظل انشغال القوى الكبرى فيما بينها، تبرز الصين كقوةٍ صاعدة تمارس نفوذها بهدوء ودقة، بعيداً عن ضجيج السلاح، تنسج بكين شبكة مصالح اقتصاديةٍ واستراتيجية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، مستفيدةً من تراجع التركيز الأمريكي على المنطقة وانشغال موسكو واروربا بحرب اوكرانيا، تتسلل الصين إلى عمق المشهد، مقدمةً نفسها كشريكٍ إقتصاديٍ موثوق، ما يجعلها رقماً صعباً في معادلات المنطقة لعقود قادمة.
كل هذه التطورات، بما فيها ما يجري تحت سطح الأرض أو خلف شاشات الحواسيب، ترسم مشهداً دولياً مختلفاً تماماً عن العقد السابق، فالحرب السيبرانية أصبحت ساحة صراع لا تقل خطراً عن ميادين القتال، حيث تتبادل القوى الكبرى الهجمات على بنىً تحتيةٍ حيوية، وتُستَخدم البيانات كسلاحٍ فتاك، والتغير المناخي لم يعد مجرد تحدٍ بيئي، بل محركاً للصراعات حول المياه والموارد، خصوصاً في دولٍ مثل العراق وسوريا واليمن، حيث يتقاطع الجفاف مع هشاشة البُنى السياسية، اما الاقتصاد العالمي فيتعرض هو الآخر للاهتزاز تحت وطأة النزاعات التجارية، والتنافس على التفوق التكنولوجي، خصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة والاتصالات.
ما نراه مؤكداً، انه في عام 2025، لا شيء يبقى على حاله، نحن نعيش لحظةً تاريخيةً تتشكل فيها معالم نظامٍ عالميٍ جديد، يتجاوز ثنائية الشرق والغرب، ويقوم على تحالفاتٍ مرنة، وصراعاتٌ متعددة الأوجه، التحديات لم تعد تُقاس فقط بعدد الدبابات والصواريخ، بل بمدى صلابة الاقتصاد، ومرونة المجتمعات، وذكاء التحركات السياسية، وقوة التكنلوجيا، وبينما يتأرجح العالم بين الانهيار والنهضة، تبقى الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن من لا يُجيد قراءة المتغيرات ويُكيف نفسه للتعامل معها، سيُكتب عليه أن يكون ضحيةً لها.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد النصراوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/06/01



كتابة تعليق لموضوع : العالم يعيد رسم حدوده
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net