يُقسم الباري عز وجل في مطلع سورة الفجر بأقسام خمسة ( والفجر ) و ( ليال عشر ) و ( والشفع ) و ( الوتر ) و ( الليل إذا يسر ) .. ثم يخصُّ جلَّ وعلا هذه الأقسام بصاحب العقل والنظر ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) .. فحري أن نُعمل ونمعن التفكير بها مادام هناك نوع ومضمون دعوة للتفكر بها وأخذ الفائدة منها .. وعليه نريد أن نتدبر في بعض جوانب هذه الأقسام الشريفة وذلك من خلال بيان المناسبة في ذكرها وإختيارها في هذه السورة المباركة ومحاولة إكتشاف القاسم المشترك بينها ، ونقدّم في ذلك بعض الوجوه على نحو الاحتمال :
● الاحتمال الأول : أنها تشترك بالإنقضاء السريع لأسماء الأزمان المستعملة في القسم ، فهي أزمان محدودة وقصيرة عند مقارنتها مع استعمالات زمنية قرآنية من قبيل ( خمسين ألف سنة - ألف سنة إلا خمسين عاما .. ) ، فالفجر وليال عشر والليل إذا يسر واضحة في هذا المعنى - القصر النسبي - ، أما بالنسبة للشفع والوتر وعلى تفسير الوتر هو يوم عرفة والشفع هو يوم النحر فإنهما ايضاً عبارة عن زمنين قصيرين ومنصرمين بالمقارنة .. وهذا الاشتراك المعنوي ( اي بالمعنى ) والمتمثل بالانقضاء السريع للزمان ينسجم مع الانقضاء السريع لدول سادت ثم بادت قد ذكرتها السورة المباركة ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) ( وفرعون ذي الأوتاد ) ..
● الاحتمال الثاني : قاسم ومشترك معنوي ضمني يمكن أن يُنتزع ايضاً منها يتمثل بالتلويح بالعذاب والعقوبة ، فالفجر أو الصبح كان موعدا لعقوبة بعض الأقوام ( وَقَضَيۡنَآ إِلَيۡهِ ذَٰلِكَ ٱلۡأَمۡرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰٓؤُلَآءِ مَقۡطُوعٞ مُّصۡبِحِينَ ) ، وكذا الليل ( أَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا بَيَٰتٗا وَهُمۡ نَآئِمُونَ ) ، أما بالنسبة للشفع والوتر فيمكن أن نفهم علاقتهما بالعذابات من خلال قوله تعالى ( فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَٰعَةُ ٱلشَّٰفِعِينَ ) و قوله تعالى (فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ ) ..
وهذا الاحتمال ايضاً ينسجم وما تم عرضه في السورة من أقوام طغت وتمرّدت واستحقّت العذاب والإبادة ..
● الاحتمال الثالث : يمكن أن نفهم بأن الفجر الذي بدأ به القسم هو الخاص بالليالي العشرة ( ليالي ذي الحجة أو شهر رمضان أو محرّم ) وليس مطلق الفجر ، أو هو فجر الليلة التي تقام بها صلاة الليل ( الشفع والوتر ) ، ثم ختم القسم ب ( الليل إذا يسر ) ، أي الليل الذي فيه هذا السير والارتقاء الروحي ، فهو من جهة يسري بدقائقه وساعاته ومن جهة يسري بمن اتخذه مركباً لغاياته وكمالاته ..!
● الاحتمال الرابع : ثمّة مناسبة بين اختيار هذه الأقسام الخمسة وقوله تعالى ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) ، وذو الحجر هو ذو العقل ولكن ليس أي عقل ، العقل الذي يحجر صاحبه عن كل ما لا يليق ، فهو عقل مانع وليس دافعاً إذا صح القول .. وهذه هي المهمة الأساسية للعقل ، فهو يعقل صاحبه ، أي يقيده ولذا سمي ب ( العقل ) ، وينهاه عن الأخطاء والمفاسد فسمي ب ( النُهى ) .. والمناسبة أن أوقات الفجر والليل وما فيهما من عبادات وأعمال هي تحجر وتحجز الناس عن الخروج والحركة والعمل الدنيوي عموماً .. فمن يستثمر هذه الأوقات لحركته المعنوية ويحجر نفسه لها فإنه ذو حجر ، أي صاحب عقل يستطيع أن يستثمر القيود لصالحه أفضل وأحسن استثمار .
● الاحتمال الخامس : المشترك هو العبادات التي تخللت هذه الأزمان الشريفة ، فالفجر هي صلاة الفجر ، وليال عشر إشارة الى فريضة الحج على تفسير الليالي العشرة الأولى من ذي الحجة ، والشفع والوتر هما وقوف عرفة ونحر يوم العاشر على تقدير التفسير بهما أو هما قيام الليل خاصة عند ملاحظة ( الليل اذا يسر ) الذي جاء بعد الشفع والوتر أو مطلق الصلاة التي تكون أما بالشفع ( زوجية كصلاة الصبح والظهر ) أو بالوتر ( فردية كصلاة المغرب ) ..
● الاحتمال السادس : هنا يكون الجامع المشترك بينها هو على مستوى التأويل الخاص وليس كما في الاحتمالات السابقة والتي كانت تعتمد على ظاهر اللفظ أو ماهو أقرب لذلك من خلال الروايات المتداولة والتفاسير المشهورة بين فرق المسلمين ..
ونفهم من التأويل الوارد عن معنى بعض هذه الأقسام أن جميع الأقسام تجري مجراه وعلى السياق نفسه وعلى نحو الاحتمال والتقريب من قبلنا ايضا بالنسبة لهذا التعميم بين ما جاء بها تأويل وما لم يأت ..
فقد ورد في تفسير علي بن ابراهيم القمّي : ( في حديث آخر قال : الشفع الحسن والحسين ، والوتر : أمير المؤمنين عليه السلام ) .. كما نقل القمّي في تفسيره حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام فيما يخص الآيات الأخيرة من سورة الفجر - موضوع البحث - مفاده أن قوله تعالى ( يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ .. ) يعني الحسين بن علي عليه السلام .. وكذا عن الامام الصادق ع : ... قوله ( يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية ) : ( إذا حضر المؤمن الوفاة نادى مناد من عند الله : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي بولاية علي مرضية بالثواب ( فادخلي عبادي وادخلي جنتي ) ) .
فالجامع المشترك المنتزع بينها اذن هم المعصومون عليهم السلام ، خلفاء الله في أرضه وهم أفضل ما خلق على الإطلاق ، فيكون القَسَم بهم على نفس هذا المقياس عظيما ..
وإذا أردنا أن نمشي على نفس هذا السياق التأويلي فأقول لا أدري هل نستطيع القول أن الفجر هو رسول الله صلى الله عليه وآله ، والليالي العشر هم المعصومون العشرة ( الزهراء عليها سلام الله والائمة التسعة من السجاد الى الحجة سلام الله عليهم أجمعين) فيكون العدد ١٤ .. !!
الفجر (١) + ليال عشر ( ١٠ ) + الشفع (٢) + الوتر (١ ) = ١٤
وهذه المقاربة ليست بعيدة إذا عرفنا أنه توجد رواية واردة عن الامام الباقر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه واله بأن الشمس هو رسول الله في قوله تعالى ( والشمس وضحاها ) و القمر هو أمير المؤمنين في قوله تعالى ( والقمر اذا تلاها ) .. بتقريب أن الفجر هو أول ظهور خيط الشمس ..
وما يؤيد أن المعصومين هم القاسم المشترك على مستوى التأويل وكقرينة منفصلة على ذلك هو ما جاء في أعمال الليالي العشرة الأولى من ذي الحجة - التي هي إحدى أقوى تفسير لليال العشر - باستحباب صلاة ركعتين بين المغرب والعشاء يقرأ في كل ركعة بعد الحمد والتوحيد الاية (۞ وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ) .. والاية واضحة في مسألة الخلافة الالهية على مستوى نبي ووصي نبي ..
ثم أن أجواء السورة ليست بعيدة عن عقيدتنا في خلافة الإنسان على الأرض لمن تدبر بها ..
رزقنا الله وإياكم خير وبركة هذه الليالي المباركة في الدنيا والآخرة
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat