صفحة الكاتب : محمد جواد الميالي

التفكير خارج إطار التاريخ
محمد جواد الميالي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

 من السذاجة السياسية، أن نتصوّر استقرار الأنظمة الحاكمة بمعزل عن محيطها الدولي، أو أن نختزل صمود الكيانات السياسية بالتماسك الداخلي وحده، فالتجارب التاريخية السابقة، علّمت الأنظمة أن البقاء لا يُدار من داخل حدودها فقط، بل من بوابات العلاقات الدولية.. القواعد العسكرية، صفقات الأسلحة، وشرايين المصالح العابرة للحدود.

كما ان عمق المشهد السياسي العربي، لا سيما في الخليج، لا يختلف عن غيره كثيرا، لكن التاريخ فيها مختلف.. ليس كما كُتب دائماً، نتيجةً لإرادة الشعوب أو لنبض الوعي الجمعي؟! بل غالباً ما كان استجابةً لضرورات البقاء السلطوي، حيث تُبنى الدول لا على قواعد الحداثة، بل على ركائز التقليد الموروثة، تُطعّم تارةً بالدين، وتارةً بالدولار، وتارةً أخرى "بالبرنو الانجليزية".

الأنظمة الخليجية، منذ نشأتها المعاصرة، استندت إلى شرعيات البقاء، أولها، الشرعية الدينية التي لا تقوم على تمثيل شعبي، بل على تبرير سلطوي للحكم بإسم النص المذهبي أو بإسناد فقهي، لم يكن الخطاب الديني في هذه الدول مجرد خطاب وعظي، بل كان جزءاً لا يتجزأ من هندسة السلطة، حيث تم توظيف المؤسسة الدينية لتكريس نظام الطاعة، وتجميد الأسئلة الوجودية حول شرعية الدولة، في السعودية، اتُخذت "هيئة الامر بالمعروف" كغطاء يحصّن النظام الملكي من النقد، في حين أن دُول مثل الإمارات وقطر.. تبنّت نموذجا أكثر مرونة، لكنها حافظت على دور الدين بوصفه شرعية رمزية تُستدعى عند الحاجة، وتُوظَّف ضمن هندسة السيطرة الناعمة، وهذا ما بدأ يتلاشى بعد الربيع العربي ٢٠١١.

لكن الأمر لا يقف عند الشرعية الدينية، فالدول الخليجية تعيش على اقتصاد ريعي نفطي، لا يتحرك إلا إذا فتحت أميركا باب السوق، أو أغلقته، حيث أن الإيرادات النفطية لم تُستثمر في بناء قاعدة إنتاج وطنية، بل وُزعت في صورة رواتب وخدمات من أجل شراء الولاء السياسي.

اذا هل تملك هذه الدول قرار تسعير النفط فعلًا؟ أم أن المعادلة تدار من خلف الستار وفقاً لحاجات الأسواق الغربية، وشروط الطاقة العالمية؟ وماذا عن التحول إلى الاقتصاد غير النفطي؟!

ما زال ذلك وهماً تسويقياً أكثر منه مشروعا تحويليا، فحين تُبنى المدن الذكية في قلب الصحراء على أكتاف العمالة الآسيوية، وتُروّج كأنها نهضة كبرى، فإننا لسنا أمام تحول اقتصادي، بل أمام محاولة تجميل وجه الريع بشيء من الحداثة الشكلية.

الاقتصاد الريعي النفطي، لم ينتج تنمية حقيقية ولا مجتمعا إنتاجيا مستقلا، بل ربط مصير الدولة بأسعار النفط، التي لا تُحدَّد في الخليج، بل في مراكز المال والطاقة العالمية.

كل هذه الأمور شرعيات داخلية، لا تحقق سوى الجزء الضئيل من بقاءهم في السلطة، وحماية النظام يكمن في المعادلة الحقيقية، تحالف الشرعية مقابل البقاء.

منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن العلاقة بين الخليج والولايات المتحدة مجرد صداقة دبلوماسية، بل كانت علاقة وجودية، فالدول الخليجية الست، ورغم اختلاف نماذجها في الحكم وتوجهاتها الإقليمية، تشترك في شيء جوهري، أنها كلها تدور في الفلك الأميركي، بطريقة أو بأخرى.

الأنظمة الخليجية، التي لم تنبثق عن شرعية ديمقراطية أو عقد اجتماعي حديث، وجدت في دعم واشنطن، جدارا يحميها من رياح الداخل، وعواصف الانتقادات الحقوقية الدولية، وهذا الدعم لا يُمنح مجانًا، بل يُدفع ثمنه نقدا.

يكفي أن نعود قليلاً إلى خلفية العلاقات الخليجية–الأميركية، لنجد ان زيارات الرؤساء الأميركيين إلى الخليج، تحولت إلى ما يشبه جولات التحصيل المالي، من جورج بوش الإبن إلى ترامب، كان الخليج يُقابِل الحماية بصفقات تسليح فلكية، بعضها لا يُستخدم، وبعضها لا حاجة له، زيارات ترامب، خصوصا إلى الرياض، كشفت طبيعة الصفقة، الأموال مقابل البقاء.

لقد أصبحت العلاقة مع واشنطن علاقة قائمة على "العقد السياسي الخارجي"، حيث لا تستمد الأنظمة شرعيتها من شعوبها، بل من حماة خارج الحدود.

لكن السؤال: إلى متى يبقى هذا النموذج صالح للإستمرار؟

إن موازين القوى الاقتصادية والسياسية الدولية لم تبقى على حالها، والتعامل مع واشنطن كمصدر شرعية وحيدة، أصبح مخاطرة استراتيجية، مع تنامي تحولات الطاقة العالمية، وتراجع الطلب على النفط، فإن قدرة الأنظمة الخليجية على شراء الاستقرار قد دخل مرحلة العجز التدريجي، كما ان هناك دول يجب أن تدخل على خط التغيير، لا بمعنى إسقاط الأنظمة بالثورات، بل بإحداث تصدّعات داخلية تدريجية، تقود إلى نموذج حكم أكثر عقلانية، وشرعية داخلية أقل ارتهاناً بالخارج، وأكثر قدرة على مواجهة المستقبل بتوازن سياسي حقيقي.

الزمن القادم ليس للأنظمة التي تحفظ وجودها بالصفقات، بل لتلك التي تعيد بناء مشروعها الوطني من الداخل، وإذا لم تُدرك الأنظمة الخليجية هذا التحوّل، فإن التاريخ، الذي اعتادت أن تُكتب خارج إطاره، سيعود ليكتب نهايتها هذه المرة.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جواد الميالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/05/30



كتابة تعليق لموضوع : التفكير خارج إطار التاريخ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net