صفحة الكاتب : محمد جواد الميالي

عمامة في قاعة الخلد!؟
محمد جواد الميالي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

شهد العراق عبر تاريخه الحديث منعطفات كبرى شكّلت مسار نظامه السياسي والاجتماعي، غير أنّ انقلاب حزب البعث الثاني في تموز 1968 مثّل بدايةً لمرحلة مظلمة رسمت ملامح الدكتاتورية بأبشع صورها.

تحوّل النظام الجمهوري الذي وُلد بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى أداة بيد جماعة ضيقة، قادها صدام حسين بخطوات متدرجة حتى استحوذ على القرار كاملاً، كانت قاعة الخلد مسرحاً لمشهد مأساوي لا يزال محفوراً في ذاكرة العراقيين، إذ جمع صدام رفاقه الذين شاركوه الانقلاب، وبدلاً من تكريمهم، أخذ يذيع أسماءهم الواحد تلو الآخر، ليُساقوا خارج القاعة نحو مقصلة الإعدام، فيما يُرغم الباقون على ترديد شعارات البعث المجرم.

تلك اللحظة كانت إعلاناً عملياً عن ولادة حكم الفرد، وانتهاء فكرة الشراكة في السلطة، وبداية ثلاثة وثلاثين عاماً من الاستبداد، بنيت على دماء العراقيين ومعاناتهم.

هكذا تحولت قاعة الخلد إلى رمزٍ للدكتاتورية والخوف، وإلى شاهدٍ على مأساة نخبة سياسية ابتلعتها آلة العنف البعثية، ولم يكن المشهد معزولاً عن الواقع، فقد استُنسخت عقلية القمع لتطال الشعب بأسره، من إعدامات وسجون وحروب متتالية، جعلت العراق أسيراً لشخص واحد يختزل الدولة في ذاته.

لكن عجلة الزمن، بقدر ما تسحق الشعوب أحياناً، فإنها تتيح فرصة لإعادة كتابة التاريخ،  فبعد أكثر من نصف قرن على تلك الحقبة السوداء، تعود قاعة الخلد لتحتضن حدثاً على النقيض تماماً، مؤتمر الديمقراطية للنظام السياسي العراقي، القاعة التي تناثرت على جدرانها دماء القرابين، أصبحت اليوم ساحة يتلاقى فيها الخصوم السياسيون تحت سقف التعددية، قبل ستين يوماً من الانتخابات البرلمانية، في المكان ذاته الذي كان إعلان الموت فيها يعني إعلان الولاء، صار إعلان المشاركة في الانتخابات تجديداً للالتزام بالعملية الديمقراطية.

الخلد سابقا توشحت بالزيتوني، لكن اليوم ترتقي منبرها عمامة سوداء، ارتفع صوتها بنبرة مختلفة عن صخب البعث وشعاراته، حمل خطاباً مختلفاً عن كل ما ألفه العراقيون في القاعة ذاتها قبل عقود، لم يتحدث عن الولاء لشخص أو حزب، بل عن الحرية والديمقراطية وأهمية المشاركة في الانتخابات، أكّدت العمامة أن العراق اليوم بلد ديمقراطي، لا دكتاتوري، وأن التجربة الديمقراطية رغم عثراتها تبقى الخيار الوحيد القادر على بناء الدولة وصيانة الحقوق وضمان التداول السلمي للسلطة.

الانتقال من مشهد الدم إلى مشهد الحوار،  يعكس التحولات الكبرى التي شهدها العراق بعد 2003، صحيح أن الطريق لم يكن معبداً، وأن التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية كانت ثقيلة الوطأة، إلا أن مجرد اجتماع الفرقاء في قاعة الخلد لتداول مستقبل بلدهم، بدلاً من تصفية بعضهم البعض، يمثل بحد ذاته تأسيساً لشرعية جديدة.. شرعية الديمقراطية.

إنَّ أهمية هذه التجربة لا تكمن فقط في صناديق الاقتراع، بل في ترسيخ القناعة بأن الشعب هو مصدر السلطة، وأن الاختلاف لا يعني العداء، بل التنوع الذي يغني المشهد الوطني، وإن خطاب السيد عمار الحكيم في قاعة الخلد لم يكن مجرد غزل سياسي، بل إشارة رمزية إلى أن العراق قادر على تحويل أماكن الألم إلى منصات للأمل، وقادر على تجاوز إرث الاستبداد عبر التمسك بمبادئ الديمقراطية.

قاعة الخلد التي ارتبطت في ذاكرة العراقيين بالخوف والمشانق، تحولت الى منصة تُرفع فيها شعارات الحرية والتعددية، من نظام حكم فردي صادر إرادة الأمة، إلى تجربة سياسية تسعى إلى إشراك الشعب في صناعة القرار، إنها رحلة العراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، رحلة مليئة بالتضحيات، لكنها فتحت أبواب المستقبل أمام أجيال تتطلع لبناء دولة حديثة، دولة لا تستمد قوتها من سطوة الفرد، بل من إرادة الجماعة.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جواد الميالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/25



كتابة تعليق لموضوع : عمامة في قاعة الخلد!؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net