موانع تكامل الإنسان في منهاج القرآن :
مرتضى علي الحلي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مرتضى علي الحلي

إنَّ الحديث عن موضوع التكامل الإنساني ليس حديثاً عن الترف العلمي والمعرفي ، بل هو حديثُ عن حكمةٍ وواقع جعلَ له اللهُ تعالى شرعةً ومنهاجا ، وحكتْ الآيات القرآنية عن انموذج الإسوة الحسنة في ذلك.
وإنَّ ثنائية الشرعة والمنهاج لم تكن خاصةً بأمةٍ دون أخرى ، بل عمّمها الله تعالى على كلّ الأمم والمجتمعات ، قال تعالى:(( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ))(48) المائدة.
وبما أنَّ الله تعالى قد جعل لنا شرعةً ومنهاجاً، لكنه قد جعل لذلك حكمةً وقصداً وغايةً ، تتعلق بمصير وخيار الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، وهنا يجب أن ندرك في ذلك كلّه موضوع تكامل الإنسان ، من خلال تعريضه للاختبار الربّاني ، بعد جعله سبحانه الشِرعةَ والمِنهاجَ ، وبصورة بيِّنة.
والذي يحكي هنا عن موضوع تكامل الإنسان هو قوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ)
وهو ما يشير إلى ضرورة تحرّك الإنسان وتكامله في وجوده الحياتي باتّجاه كلِّ خيرٍ وصلاح وصالح ، لاسيما وهذا المقطع قد ارتبط بمصير الإنسان آخرويّاً{إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
وبهذا قد حكتْ هذه الآية الشريفة عن الهدف والحكمة من وجود الإنسان ، وهو التكامل بحسب الإمكان.
والتكامل الإنساني - هو نوع إضافة كميّة وكيفيّة تتحقق في مستوى العقل والعلم والمعرفة والسلوك والوعي ، بصورة دائمة في شخصية الإنسان ، تجعل طالب التكامل متوازناً في وجوده ، وقويماً وصالحاً في حياته .
إنَّ طلب الكمال والتكامل هو منزع فطري إنساني ، ينشده كلُّ عاقلٍ في هذه الحياة ،
لكن توجد ثمة موانع واقعيّة ومُفترضة أحياناً تجعل الإنسانَ في حيلولة من ذلك.
ويمكن لنا تبويبها اختصاراً بنقاط رئيسة أهمها:
أوّلاً - إهمال الإنسان الإفادة من قوى الخير والفطرة والعقل المودعة في كينونته :
علماً أنَّ الله تعالى قد زوّد الإنسانَ بطاقات كامنة وفيّاضة في فطرته وعقله ووجدانه ،
و إنَّ سورة الشمس قد اختزلت هذه الحقيقة في بُنيتها المفهوميّة قيميّاً .
قال تعالى: {َونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7}فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8}قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9}
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{10}}.
فالطاقات أو القابليات أو الاستعدادات الذاتية هي كامنة في كينونة الإنسان بالجعل الإلهي ، ووظيفته هنا تُختزل بتحريك هذه القوى أو الطاقات من وضع الركود والكمون إلى وضع الفعل والتحقق والإظهار ، ويمكن إنجاز هذه الوظيفة بصورة التكامل التدريجي وجوديّاً ، ولكن المعضل العملي يكمن في أنَّ الإنسان نفسه يهمل الإفادة من طاقاته ذاتيّاً ، بمعنى أنّه لم يطلب التكامل بفعل تعجيز ذاته وتعطيل قواه إراديّاً ، في وقتٍ يتطلبُ منه أن يتكامل بفعل إثارةٍ من فطرته وعقله ووجدانه .
وذلك لأنَّ التكامل الإنساني يتقوّم بمقوّماتٍ صلبة ، أهمها إحياء وظيفة العقل والفطرة والوجدان ، وإلى ذلك المعنى قد أشار الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)
في قوله:( قَدْ أَحْيَا عَقْلَه وأَمَاتَ نَفْسَه حَتَّى دَقَّ جَلِيلُه - ولَطُفَ غَلِيظُه وبَرَقَ لَه لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ - فَأَبَانَ لَه الطَّرِيقَ وسَلَكَ بِه السَّبِيلَ - وتَدَافَعَتْه الأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ ودَارِ الإِقَامَةِ - وثَبَتَتْ رِجْلَاه بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِه فِي قَرَارِ الأَمْنِ والرَّاحَةِ - بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَه وأَرْضَى رَبَّه)( ).
بمعنى أنّ على الإنسان الطالب للتكامل أن يتحرّك في تحصيل التكامل المعرفي والعلمي والأخلاقي ، ويتحقق ذلك بطلب العلم والمعرفة والتقوى والعبادة ، وإماتة النفس ، وهي تعبير كنائي عن قهر النفس الأمّارة بالسوء ،وترغيبها بالعبادة ، وجعلها مُطمئنةً ، بحيث لا يكون لها تصرّف على حدّ طباعها إلاّ بتوجيه العقل .
إنَّ التخلّص من هذه المعضلة معضلة إهمال الطاقة الفطرية والعقلية يتلخّص في الأخذ الإرادي والعملي عن أهل الكمال والتكامل الإنساني ، والقرآن الكريم قد أشار إلى ضرورة الأخذ ببصيرة ووعي وفطنة عن ما تطرحه العقيدة والشريعة الحقة في أغراضها الحكيمة.
قال تعالى: (( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) يوسف108 - ((لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ))12، الحاقة.
ثانياً - تجاهل الإنسان الحكمةَ من وجوده ، والتغافل عن المصير الذي ينتظره في النهاية الوجودية:
وتجاهل الحكمة من وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، إنّما يأتي نتيجة الغرور الذي يُهيمن على واقعه، ويجعله في عزله عن إدراك ووعي وجوده ، بصورة يفوت معها إمكان تكامله بالمرّة ، وإلى ذلك المعنى قد نبّه القرآن الكريم في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ{6}الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ{7}فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ{8}كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ{ }) سورة الانفطار ، ( وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ )14، سورة الحديد.
والذي يُرجع الإنسان إلى صوابه في حال تجاهل الحكمة من وجوده ،هو ضرورة اقتناعه ذاتيّاً بالغاية التي لأجلها خلقه الله تعالى ، قال تعالى: (َبلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ{14}وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ{15}سورة القيامة - (( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ))115، المؤمنون.
ثالثاً - ارتكاب الذنوب والمعاصي : وهذا مانعٌ لا يكاد يَسلم منه أحدٌ إلاّ مَن عصمَه اللهُ تعالى :
وذلك مُدرك لكلّ إنسانٍ في وجدانه، فإنّه حينما يذنب يجد نفسَه في وادٍ غير صالح وبعيد ، ومعلوم أيضاً أنَّ ارتكاب الذنوب يُفقد الإنسانَ عقله ووعيه ويجعله في غمرات الجهل والغفلة والتكذيب والاستهزاء، ممّا يحرِم الإنسانُ نفسَه من التكامل وتزكية نفسه وسلوكه ، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون }10، الروم -{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }14،المطففين .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat