صفحة الكاتب : زاهر حسين العبدالله

 الإمام الرضا عليه السلام ومواجهة الغلاة
زاهر حسين العبدالله

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)} – التوبة

 مقدمة: 

الآية المباركة تبين خطر اتخاذ عباد الله أربابًا من دون الله سبحانه، وقد سار أهل البيت عليهم السلام على نفس خط الرسالات السابقة، لأن دور أهل البيت عليهم السلام هو الهداية للناس، وذلك برفع راية التوحيد، وإعلاء كلمة "لا إله إلا الله"، وتعظيم من خصه الله بعنايته وهم النبي الأعظم محمد وآل محمد، ورفع المستوى العلمي والفكري والثقافي والاجتماعي حتى يصلوا إلى الصراط المستقيم. ولكن هذا الدور محاط بعدوين: الغلو في أهل البيت عليهم السلام، والتقصير في حقهم ومدح أعدائهم. وقد حذروا من هذين العدوين، كما ورد في الدعاء: "اللهم صل على محمد وآل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق، اللهم صل على محمد وآل محمد" (١) كان دور أهل البيت ولا يزال محاربة الفرق المنحرفة وأصحاب العقائد الفاسدة، ومن ضمنهم الغلاة الذين اتخذوا أهل البيت عليهم السلام أربابًا من دون الله، أو عظموهم إلى حد تفويض الخلق إليهم بنحو الاستقلال، أو زعموا أنهم يرزقون ويخلقون من دون الله مستقلين بذلك. وقد كثرت تعاريف الغلو في اللغة والاصطلاح، وسنأخذ المشهور منها: الغلو عند الشيعة يُعرف بشكل عام بأنه تجاوز الحدود الشرعية في الاعتقاد أو القول أو الفعل فيما يتعلق بالأئمة أو غيرهم من الشخصيات الدينية، وذلك برفعهم فوق منزلتهم التي أعطاهم إياها الله تعالى ورسوله (ص). مثل: الاعتقاد بألوهية الأئمة، أو الاعتقاد بأن الأئمة يعلمون الغيب بشكل مستقل، أو التفويض (أي الاعتقاد بأن الله فوض الخلق والرزق للأئمة). وللغلو ثلاثة أشكال: غلو في محبة أهل البيت (ع) غلو في التقصير عنهم غلو في التصريح بمثالب أعدائهم(١) 

(١) الغلو في محبتهم إلى حد الألوهية أن تعتقد بأنّ الأئمة (عليهم السلام) آلهة يُعبدون من دون الله، 

وهو كفر وشرك عظيم، وقد تبرّأ الأئمة (عليهم السلام) ممن ادّعى الربوبية فيهم، ولعنوهم، وحذروا شيعتهم من الارتباط بهم، ووضعوا ضابطة في التعامل مع محبتهم ووضعهم في مكانتهم من العبودية للحق سبحانه وتعالى. ومما ورد: في تفسير الإمام، عن أبي محمد العسكري، 

عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا تتجاوزوا بنا العبودية، ثم قولوا ما شئتم، ولا تغلوا، وإياكم والغلو كغلو النصارى، فإني بريء من الغالين". (٢) 

وورد عن كامل التمار قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام ذات يوم، فقال لي: "يا كامل، اجعل لنا ربًّا نؤوب إليه؟ وقولوا فينا ما شئتم". 

(٣) وروي عن الصادق عليه السلام: "يا مالك ويا خالد! متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟" فقلنا: ما خطر ببالنا إلا الساعة، فقال: "اعلما أن لنا ربًّا يكلؤنا بالليل والنهار نعبده، يا مالك ويا خالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين"، فكررها علينا مرارًا. (٤) 

الغلو إلى حد تفويض الخلق والرزق لهم عليهم السلام بشكل مستقل وقد كذّب أهل البيت عليهم السلام التفويض المستقل، والدليل ورد في دعاء الإمام الرضا (عليه السلام): "اللهم لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين، اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين، اللهم لا تليق الربوبية إلا بك ولا تصلح الإلهية إلا لك، فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك، والعن المضاهئين لقولهم من بريتك. اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، اللهم من زعم أنا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براء منه، كبراءة عيسى بن مريم عليه السلام من النصارى، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يدّعون، ولا تدع على الأرض منهم ديّارًا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا". (٥)

 

هل تصدّى الإمام الرضا عليه السلام للغلاة؟ وماذا وجه الأمة في ذلك؟ 

للإمام الرضا عليه السلام أدوار في ذم الغلاة والتحذير منهم، فقد تصدى الإمام لكل الفرق والتيارات المنحرفة التي تأسست أو وجدت في زمانه، ومن أبرزها:

 أ - حركة الغلو والغلاة، وقام بالرد على جميع ألوان وأقسام الانحراف العقدي والفكري لها، وكان يستهدف الأفكار والأقوال تارة، كما يستهدف الواضعين لها والمتأثرين بها تارة أخرى. 

ب - وله ردود عديدة على الغلاة والمجسّمة والمجبِرة والمفوّضة. 

ج - الفرق غير الإسلامية كالزنادقة واليهود والنصارى وغيرهم. 

ودعا الإمام الرضا عليه السلام إلى مقاطعة المنحرفين عقائديًا كالغلاة والمجبِرة والمفوّضة مقاطعة شاملة وكلية، لمنع تأثيرهم السلبي في الأمة، وأسند هذه الأوامر إلى آبائه الأطهار. شواهد من مواجهة الإمام الرضا عليه السلام للغلاة: قال عليه السلام: "الغلاة كفار، والمفوّضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم، أو شاربهم، أو واصلهم، أو زوّجهم، أو تزوّج منهم، أو آمنهم، أو ائتمنهم على أمانة، أو صدق حديثهم، أو أعانهم بشطر كلمة، خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولايتنا أهل البيت". (٦) ومن أقوال الرضا عليه السلام: "لعن الله الغلاة، إن كانوا يهودًا، أو كانوا مجوسًا، أو كانوا نصارى، أو كانوا قدريّة، أو كانوا مرجئة، أو كانوا حرورية... ثم قال: لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم، وابرؤوا منهم، برئ الله منهم". (٧)

 

(٢) غلو في التقصير عنهم – غلو في التصريح بمثالب أعدائهم 

 

من صور الغلو هو التقصير في حق مقامات أهل البيت عليهم السلام، ومساواتهم بغيرهم، أو نفي فضائلهم، أو وضع فضائلهم المشهورة لأعدائهم. وهناك شواهد من الروايات تبين هذا المعنى. فعن إبراهيم بن أبي محمود: 

فقلت للرضا: يا بن رسول الله، إن عندنا أخبارًا في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام وفضلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم، أفندين بها؟ 

فقال: يا ابن أبي محمود، لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جده عليه السلام، أن رسول الله (ص) قال: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس". ثم قال الرضا (ع): "يا ابن أبي محمود، إن مخالفينا وضعوا أخبارًا في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا. وقد قال الله عز وجل: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) يا ابن أبي محمود، إذا أخذ الناس يمينًا وشمالًا، فالزم طريقتنا، فإنه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه، إن أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة: هذه نواة، ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه، يا ابن أبي محمود، احفظ ما حدثتك به، فقد جمعت لك خير الدنيا والآخرة". (٨)

 

أما الحد الأوسط في التعامل مع فضائل أهل البيت عليهم السلام 

فهو: هناك روايات تبين الحد الأوسط الذي يضعنا في الخط الوسط فلا نغالي ولا نقصر، منها: ما قاله الإمام الرضا عليه السلام حينما لقي المأمون العباسي، فقال المأمون: بلغني أن قومًا يغلون فيكم، ويتجاوزون فيكم الحد! فقال عليه السلام: "حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تبارك وتعالى اتخذني عبدًا قبل أن يتخذني نبيًا)، قال الله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} (٧٩) – آل عمران". (٩)

 وكذلك الرواية التي ذكرناها آنفًا (عن ابن أبي محمود) تضع الحد الوسط فيهم عليهم السلام.

 

الخلاصة: إن الإمام الرضا عليه السلام وضع الخط الوسط في التعامل مع فضائل أهل البيت عليهم السلام، وتصدّى للغلاة وأفكارهم المنحرفة بكل قوة وحزم، محذرًا من الانسياق وراء أفكارهم، ومبيِّنًا للأمة خطأ منهجهم، وآمرًا بمقاطعتهم حتى يمنع أي تأثير سلبي لهم على المسلمين.

 

✍️ زاهر حسين العبدالله

 https://t.me/zaher000

 

 

المصادر: 

(١) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٨٧ - الصفحة ٢٠ 

(٢) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٥ - الصفحة ٢٧٤ 

(٣) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٥ - الصفحة ٢٨٣ 

(٤) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٥ - الصفحة ٢٨٩ 

(٥) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٥ - الصفحة ٣٤٣

 (٦) عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج ١ - الصفحة ٢١٩

 (٧) عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج ١ - الصفحة ٢١٨ 

(٨) عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج ٢ - الصفحة ٢٧٢ 

(٩) عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج ١ - الصفحة ٢١٧

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زاهر حسين العبدالله
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/05/08



كتابة تعليق لموضوع :  الإمام الرضا عليه السلام ومواجهة الغلاة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net