كلمة امة في القرآن الكريم (بعثنا في كل أمة رسولا) (ح 70)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قال الله تعالى عن أمة "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" ﴿النحل 36﴾ "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ" أي: في كل جماعة وقرن "رسولا" كما بعثناك يا محمد رسولا إلي أمتك "أن اعبدوا الله" أي: ليقول لهم اعبدوا الله "وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" أي: عبادة الطاغوت وأن هذه هي المفسرة ويعني بالطاغوت الشيطان وكل داع يدعوإلي الضلالة "فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ" معناه: فمنهم من هداه الله بأن لطف له بما علم أنه يؤمن عنده فآمن فسمى ذلك اللطف هداية ويجوز أن يريد فمنهم من هداه الله إلى الجنة بإيمانه ولا يجوز أن يريد بالهداية هنا نصب الأدلة كما في قوله " أما ثمود فهديناهم" لأنه سبحانه سوى في ذلك بين المؤمن والكافر. "وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ" معناه: ومنهم من أعرض عما دعاه إليه الرسول فخذله الله فثبتت عليه الضلالة ولزمته فلا يؤمن قط وقيل معناه وجبت عليه الضلالة وهي العذاب والهلاك وقيل معناه ومنهم من حقت عليه عقوبة الضلالة عن الحسن وقد سمى الله سبحانه العقاب ضلالا بقوله "إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ".
وعن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قال الله تعالى عن أمة "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ " فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ " فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (النحل 36) "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً" كما بعثناك في هؤلاء "أن" بأن "اعبدوا الله" وحدوه "واجتنبوا الطاغوت" الأوثان أن تعبدوها، "فمنهم من هدى الله" فآمن "ومنهم من حقت" وجَبَتْ "عليه الضلالة" في علم الله فلم يؤمن، "فسيروا" يا كفار مكة "في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" رسلهم من الهلاك.
عن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قال الله تعالى عن أمة "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" ﴿النحل 36﴾ بعض هذه الأمم - الطائفة الثانية منهم – هو من حقت عليه الضلالة أي ثبتت ولزمت، وهذه الضلالة هي التي من قبل العبد بسوء اختياره وليس بالتي تتبعها مجازاة من الله فإن الله يصفها بقوله: حقت ثم يضيفها في الآية التالية إلى نفسه إذ يقول: "فإن الله لا يهدي من يضل" فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت وثبتت بإثبات الله مجازاة فصارت هي التي من قبل الله سبحانه مجازاة، فتبصر. ولم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه إضلالا إلا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أوفسق أوكفر وتكذيب أونظائرها كقوله: "وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (الجمعة 5) وعدم الهداية هو الإضلال، وقوله: "وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم 27)، وقوله: " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ" (البقرة 26)، وقوله "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ" (النساء 168-169)، وقوله: "فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" (الصف 5)، إلى غير ذلك من الآيات. ولم يقل سبحانه: فمنهم من هدى الله ومنهم من أضله مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من إضافته إليه تعالى دفعا لإيهام نسبة أصل الضلال إليه بل ذكر أولا من هداه ثم قابله بمن كان من حقه أن يضل وهو الذي اختار الضلالة على الهدى أي اختار أن لا يهتدي - فلم يهده الله وحق له ذلك. وتوضيحه ببيان آخر: أن خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي ونسبته إلى العبد والضلال مجازاة ونسبته إليه تعالى ونسبة الهداية ابتداء ومجازاة إلى الله سبحانه هي أن الله أودع في الإنسان إمكان الرشد واستعداد الاهتداء فإن جرى على سلامة الفطرة ولم يبطل الاستعداد باتباع الهوى والمعصية أوأصلحه بالندامة والتوبة بعد المعصية هداه الله، وهذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الأولى الفطرية. وإن اتبع هواه وعصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى وهو ضلاله بسوء اختياره فإن لم يندم ولم يراجع أثبته الله على حاله وحقت عليه الضلالة وهو الضلال مجازاة. وربما توهم متوهم أن الإمكان والاستعداد لا يكون إلا ذا طرفين فالذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال والإنسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية وأفعال مثبتة والجميع منه تعالى حتى الاستعداد والإمكان الأول. وهو من أوهن التوهم فإن عد إمكان الضلال وما يترتب عليه الضلال أمرا وجوديا وعطاء ربانيا يفسد معنى الضلال ويبطله فإن الضلال إنما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلوعاد أمرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى والضلال كلاهما أمرين وجوديين وعطاءين إلهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الآثار الوجودية الخارجة عن الهدى والضلال. وبعبارة أخرى: الضلال إنما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى ومن الواجب حينئذ أن يكون عدم الهدى وإذا أخذ أمرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد وضال ولا حاله إلى هدى وضلال فلا مفر من أخذ الضلال أمرا عدميا، ونسبة الضلال الأول إلى نفس العبد. فأحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قال الله تعالى عن أمة "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" ﴿النحل 36﴾ "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا". (الأُمّة): من الأم بمعنى الوالدة، أو بمعنى: كل ما يتضمّن شيئاً آخر في دخله، (ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف (أُمّة). ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن والبالغة (64) مورداً. ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياء عليهم السلام، بالقول: "أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ". فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأُولى لتحركهم هي الدعوة إِلى التوحيد ومحاربة الطاغوت، وذلك لأنّ أُسس التوحيد إِذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيُّ برنامج إصلاحي. (الطاغوت): (كما قلنا سابقاً) صيغة مبالغة للطغيان. أيْ التجاوز والتعدي وعبور الحد، فتطلق على كل ما يكون سبباً لتجاوز الحد المعقول، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان، الصنم، الحاكم المستبد، المستكبر وعلى كل مسير يؤدي إِلى غير طريق الحق. وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضاً وإِنْ جُمعت أحياناً بـ (الطواغيت). ونعود لنرى ما وصلت إِليه دعوة الأنبياء عليهم السلام إِلى التوحيد من نتائج، فالقرآن الكريم يقول: "فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ". وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استناداً إِلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة لعقيدتهم. ولكن قلنا مراراً إِنّ آيات الهداية والضلال إِذا جمعت وربط فيما بينها فلن يبقى هناك أيُّ إِبهام فيها، ويرتفع الإِلتباس من أنّها تشير إِلى الجبر ويتّضح تماماً أن الإِنسان مختار في تحكيم إِرادته وحريته في سلوكه أيّ طريق شاء. فالهداية والإِضلال الالهيين إِنّما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو عدمها في أفكار وممارست الإِنسان نفسه، وهو ما تؤكّده الكثير من آيات القرآن الكريم. فاللّه عزَّوجلّ (وفق صريح آيات القرآن) لا يهدي الظالمين والمسرفين والكاذبين ومَنْ شابههم، أما الذين يجاهدون في سبيل اللّه ويستجيبون للأنبياء عليهم السلام فمشمولون بألطافه عزَّ وجلّ ويهديهم إِلى صراطه المستقيم ويوفقهم إِلى السير في طريق التكامل، بينما يوكل القسم الأوّل إِلى أنفسهم حتى تصيبهم نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل. وحيث أنّ خواص الأفعال وآثارها ـ الحسنة منها أو القبيحة ـ من اللّه عزَّوجلّ، فيمكن نسبة نتائجها إِليه سبحانه، فتكون الهدايه والإِضلال الهيين. فالسنّة الإِلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا الناس إِلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشياً مع الفطرة الإِنسانية، ومن ثمّ فمن يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فرداً كان أم جماعة يكون جديراً باللطف الإِلهي وتدركه الهداية التكوينية. نعم، فها هي السنّة الإِلهية، لا كما ذهب إِليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار مذهب الجبر من أنّ اللّه يدعوا الناس بواسطة الأنبياء، ومن ثمّ يخلق الإِيمان والكفر جبراً في قلوب الأفراد (من دون أيّ سبب) والعجيب أنّه لإجمال للتساؤل ولا يسمح في الإستفهام عن سبب ذلك من اللّه عزَّوجلّ. فما أوحش ما نسبوا اليه سبحانه. إنّما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة والمنطق؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat