التوكل على الله سر الموفقيّة في الحياة
الشيخ جاسم الأديب
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ جاسم الأديب

ؤ
بالطبع لاتخلو الحياة من الابتلاءات والمحن والفتن، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (1).
وقال عزّ من قائل: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (2).
ولايخفى أنّ امتحان الله العباد له حكم كثيرة منها ليميز الله الطيّب من الخبيث، قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (3).
بالطبع موفّقية الإنسان في امتحانات الدنيا وعدم سقوطه في مهاويها يحتاج إلى توفيق من الله، وتوكل من العبد في أموره.
ومن هنا أكد في الإسلام على التوكل بشكل كبير، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (4).
وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (5).
وقال (صلى الله عليه وآله): لو أن رجلاً توكل على الله بصدق النيّة لاحتاجت إليه الأُمراء فمن دونهم! فكيف يحتاج هو ومولاه الغني الحميد؟ (6).
بل إنّ التوكل من أركان الإيمان وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: الإيمان له أركان أربعة: التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله(7).
حقيقة التوكل
فسّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) التوكل في حديث له سأل فيه جبرئيل عن التوكل، فقال: وما التوكل على الله عزوجل؟
فقال: العلم بأنّ المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يرج ولم يخف سوى الله ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكل (8).
وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن حد التوكل، قال: أن لاتخاف مع الله شيئاً (9).
التوكل المنهي عنه
هناك مفهوم خاطيء للتوكل نهى عنه أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم وحذّروا منه، وهو الإتكال وترك الأخذ بالأسباب والمسبّبات، ففي أحد الأيام مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على قوم، فرآهم أصحاء جالسين في زاوية المسجد، فقال (عليه السلام): من أنتم؟
قالوا: نحن المتوكلون.
قال (عليه السلام): لا بل أنتم المتأكلة، فان كنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم؟
قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، قال (عليه السلام): هكذا تفعل الكلاب عندنا.
قالوا: فما نفعل؟
قال: كما نفعل.
قالوا: كيف تفعل؟
قال (عليه السلام): إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا (10).
وذات يوم رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوماً لا يزرعون، قال: ما أنتم؟
قالوا: نحن المتوكلون، قال: لا بل أنتم المتّكلون (11).
وعن علي بن عبد العزيز، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ما فعل عمر بن مسلم؟
قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال: ويحه أما علم أن تارك الطلب لا يستجاب له، إن قوماً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما نزلت: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة، وقالوا: قد كفينا فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فأرسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟
قالوا: يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب (12).
علاوة على ذلك حذّر في الإسلام عن التوكل على غير الله تعالى، وأنّ من يتكل على الآخرين يكله الله تعالى إليهم، ففي الحديث عن الإمام الجواد عليه السلام: من انقطع إلى غير الله وكله الله إليه (13).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقول الله عزّوجلّ: مامن مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات والأرض من دونه (فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض برزقه)، فإن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته، وإن استغفر لي غفرت له (14).
معطيات التوكل
هناك معطيات مهمة تنعكس على حياة المتوكلين على الله تعالى أهمها:
1- التوكل قوّة: فمن يتكل على الله عزّ وجلّ يشعر بقوة عظيمة لأنه يستند على القوة المطلقة التي ليس فوقها قدرة أخرى، وإلى يشير الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله: من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله (15).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): من توكل على الله لايغلب، ومن اعتصم بالله لايهزم (16).
2- تذليل الصعاب: وهي فائدة كبيرة يطلبها الناس في غير التوكل على الله عزّ وجلّ ولايجدونها، بينما المتوكلين على الله تذلّل لهم الصعاب وتيّسر لهم الأمور، قال (عليه السلام): من توكل على الله ذلّت له الصعاب، وتسهلّت عليه الأسباب (17).
3- التخلّص من عناء الحرص: كثير من الناس يصابون بالحرص الشديد على أمور الدنيا ويبقون حائرين كيف يتخلّصون من ذلك الداء العظيم دون أن يعلموا أنّ التوكل على الله تعالى وإيكال الأمور إليه كفيلة بطرد هذا الداء الخطير من حياتهم.
وإلى ذلك يشير (عليه السلام) في قوله: كيف يتخلّص من عناء الحرص من لم يصدق توكله؟ (18)
4- كفاية المؤونة: تعهّد الله عزّ وجلّ أن يكفي من يتوكل عليه ويصونه من الحاجة إلى الآخرين، بالطبع ذلك مشروط بالثقة بالله تعالى، ففي الحديث عن الإمام علي (عليه السلام): يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به، فإنّه يكفي ممّن سواه (19).
مواطن التوكل على الله
التوكل على الله تعالى مرغوب في كل الحالات، ولكن هناك بعض المواطن يحتاج فيها الإنسان إلى الاتكال على التوكل على الله أكثر من غيرها من أهم تلك المواطن هي:
الأول: التوكل عند البلاء: لاتخلو حياة الإنسان والابتلاءات العسيرة التي تلمّ به فتكدّر عليه صفو العيش وحلو الحياة، في مثل هكذا مواطن يحتاج المرء إلى معين يسنده ويشد من أزره، ولايوجد خير من الله تعالى يتخذه العبد كسند له، ففي الدعاء نقول: يا عِمادَ مَنْ لاعِمادَ لَهُ يا سَنَدَ مَنْ لاسَنَدَ لَهُ، يا ذُخْرَ مَنْ لا ذُخْرَ لَهُ، يا حِرْزَ مَنْ لا حِرْزَ لَهُ، يا كَهْفَ مَنْ لا كَهْفَ لَهُ، يا كَنْزَ مَنْ لا كَنْزَ لَهُ، يا رُكْنَ مَنْ لا رُكْنَ لَهُ يا غِياثَ مَنْ لاغِياثَ لَهُ، يا جارَ مَنْ لا جارَ لَهُ يا جارِيَ اللّصِيقَ، يا رُكْنِيَ الوَثِيقَ، يا إِلهِي بِالتَّحْقِيقِ (20).
وبالرغم أنّ الباري تعالى تعهد بأن يكون حسيب من يتوكل عليه، فقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ َحسْبُهُ (21)، ولكن الأمر يحتاج إلى صدق في التوكل وثبات، وتوفيق منه تعالى، ولذا نطلب منه أن يوفقنا في التوكل عليه حين البلاء، ففي دعاء ليلة عرفة نقول: اللهم إني أعوذ بك فاعذني، واستجير بك فأجرني، واسترزقك فارزقني، وأتوكل عليك فاكفنى، واستنصرك على عدوي (عدوك) فانصرني، واستعين بك فأعني، واستغفرك يا الهي فاغفر لي، آمين آمين آمين (22).
ويقال: أنه لما أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة عند نهر كوثا من قرية قطنانا وأوقد النار فعجزوا عن رمي إبراهيم فعمل لهم إبليس المنجنيق فرمي به، فتلقاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟
فقال: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار فإن خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد، وأتاه ملك الريح، فقال: لو شئت طيرت النار، قال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل الله، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي (23).
2- التوكل في الرخاء: كثير من الناس يلجأون إلى تعالى في الشدائد ولكنهم في الرخاء ينسون ماكانوا عليه من التوسل والارتباط بالله، هكذا أناس يصدق عليهم قول الله تعالى: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (24).
بينما هناك ثلة من الناس ثابتي الجأش لايلهيهم عن التوكل عن الله تعالى شيء، ففي كل حال تجدهم متوكلين على الله مفوضي أمرهم إليه لاتغيرهم عن ذلك أمور الدنيا بزبارجها ومغرياته.
......................................
(1) سورة الأنبياء: 35.
(2) سورة العنكبوت: 2.
(3) سورة آل عمران: 179.
(4) سورة الطلاق: 3.
(5) سورة المائدة: 23.
(6) مشكاة الأنوار ص52.
(7) تحف العقول ص223.
(8) معاني الأخبار ص260.
(9) وسائل الشيعة ج15 ص202 ح20279.
(10) مستدرك الوسائل ج11 ص220.
(11) مستدرك الوسائل ج11 ص217.
(12) الكافي ج5 ص84.
(13) بحار الأنوار ج68 ص155.
(14) مستدرك الوسائل ج11 ص214.
(15) روضة الواعظين ص426.
(16) مشكاة الأنوار ص51.
(17) محاسبة النفس للكفعمي ص118.
(18) غرر الحكم حكمة رقم 8128.
(19) بحار الأنوار ج33 ص347.
(20) دعاء المشلول.
(21) سورة الطلاق: 3.
(22) مصباح المتهجد ص270.
(23) بحار الأنوار ج68.
(24) سورة النحل: 53-54.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat