صفحة الكاتب : محمد قاسم الطائي

ومضات من سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام)
محمد قاسم الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كان لسجين بغداد حكاية أخرى لا يشبهها شيء من حكايات عصره الزاخر . كان ذلك السجين متوجاً بسيرة العلم الرباني والخلق والعبادة والتقى بأرفع درجات الاصطفاء، كان صوت مظلوميته المعتم عليها أقوى من صوت حفلات الرشيد وأساطيل جيشه .ظن سلاطين بني العباس أن سور بغداد اللامع سيطمر سريعاً تلك الأنفاس المنحدرة من سلالة النبوة وستنتهي، ثم لا يتعدى وجودها حدود الزنازين . مشكلة أنظمة الحكم لفرط شهوة الرئاسة الجامح لديها، غالباً ما تظن أن سراب الأمنيات الغارقة فيه، حقائق ستصمد بوجه الرياح العاتية، لكن سرعان ما تصطدم بحجر الواقع فتفشل ويذهب بريق حكمها من غير رجعة .لم يدرك هارون أن حاضرة بغداد التي غنى لها الشعراء كثيراً ورقصت لها الجواري بمحضره، ستكون ملكاً لموسى بن جعفر، ملكها بمشاعر القلوب وفيض الحب الخالص غير المحدود، فأصبحت معالماً هادية لا تستبدل .بجنب القصور التي ابتهج الرشيد لمنظرها كانت غير بعيد طوامر موسى بن جعفر قابعة يسودها الوحشة والانزواء . وفي ذلك عبرة لأولي الألباب، يستخلص أن الدنيا دار العجائب! دار جمعت بين مسارح الأضداد ، جمعت بين خطوب البلاء وفترات الرخاء، ونفس الرخاء منوط بالسعي والتعب والمكابدة، وجمعت بين اللذة والألم، وكل لذاتها ناشئة من دافع الألم والاحتياج والنقص، كما أنها مشوبةٌ بألوان من التنغيص والتكدير والمشقة، وبحد وصف الأمير صلوات الله عليه: ( ما أصف من دارٍ أولها عناءٌ وآخرُها فناءٌ، وفي حلالها حسابٌ، وفي حرامها عقاب مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ )١ وجرياً بين مفارقات الطوامير والقصور، كانت جنازة كاظم الغيظ مطروحة على الجسر ببغداد والمنادى عليها بذل الاستخفاف، ليت شعري أي غربة هذه! تنتهي بمشهد بين أسف المشيع وشماتة الطاعن!

واجه الامام في مسيرته جملة من العوائق والصراعات العقائدية والسياسية، الأول كان الصراع الداخلي الشيعي الذي تفجر بعد وفاة والده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لسنة" ١٤٨ هــ" الذي كان منصباً حول مسألة الامام الشرعي بعد رحيل الصادق، والذي زاد في الأمر تعقيداً وغموضاً لدى عموم الجمهور الشيعي آنذاك أن الامام العظيم الصادق صلوات الله عليه بالنظر لحساسية الموقف المُشدد حوله لم يترك وصية رسمية حول اسم الامام الذي بعده، في الوقت ذاته أن خطورة دعاوى الامامة أخذت وقعها في الساحة، خصوصاً لما ازداد الجدل والخلاف بين كبار تلامذة الامام الصادق حول إمامة عبد الله الأفطح .

عالج الامام الكاظم هذه المسألة بثلاث خطوات أساسية بأسلوب العلم والحكمة والمصلحة في إدارة هذه الخلافات المتأزمة، وكــ.عينه على ذلك فقد روت المصادر الأولية في رواية طويلة أن هشام بن سالم ومحمد بن النعمان صاحب الطاق ومعهم بعض الشيعة الخواص، حاصل الرواية حينها أن الناس مجمعون على إمامة عبد الله بن جعفر وهو أخ الامام موسى وأكبر منه سناً، لكن لما جرت المحاورة بين هشام بن سالم ومحمد بن النعمان، وبين عبد الله بن جعفر من خلال طرح الأسئلة والإجابة عليها اكتشفوا أن عبد الله لم يكن أهلاً لساحة الامامة الإلهية، فضلاً عن عدم معرفته الكافية ببعض الأحكام الشرعية، فهشام وصاحب الطاق نتيجة للمعاشرة الطويلة مع الامام الصادق وتعاليمه مكنهم من الخبرة والفراسة في معرفة لحن كلام الامام وتمييزه عن غيره، ثم لما خرجوا من عند عبد الله وهم في حيرة وتشتت بل بكاء كما وصف هشام بن سالم الحالة التي كانوا عليها قال: « فخرجنا ضُلّالاً لا ندري إلى أين نتوجه، أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكيين لا ندري أين نتوجه إلى من نقصد، نقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى المعتزلة، إلى الزيدية، إلى الخوارج ..» وهنا الموقف المنقذ للإمام موسى بن جعفر في إنارة الحق الذي كانوا يبحثون عنه، وقطع طريق الباطل عليهم ، من خلال إتمام الحجة عليهم بنفسه، وإذا به (سلام الله عليه) قال لهم "« إليّ إليّ، لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، ولا إلى الزيدية قلت: جعلت فداك، مضى أبوك؟ قال: نعم قلت: مضى موتاً؟ قال: نعم قلت: فمن لنا من بعده؟! قال (عليه السلام):" إن شاء الله أن يهديك هداك" قلت والكلام [لهشام بن سالم]: جعلت فداك، إن عبد الله أخاك يزعم أنّه الإمام بعد أبيه، فقال: عبد الله يريد ألا يُعبد الله، وهنا هشام تدرج في أسئلته كي يصل لبغيته التي يبحث عنها .قلت: جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال: إن شاء الله أن يهديك هداك قال: قلت: جعلت فداك، فأنت هو؟ قال: لا أقول ذلك! قال[ هشام]: فقلت: في نفسي: لم أصب طريق المسألة، ثم قلت له: جعلت فداك، عليك إمام؟ قال: لا قال: فدخلني شيء لا يعلمه إلا الله إعظاماً له وهيبة، ثم قلت: جعلت فداك، أسألك كما كنت أسأل أباك؟ قال: سل تُخبر ولا تُذع، فإن أذعت فهو الذبح، قال: فسألته فإذا هو بحر لا ينزف، قلت: جعلت فداك، شيعة أبيك ضُلّال، فألقي إليهم هذا الأمر وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليّ الكتمان، قال له الإمام: من آنست منهم رشداً فألقِ إليه وخُذ عليه بالكتمان، فإن أذاع فهو الذبح..»٢
وفي نهاية الأمر بحسب مضمون الرواية فإن هشام لقي أبا جعفر الأحول وزرارة وحدثهما بالقصة، فدخلا على الإمام وسمعا كلامه الشريف وسألاه، ولم يبقى مع عبد الله إلا جماعة عمار الساباطي ، وبعد هذه الحادثة الهامة لم يدخل على عبد الله إلا القليل من الناس .
الأمر الثاني الصراع المذهبي تعامل الإمام مع هذا الملف بمنتهى الحكمة والمواقف العملية الناجعة التي أثرت حتى في أولئك الذين كانوا يضمرون له العداوة والكراهية، والذين كانوا يؤذونه بكلماتهم من خلال سب جده أمير المؤمنين (عليه السلام) أمامه، وفي إحدى المرات أراد أصحابه قتل الرجل الذي كان يشتم الإمام دائماً، لكن الامام رفض ذلك، ونتيجة لأخلاق الامام الزاكية التي بهرته، فقد قال الرجل لما سُئل عن سبب تغيره مع الامام أجاب: ( اللهُ أعلمُ حيثُ يجعل رسالته) وثمة قصص كثيرة لا يسع المجال لعرضها، فالإمام حقاً كان كاظم الغيظ لقباً وعنواناً ومضمونا ًورسالة، فهو المصداق الأوضح لقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ٢
هذه المواقف السلوكية الإعلائية اعطت انطباعات مثمرة حتى لدى بعض خصوم الإمام وألد اعدائه كعيسى بن جعفر بن المنصور الذي كان والي البصرة، والذي بقي الامام عنده محبوساً بحدود السنة في البصرة، وقد نشر جواسيسه لمراقبة كل أنشطة الامام داخل المعتقل، ومن ثم إرسال التقارير إلى هارون في بغداد، فكتب إليه عيسى بن جعفر قائلاً : « قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة»٤ بل قام عيسى بن جعفر من خلال جنوده وعيونه بمراقبة حتى أدعية الإمام العبادية ماذا يقول فيها وهل فيها شيء على سلطتهم، والمفروض الدعاء أمر شخصي بالسجين لا علاقة لها بالقضية المدان فيها، مع ذلك لم يرى عيسى بن جعفر وجماعته من الإمام إلا العبادة والتهجد والدعاء للأمة بالرحمة والمغفرة، وبهذا شعر عيسى بفداحة الحرج من وجود الإمام عنده، صرّح لهارون مؤكداً: «ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه، فما دعا عليك ولا عليّ، ولا ذكرنا في دعائه بسوء، وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليّ من يتسلمه مني وإلا خليت سبيله، فإنني متحرج من حبسه»٥ وبهذا يتضح بدقة أن الامام كان جوهرة السلام والرحمة واللطف حتى في مسأله عباداته وآلامه ومظلوميته، ومن خلال مفردات سلوكه العبادي والأخلاقي فهو يضع مبدأ التعايش السلمي في سلم الأولويات الأساسية .


الأمر الثالث والأخير صراع السلطة، فالإمام كان من نصيب الأمة من خلال قنوات جهوده الخيرية وزرع الطاقات المؤمنة والمتدينة في الوسط المجتمعي، بل وضرورة المشاركة والدخول حتى في أجهزة الدولة بشرطية تحقيق الغرض الأسمى منه وهو خدمة المؤمنين، فقد قالوا (عليهم السلام) كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان، ومسألة العمل مع السلطان من المسائل الحساسة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، معونة الظلمة من المحرمات التي تشدد الشرع كثيراً في حرمتها وخطورتها الوخيمة حتى جاء في بعض روايات الأئمة (عليهم السلام) عن أحدهم سأل الإمام" إني رجل أخيط للسلطان ثيابه ، فهل تراني بذلك داخلاً في أعوان الظلمة؟! قال له : المعين من يبيعك الإبر والخيوط ، وأما أنت فمن الظلمة أنفسهم»٦

استطاع الامام الكاظم عليه السلام أن يوصل أشخاصاً لمنتهى القمة في الكمال والتألق الروحي والعلمي وفق نهج آبائه الأطهار (صلوات الله عليهم)، وأولئك الشخوص لم يقفوا مكتوفي الأيدي بل توسعت مشاركاتهم بشتى الأنحاء الحياتية، ومنهم عمل في الدولة العباسية في أعلى مراتبها، ولا يبعد أن بعضهم أخذ أحكامه وتوجيهاته بشكل سري من الامام؛ ونموذج ذلك الوزير علي بن يقطين الذي تخرج من مدرسة موسى بن جعفر وهو في أعلى درجات التقى والولاء الصادق لآل بيت النبوة، حتى كاد أن يطاح به لولا عناية الامام وإرشاداته الحكيمة، وإذا كان برتبة وزير- كمنصب سياسي- وهو يوالي الامام ومن الشيعة الخُلّص له، فهذا يعني أن جهود الامام المباركة شكلت اختراقاً للسلطة العباسية في أعلى المستويات والرتب، وهو ما يفسر أن الامام موسى الكاظم (عليه السلام) كون نظاماً رسالياً هادفاً ضمن دائرة الوحي الإلهي للأخذ بخطى الأمة لطريق الحق والهداية، وهو ما يرجّح أن ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي تسببت في اعتقال الإمام واغتياله، وإلا فالقضية أكبر من مجرد وشاية شخصية متعلقة بالحقوق الشرعية، كما ذلك لا يضر بمدخليتها في إطار هذا العنوان .فالسلطة الهارونية نموذج سلوكي للفساد والاستبداد والتهتك الأخلاقي الفضيع، والمظلومية الموسوية مرآة ونموذج في الإصلاح والعدل والنزاهة، وفي نهاية المطاف كان حليفها النصر والبقاء، فالمشارك في السلطة إذا لم يتسم بالعدل والأمانة والصلح فهو هاروني الخُلق والسلوك،
وأن ادعى حب الكاظم عليه السلام .لا توجد سلطة بالمعنى الدقيق في الاسلام، فهذه اصطلاحات وضعية متأخرة لا قيمة لها في نفسها .الحكم والرئاسة لها أهلها وهم أهل بيت العصمة والطهارة، نعم إذا كانت وظيفة ما فالغرض النبيل منها خدمة الناس وقضاء حوائجهم، وخدمة أهل الايمان والتدين شرف وتوفيق، وإلى الله تصير الأمور .

 

_____
١- نهج البلاغة خطبة ٨٢

٢- اُنظر: الارشاد ج٢-ص ٢٢٢

٣-سورة آل عمران آية ١٣٤

٤- الإرشاد ج٢-٢٢٣، أما فيما يخص دعائه للأمة استناداً لمصادر أخرى بخلاف عبارة الإرشاد المذكورة .
٥-المصدر نفسه

٦-المكاسب المحرمة ج٢-ص٥٨


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد قاسم الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/02/14



كتابة تعليق لموضوع : ومضات من سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net