ملاحظات تعمّ الولايات التكوينية الشاملة - ج2
د . مظفر الشريفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . مظفر الشريفي

بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال
بسم الله الرحمن الرحيم
ثمرة الاعتقاد بالولايات الشاملة
ما هي الثمرة من الاعتقاد بامتلاك أهل البيت صلوات الله عليهم الولايات الشاملة؟ وما الضير إن لم تكن موجودة ولم نعتقد بها كما هو حال علمائنا الأقدمين الّذين نقلوا لنا بأمانةٍ مذهب آل محمد صلى الله عليه وآله؟
بعد كل ما قدمناه يتبين أن لا ثمرة تُقرِّب إلى الله تعالى أو تنفع البشرية في دينهم ودنياهم، فالواجب هو الاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وإمامة الإثني عشر سلام الله عليهم وطاعتهم، وهذا كافٍ في الامتثال للأوامر الإلهية والنجاة يوم القيامة. وامتلاك الولايات الشاملة لا علاقة له بتعريف النبوة والإمامة بمقتضى القرآن الكريم وأحاديث الأئمة سلام الله عليهم وأقوال أجلّة علمائنا[1].
ولو قال البعض بأن هذه الولايات تكشف عظيم شأن أصحابها، قلنا إن ما ثبت من الكتاب والسنة في بيان فضل أهل البيت صلوات الله عليهم كافٍ لبيان عظمتهم ورفعة منزلتهم عند الله تعالى للاعتبار والاقتداء بهم، ويضاف لهذا أن مضرة وجود هذه الولايات بتلك السعة التي ذكرها القوم كما فصلنا القول حول خطرها على عقيدة التوحيد أكثر من أي نفع يُدّعى لها، خاصة إذا علمنا أن أمر هذه الولايات لم يقل به أبرز علمائنا الأقدمين ومن تبعهم على هذا، أي إن أكثر المؤمنين لم يستفيدوا من هذه الفائدة المزعومة للولايات الشاملة لأنهم لا يعلمون بها ولم يروا أثراً لها.
إن الاعتقاد بالولايات الشاملة يجعل في نفوس العباد سلطاناً لغير الله كما له جلّ شأنه. وبهذا سوف لا يبقى معنى واضح للتوحيد سواء توحيد الخالقية أو توحيد الصفات أو توحيد الربوبية، فعن أي توحيد سيتحدثون وقد أشركوا العديد من الخلق بسلطان الله وسعة قدرته وبصفاته جلّ وعلا؟ وهذا لا نفع فيه مطلقاً في نشر التشيع لو كانوا حريصين على نشره، فهو لا يُقرِّب الآخرين من المذهب الحق، ويُنَفِّر منه، ويوفر ذريعة للنيل منه، لأنه مبني على غلوّ واضح، وبلا موافقة للقرآن الكريم. وبهذا يصبح المذهب منغلقاً على نفسه لا قابلية له على جذب الآخرين. وسيأتي بإذن الله تعالى ما يتعلق بهذا تحت عنوان "آثار الغلوّ ولوازمه".
ويحق لنا أن نسأل لو كان المعصومون صلوات الله عليهم يملكون العلم والقدرة المطلقتين وفق الولايات الشاملة فلماذا لم تنعم البشرية في أزمنتهم بتطور علمي بتأثيرهم - كما حدث في زماننا المعاصر على الأقل - في الطب أو الفيزياء أو الكيمياء أو علم النبات أو غيرها مما تحتاجه البشرية حاجة ماسة؟ ولماذا أخفَوا هذه القدرات التي لو استخدموها لَأحيت أنفساً ووفرت السعادة لكثير من الناس ولقرّبتهم من الدين، لأنهم سيجدون أن أئمة الدين قد طوّروا حياة البشرية نحو الأفضل؟ ولماذا بقي الشيعة في كل العصور يعانون من القتل والتشريد والفقر، وأحياناً من القتل الجماعي ولم يُسعفهم إمامهم سلام الله عليه بولايته التكوينية فيمنع عنهم السيارات المفخخة والقتل في المقابر الجماعية وإخراس من أفتى بقتلهم قبل أن يفتي، كالقاضي نوح الحنفي العثماني الذي تسبب بقتل أربعين ألفاً أو يزيدون في حلب على ما يروى في التاريخ[2]. ولذلك فما الحكمة من إيداع الله تعالى لهكذا قدرة عند من لا يستعملها لفائدة عباده؟
والجواب هو أنه والحال هذا من خفاء أمر الولايات الشاملة في الكون فلا تبدو ثمرة واقعية من وجودها، بل الحكمة في عدم وجودها، وهذا ما أيدته الرواية الشريفة التي نقلناها سابقاً عن الإمام المهدي سلام الله عليه: ﴿فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق عن أمرهم وعن أن يأتوا بمثله، كان من تقدير الله عزّ وجلّ ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه عليهم السلام مع هذه القدرة والمعجزات في حالة غالبين وفي أخرى مغلوبين، وفي حال قاهرين وفي أخرى مقهورين. ولو جعلهم الله عزّ وجلّ في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عزّ وجلّ، ولمَا عُرِف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختبار. ولكنه عزّ وجلّ جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجة الله ثابتة على من تجاوز الحد فيهم وادعى لهم الربوبية، أو عاند أو خالف وعصى وجحد بما أتت به الرسل والأنبياء عليهم السلام﴾[3].
إن أهل البيت صلوات الله عليهم لا يُنقِص من شأنهم عدمُ امتلاكهم هذه الولايات، فهم الأقرب إلى الله تعالى والأكرم عنده وهم أدلاء الله على حلاله وحرامه وقادة البشرية في أمور الدين. ولو أذعن الناس لقيادتهم وولايتهم الدينية والسياسية لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولَتطوّرت البشرية في كل نواحي الحياة، لأنهم كانوا سيَرعَون العلم الطبيعي والعلماء النافعين للبشرية. وهذا كله وفق الأسباب الطبيعية التي سارت عليها تعاليم الإسلام العظيم.
إن الدين الإلهي قائم بصورة أساسية على مناغمة العقل بالحجة الواضحة وليس بالمعجزات التي يكون دورها ثانوياً بعد إقامة الحجة على العِباد. وهذا ما بينه أمير المؤمنين سلام الله عليه بقوله: {وَيُثِيرُوا لَهُم دَفائِنَ العُقُولِ} في الخطبة التي جاء فيها: ﴿فَبَعَثَ فِيهِم رُسُلَه، وواتَرَ إِلَيهِم أَنبِياءَه لِيَستَأدُوهُم مِيثاقَ فِطرَتِه، ويُذَكِّرُوهُم مَنسِيَّ نِعمَتِه، ويَحتَجُّوا عَلَيهِم بِالتَّبلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُم دَفائِنَ العُقُولِ، ويُرُوهُم آياتِ المَقدِرَةِ، مِن سَقفٍ فَوقَهُم مَرفُوعٍ ومِهادٍ تَحتَهُم مَوضُوعٍ، ومَعايِشَ تُحيِيهِم وآجالٍ تُفنِيهِم وأَوصابٍ تُهرِمُهُم، وأَحداثٍ تَتَابَعُ عَلَيهِم﴾[4].
إن الاعتقاد بأن للأئمة سلام الله عليهم قدرة محدودة على الاتيان ببعض المعاجز بإذن الله تعالى إن كان ناتجاً عن دليل صحيح فلا بأس به ويقوِّي العقيدة بأحقيتهم في إمامة الأمة وخلافة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كما ذكر الشيخ الطوسي: (ويُبطل ذلك أيضاً "أي قول الواقفة" ما ظهر من المعجزات على يد الرضا عليه السلام الدالة على صحة إمامته، وهي مذكورة في الكتب. ولأجلها رجع جماعة من القول بالوقف مثل: عبد الرحمن بن الحجاج، ورفاعة بن موسى، ويونس بن يعقوب، وجميل بن دراج وحماد بن عيسى وغيرهم، وهؤلاء من أصحاب أبيه الذين شكّوا فيه ثم رجعوا. وكذلك من كان في عصره، مثل: أحمد بن محمد بن أبي نصر، والحسن بن علي الوشاء وغيرهم ممن قال بالوقف، فالتزموا الحجة وقالوا بإمامته وإمامة من بعده من ولده)[5]. أما كيفية الاتيان بهذه المعجزات فليس بالضرورة أن يكون ناتجاً عن ولاية تكوينية، فربما بسبب الدعاء.
متى امتلك أهل البيت صلوات الله عليهم الولايات الشاملة؟
متى امتلكوها؟ ومتى علموا بكل شيء؟
بمقتضى تعريف الولاية التكوينية بأنها تشمل قدرة المعصوم سلام الله عليه على التصرف فيما دون الله تعالى فإن الزمان لا يشكل حاجزاً أمامها وإن أهل البيت صلوات الله عليهم موجودون منذ الأزل مع هذه القدرة المطلقة. ويؤيد ما قلناه قول أحدهم: (فقد ثبت أن حدود الولاية التكوينية في غاية السعة، فهي دائرة واسعة الحدود من ناحية المتعلّق، ومن ناحية الزمان، وهذا يعني أن ولاية المعصومين عليهم السلام التكوينية من مجموع النواحي ولاية مطلقة الحدود)[6].
ووفق هذا يمكن الاشكال بأنهم صلوات الله عليهم كيف استحقوا هذا العطاء وهم موجودون منذ الأزل؟ متى تكلّفوا وتدرجوا في مراتب الكمال حتى وصلوا لهذه المرتبة؟ وقد قال تعالى: {وَأَنْ لَيسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [سورة النجم: 39]. وبمقتضى التعريف السالف فإنه لا تكليف ولا تدرّج في البين، وإنما حدث الأمر دفعة واحدة. وهذا يخالف ما ثبت من سيرتهم صلوات الله عليهم وأحاديثهم التي تدل على سعيهم الحثيث للترقي في مدارج الكمال والقرب إلى الله تعالى كما ذكرنا سابقاً من الروايات وكما عن الإمام الصادق سلام الله عليه: ﴿انظُر ما بَلَغَ بِه عَلِيٌّ عليه السلام عِندَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله فَالزَمْه فَإِنَّ عَلِيّاً عليه السلام إِنَّما بَلَغَ ما بَلَغَ بِه عِندَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله بِصِدقِ الحَدِيثِ وأَداءِ الأَمانَة﴾[7].
كما إن الخطابات القرآنية التي تأمرهم بهذا واضحة ذكرنا العديد منها كقوله تعالى: {فَاستَقِم كَما أُمِرتَ وَمَن تابَ مَعَكَ وَلَا تَطغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود: 112]، حيث جاء في تفسير الميزان حول هذه الآية الكريمة: (وفي المجمع في قوله تعالى: {فَاستَقِم كَما أُمِرتَ} الآية قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله: ﴿شيبتني هود والواقعة﴾)[8].
ويضاف لذلك أن أئمة الهدى سلام الله عليهم هم ممن أُرسِل لهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وآمنوا به فكانوا من المسلمين، وهذا لا يصح لو كانوا كاملين منذ الأزل. لذا نرى السيد الشهيد الصدر يقول: (وأما الغلوّ بلحاظ مرتبة النبوة، فيتمثل في اعتقاد المغالي بأن من غلا في حقه أفضل من النبي وأنه همزة الوصل بين النبي والله أو أنه مساوٍ له على نحو لا تكون رسالة النبي بين الله والعباد شاملة له. وكل ذلك يوجب الكفر، لمنافاته للشهادة الثانية بمدلولها الإرتكازي في ذهن المتشرعة المشتمل على التسليم بأن النبي "ص" رسول الله إلى جميع المكلفين من دون استثناء)[9].
وكان النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت سلام الله عليهم مكلّفين وملتزمين بالواجبات الشرعية ويخافون التقصير في حق ربهم جلّ وعلا. وذكرنا في الفصل الثاني تحت عنوان "خوف النبي صلى الله عليه وآله وتحذيره" العديد من الآيات التي تنذر وتهدد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إن قصّر في بعض الواجبات الإلهية كقوله تعالى: {وإنْ كادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَينا إِلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينا غَيرَهُ وإذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَولا أَنْ ثَبَّتناكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقناكَ ضِعفَ الحَياةِ وَضِعفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينا نَصِيراً} [سورة الإسراء: 73-75]. ولكن التمعن بمواصفات الولايات الشاملة يبين أنهم كاملون منذ بدء الخليقة كما ذكرنا. ومن المستحيل أو من العسير فهم الأمرين سوية.
إن قول البعض بقدم أهل البيت[10] صلوات الله عليهم أو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله فقط ثم يتلوه أهل بيته سلام الله عليهم لا يتلاءم مع العدل الإلهي كما سيأتي، إضافة إلى باقي الإشكالات الخطيرة عليه، ولا فرق في النتيجة إن كانوا أنواراً أو غير شيء[11].
ولنا أن نسأل لماذا تفضَّل الباري تعالى على أهل البيت صلوات الله عليهم فقط بهذه العطية التي جعلتهم يعلمون كل شيء ويقدرون على كل شيء كما يدّعي القوم، رغم عدم مسبوقيتهم بأي تكليف أو وجود يخضعون فيه لاختبار ما؟ ولو قال البعض بأن الاختبار قد حصل في عالم الذر قلنا لو كان هنالك اختبار فعلاً في هذا العالم فهو بعد خلق آدم سلام الله عليه، بل وبعد خلق ذريته، لأن الآية تدل على هذا كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قالُوا بَلَى شَهِدنا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَن هَذا غافِلِينَ} [سورة الأعراف: 172].
إن القول بالولايات الشاملة وتفصيلاتها كقِدَم بعض الكائنات يجعل الدين معقَّداً وعسير الفهم، وهذا يخالف أسس الإسلام المبنية على وضوح الحجة وموافقة الفطرة. وقد تكلمنا فيما سبق عن يُسر العقيدة الإسلامية وذكرنا كلام الشيخ الأنصاري الذي استدل بروايات أهل البيت صلوات الله عليهم. وتتميماً للفائدة ننقل رواية شريفة ذكر فيها الإمام الكاظم سلام الله عليه أن مَن يتجاوز كتاب الله تعالى في أمر التوحيد سوف يهلك: (عن محمد بن أبي عمير، قال: دخلت على سيدي موسى بن جعفر عليهما السلام، فقلت له: يا ابن رسول الله علمني التوحيد، فقال: ﴿يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتهلك. واعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد، لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً، وإنه الحي الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يُغلَب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغني الذي لا يفتقر، والعزيز الذي لا يذل، والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل. وإنه لا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، و {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} {ما يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رابِعُهُم وَلا خَمسَةٍ إِلا هُوَ سادِسُهُم وَلا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُم أَينَ ما كانُوا}. وهو الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم، وما سواه مخلوق محدث. تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً﴾)[12].
أيُّ عمق معرفي موافق للقرآن الكريم تبينه هذه الرواية الشريفة بلغة واضحة؟! وشتان ما بينها وبين ما يصف به الغلاة بعض المخلوقين بالقدم وباقي الصفات المختصة بالله تعالى وإضافة أمور خطيرة في العقيدة تخالف القرآن المجيد.
دليل النظم والولايات الشاملة
حينما يتحدث العلماء عن أدلة وجود الخالق سبحانه وتوحيده فإنهم يذكرون دليل النظم من ضمن الأدلة، أي النظام المتقن المنتظم الذي وضعه الله سبحانه في هذا الكون بما يدل على وجود صانع واحد، لأن الكون لو لم يكن منتظماً لحدث اختلال فيه وعدم تناسق مما يؤدي إلى اضطرابه ثم فنائه. وهنا يلزم أن يكون المرء مطّلعاً قبل هذا على اتقان صنع الكون وتكامل قوانينه مع بعضها لتنتج هذه الروعة حتى يفهم دليل النظم.
وإذا تحدّينا القائلين بالولايات التكوينية الشاملة بأن يبينوا لنا حسن صنع أربابها التكويني ودليل نظم مخلوقاتها إن كان منتظماً فلن يجدوا شيئاً، ولن نرى شيئاً منها حتى لو قالوا إن ما يخلقه الولي خاضع لنفس القوانين التي وضعها الله تعالى، لأنه سيكون خلقاً كما يخلق الله تعالى، وهذا يوجب لَبساً لدى الخلق حول توحيد الخالقية. وقد كذّبهم الله في كتابه الكريم: {أَم جَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ} [سورة الرعد: 16]، وقال تعالى: {يا أَيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَستَنقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطلُوبُ} [سورة الحج: 73]. وإن قالوا بأن هذه القدرات والولايات الشاملة إنما هي موضوع نظري فحسب ولا يوجد له شواهد عملية تشمل ما تحديناهم به، قلنا فليريحونا بترك هذا النظري ولا يصدِّعوا رؤوسنا بكثرة الكلام عنه وجعله من الدين كي لا يلبسوا على الناس دينهم.
تلخيص أسباب رفض الولايات الشاملة
تبين مما تقدّم أنه لا يوجد دليل قطعي يمنع القول بوجود ولاية تكوينية محدودة لأهل البيت صلوات الله عليهم أو للأنبياء سلام الله عليهم وفق ما تستلزمه الدعوة لدين الله تبارك وتعالى. والإشكال إنما هو على عمومية هذه الولاية، سواء كانت ولاية تكوينية أو تفويضاً تكوينياً أو وساطة فيض. ويمكن أن نلخص حقيقة إشكالنا - بعد أن أسهبنا في تفصيل الأمر فيما مضى من الكتاب - كما يلي:
1) إن الاعتقاد بولايات تكوينية بهكذا سعة مطلقة يمثل منبعاً للغلو الذي انتشر في زماننا وتشعّب وتفرّع إلى فروع كثيرة، وأدى إلى تحريف في الدين وظهور للبدع. وهو يستلزم لوازم خطيرة جداً تمس أصل التوحيد، الذي هو أساس كل العقائد، أي ستحصل شبهة شرك بالله تعالى، وقد حصل شرك فعلاً وأصحابه غافلون، وهذا يعني نسف أصل الدين الإلٰهي. وكذلك يؤدي إلى عدم مقبولية المذهب، وإلى جعله في عداد مذاهب الغلو التي لا تتلاءم مع الفطرة السليمة. وهذا يُنفِّر حتى أبنائه منه، ويُبعد الآخرين من المسلمين عنه ويُعَقِّد التعايش معه، ويجعل المنتمين له في خطر بسبب اعتقاد الآخرين بكفر أتباعه.
2) مخالفة هذا القول للقرآن الكريم، إذ توجد آيات كثيرة صريحة باختصاص هذه الأمور بالله تعالى، وأنه سبحانه لم يمنحها لأحد من خلقه. وكذلك مخالفته لما ثبت عن أهل البيت صلوات الله عليهم، حيث توجد روايات كثيرة تبين عدم امتلاكهم لهكذا ولايات تكوينية. أما الروايات التي يستدل بها البعض فهي إما قاصرة من حيث الدلالة أو لا يحصل القطع بصدورها عنهم صلوات الله عليهم، وخبر الآحاد لا يكفي هنا لخطورة الأمر وتعلقه بأصول العقائد. وفي كل الأحوال فهذه الأخبار معارضة للقرآن الكريم كما ذكرنا.
3) إن القول بهذه الولايات هو قول مستحدَث لم يقل به علماؤنا الأقدمون الذين كانوا قريبي عهد بزمن الأئمة سلام الله عليهم وكانوا مراجع للطائفة. وإنما تسللت بعد مئات السنين من زمن الأئمة سلام الله عليهم تأثراً بفكر ابن عربي وأفكار الصوفية وأفكار الأمم الوثنية السابقة على الإسلام. وهذا يثير الريبة في شأنه، فلو كان حقاً وواضحاً لما خفي على علمائنا، لأنه ليس أمراً هيِّناً وثانوياً حتى يمكن القبول بخفائه على كبار علماء الطائفة لمئات السنين.
إن جعل القول بالولايات التكوينية من الدين والتعمق في تفصيلاتها يؤدي إلى تعقيد الدين وتعقيد الإيمان به، وكأنّ ما جاء في الكتاب الكريم والسنة الشريفة غير كافٍ لتوضيح الدين إلى أن جائتنا أفكار ابن عربي وفلسفات ما قبل الإسلام والروايات التي لا أصل لها عن الأئمة سلام الله عليهم لتوضح لنا الدين.
[1] وقد ذكرنا كلام الشيخ مرتضى الأنصاري مفصلاً حول الأمر في الفصل الأول.
[2] الصراط المستقيم، ج 2، ص 14.
[3] كمال الدين وتمام النعمة، ص 537.
[4] نهج البلاغة، الخطبة رقم 1.
[5] الغَيبة، ص 71.
[6] الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 179.
[7] الكافي، ج 2، ص 104.
[8] تفسير الميزان، ج 11، ص 66.
[9] بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 3، ص 306.
[10] في "أجوبة المسائل في الفكر والعقيدة والتاريخ والأخلاق"، ج 2، ص 80: (ولسنا نعرف موجوداً يمكن تطبيق مصطلح القديم الزماني عليه سوى الوجود النوري لمحمّد وآله عليهم السلام).
[11] يقول البعض بقِدَم ما يُدعى بالصادر الأول المزعوم أو الحقيقة المحمدية أو نور النبي صلى الله عليه وآله أو أنوار جميع أهل البيت صلوات الله عليهم. فإن كان قصدهم ما ذكره البعض بأن القِدم الزماني هو (عدم كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زماني، بحيث لا توجد قطعة من قطع الزمان ينطبق عليها عدمه) فهو مفهوم - بغض النظر عن صحته - لأنه لم يعلِّق الأمر بالله عزّ وجلّ، وهو ناظر إلى المخلوقات كالزمان والشخص القديم، ولأن الزمان نفسه مستحدث وليس قديماً.
ولو كان الأمر كما يقول البعض بأن الله تعالى لا يخلو منه الفيض آناً ما، ولهذا لا بدّ من وجود موجود يفيض عليه من فيضه، وهذا يستلزم أن هذا الموجود قديم كقِدَم الله عزّ وجلّ لكيلا ينقطع الفيض الإلهي، فهذا الكلام - لو سلّمنا بمقولة دوام الفيض - ناتج عن خلل في فهم الزمان، فالزمان ليس إلا مخلوقاً محكوماً وليس مطلقاً ولا حاكماً، ولا يوجد معنى لقدم الزمان بالنسبة إلى الله جلّ وعلا، لأن كل الزمان من أوله إلى آخره معروض سوية أمامه تعالى فلا يعزب عنه شيء، ولا يوجد في الزمان قديم أو حادث بالنسبة إليه تبارك وتعالى. لذا فإن فيضه موجود في كل الأحوال وغير مقطوع. أي ما يكون حادثاً بالنسبة لنا فإنه ليس حادثاً نسبة إلى الله تعالى، فالأحداث كلها بمستوى واحد أمامه سبحانه، وقد شملها فيضه.
أما القِدَم بالنسبة لنا فإن الله تعالى لا أوّل لأوليته ولا يصح فرض مخلوق بأنه قديم كقِدَم الله سبحانه، ولا ضرورة تُحوِج لهكذا فرض بناءً على ما قدمناه من مفهوم الزمان، إضافة إلى أن هذا القِدَم هو معنى لا يمكن تعقله بحقيقته للبشر.
[12] التوحيد، ص 76.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat