وارتكز هذا الباب على ذكر مجموعة من التفاسير كتفسير الطبري، ومقاتل، والبغوي، والكبير، والجلالين، والثعالبي، وكثير مما روي عن مجموعة من الصحابة كابن عمر، والضحاك، وابن مسعود، والنخعي، وابن عباس، وجمهور كبير...
ولقد استند البحث على رواية لابن عباس، ورواها البعض عن معاذ بن جبل: (صلى رسول الله (ص) الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر) وراه مالك، والشافعي، ومسلم، وابن داود، والبيهقي، وغيرهم عن ابن عباس... ورواه مسلم، والطبراني، والحافظ، والمتقي الهندي عن معاذ بن جبل...
وهذه الروايات مؤيدة حتى عند ابن تيمية في مجموع الفتاوى، وعند الكثير من علماء العامة كالآلوسي، وابن البطال، وابن جني، وأبي الفضل في المسند الجامع... وتستنطق ذاكرة التاريخ باعتراض ابن عباس على احدهم: (كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله (ص)...)
فالعملية الأسلوبية نظمت لنا كل شيء بما يوافق الرؤى للقبول التوافقي، وسعت في ذات الوقت بتقديم التضاد وهو يشدد محاولاته لتحريف المضمون عبر عدة تأويلات بائسة عنونتها بالفشل.
محاولات فاشلة لتأويل الجمع بأنه ليس مطلقا
وهذا الفشل هو ليس حكما كيفيا او قسريا صادرا من هيئة الاعداد، وانما هو ناتج مخاض فكري تنامى عبر معالجة المفكرين والرواة انفسهم، فحين دوّن مالك تعقيبه على الحديث الجامع للصلاتين بجملة: (ارى ذلك كان في مطر) رد عليه ابن داود برواية ابن عباس: (اراد ان لا يحرج امته). والعبارة واضحة اذ قال ابن عباس: (ولا مطر) ويظهر من حيثيات المعروض العام ان هناك تداعيات قصدية حاولت الاستحكام بأسلوب النقل عبر تحويرات حذفية، او اضافات توهيمية محرفة للمضمون العام، لزحزحة المطلق الجمعي؛ مثل محاولة النسّائي حين أضاف مفردة مكانية تعطي حاصلا زمانيا محددا؛ إذ وضع مفردة (بعرفة) كي يكسب الجملة افتراضا زمانيا، يؤهل الجملة الموروثة الى اتقان محترف، يجعل عملية الجمع ترتبط بموسمية الحج؛ وهي محاولة مقصودة لجر المدينة التي صلى بها الرسول (ص) الى عرفة، فكان الرد عبر نفس الرؤى المكانية حيث كانت الصلاة في المدينة.
ويعني اننا امام انفتاح زماني غير مقيد بموسمية معينة... وهكذا تستمر المحاولات فمنهم من يقول: في (وحل)... اي كانت الأرض مملوءة بالطين، ومنهم من اوّلها الى (غيم) وكأن الرسول (ص) خشى من المطر.
فنجد انفسنا أمام عوالم معاندة لا اكثر تريد أن تهيئ الأحاديث الى ما يساير ويطابق رؤاها؛ فكثرت مفردات مثل: (أظن، أرى، لابد...) والفرق واضح بين بُنى تأويلية، وبُنى نصية هم يقرون بها قبل سواهم، فلذلك هم لا ينكرونها بل يحاولون تحريفها الى ما يوافق رؤاهم... وعلينا اولا معرفة ماذا يمثل هؤلاء من الرأي العام للعامة؟
وجواب هذا السؤال سيجتاز بنا أي اشكال قد يسبب ارباكا للبعض, ولنعرف من خلال المعروض الماثل حجمهم الحقيقي، لندرك قدر التأثير الذي يمكن ان تسببه هذه التحريفات، فلذلك طرقت هيئة الإعداد بابا آخر يمنحنا الوضوح المرتجى.
اقوال فقهاء اهل السنة حول الجمع بين الصلاتين
توجّه الأسلوب العرضي هنا الى عملية تنقية تظهر من خلالها المشهد الرؤيوي العامر، رغم وجود التناقضات الفكرية، ومحاولات تبضيع الفكرة؛ إلا ان جوازها لجميع ائمة المذاهب موجود مع بعض التخصيصات التي وضعوها؛ فمالك جمعها لستة اسباب: (السفر، والمطر، والوحل مع الظلمة، والمرض، وعرفة، ومزدلفة) والشافعي جوّز الجمع للسفر الطويل، ومنعها في السفر القصير، واحمد بن حنبل جوّز الجمع للسفر الطويل والمرض والمطر الذي يبل الثياب...
فهم اجازوا الجمع في السفر، واختلفوا في ماعداه من الاعذار... فندرك ان ثمة تربص واضح ينقض على فاعلية المضمون، يحاول انهاء تلك الفاعلية عن طريق موهبة التحريف التي تبتدع حججا لأخذه نحو غايات مرسومة... فهل هذا كل ما يملكه رأي ابناء العامة؟
المؤيدات على جواز الجمع مطلقا
نحن امام استنتاج بحثي، لقد اقرّت الصحاح له بجواز الجمع، ودليل ذلك الترخيص هو احتفاظهم بالموضوع وتدوين متعلقاته؛ فقد ورد في شرح صحيح مسلم للعلامة النوري، والعسقلاني، والقسطلاني، وزكريا الانصاري، وشروحهم لصحيح البخاري، والزرقاي، في شرح موطأ مالك والكثير من العلماء الذين يمثلون رأي ابناء العامة صرّحوا بجواز الجمع المطلق ليبيِّنوا ان الجمع كان لغاية ابعاد الحرج والمشقة عن الامة...
نجد ان هذا الأفق الواسع اعطى اسلوبية البحث ابداعا شموليا اساسه التعمق في جوهر القضية المعروضة من جميع نواحيها؛ وإلا فهناك اشراقات تدوينية تجاوزت العقد بثراء روحي فازدهى بها المضمون ككتاب: (ازالة الخطر عن الجمع بين الصلاتين في الحضر) لمؤلفه الحافظ محمد بن الصديق الغماري... وتلك سمة من سمات الأسلوب الرصين...
يتبع ...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat