يبدأ الشاعر قصيدته (المفتتح)بالاستفهام عن شخص وعرّف هذا الشخص من خلال العنوان والذي لا يختص بالشاعر نفسه فقط بل يتعدى ذلك ليشمل كل جوانب الإنسانية والذات والوطن والمجتمع وظف كل ذلك من خلالِ الإشارةِ لـِ(ذا) والتي يبنى عليها الحبكة الشعرية وتتمحور القصيدة حولها.ويبدأ البيت بقوله:
من ذا رأى شاعرا لا سمع يعبده تسول العشق حتى لم تعد يده
لقد استعار وظيفة العبادة للسمع وهذه دلالة على قدرته الكبيرة في التلاعب في التراكيب الشعرية وجعل كل بيت عبارة عن ومضة يكشف من خلالها عن موضوع النص واتجاهه.
كان باستطاعته أن يبدأ مثلا:
من رأى شاعراً لا سمع يعبده؟
لكن برأيي الشخصي هناك 3 أسباب الأول لسبب الوزن والثاني لأنه أراد فعلا أن يضع الـ(ذا) للدلالة على الذات، والثالث وفي حال قال(من رأى شاعرا) فأنه مجرد يكون استفهاما بينما قوله (من ذا) يعني الاستفهام وخلق الدهشة ،والـ(ذا) يظهر أن هناك حدث وقع ومرَّ عليه الزمن مما يؤكد أن الأسرار مختبئة لدى هذا الشخص،يبدأ الشاعر بسرد الحكاية عبر المراوغة وإدخال القارئ كجزء من النص فيقول (لا سمع يعبده)،(لم يمتلك أرقا)، (ولا زمانا)،(ولا شكوى)تبدأ الوتيرة بالازدياد والارتفاع في النفي وضيق الأمل إلى أن يصلَ إلى هذا النفي الأكبر(لا أمَّ) هنا نقطة التحول حيث إن الأم تمثل كل شيء ويكفي إن الإنسان بلا أم يعني بلا وطن والعكس صحيح،بعد هذا النفي يبدأ بسرد الحكاية وأيضا لا ننسى انه استطاع توظيف السرد بشكل شعريٍ صرف من خلاله بناء الحبكة وجَعَلَ لها انسيابيتها التي تجري كالماء الصافي،ما يؤكد النظرة إن الشاعر في البيت الرابع ذَكر(يجيء من قريةٍ) وهنا يظهر الوصف الواضح للواقع ونقل الصورة الحقيقة فالقرية لها جانبان الأول ايجابي والثاني سلبي حيث إنها رمز البداوة والرجولة والصبر والتحمل والفطرة،بينما الجانب الآخر وهو الغير مباشر يظهر مدى وقع هذه الكلمة عندما يطلق على وطنٍ رسمنا أحلامنا بأعتاب جراحه،فالخبر من المعروف يهز أو يصنع ردة فعل داخل الإنسان والذي يستقبل الخبر بنوعيه المفرح والمحزن،ولكن يرصد الشاعر التناقضات التي تحتويها هذه القرية حيث إنها أصبحت غير مستثارة في استقبال الأخبار فصارت عندها روتينية لا تولد ردة فعل،لأن الخبر أصبح مشاعا وليس ذات أهمية بالنسبة للقرية أو المدينة أو الشاعر أو الشخص المقصود،فنجد أن الشاعر ذكر بعدها (نصفِ قرن) وهذا التأريخ مهم جدا في الكشف عن الموضوع الحقيقي للنص ومن هنا نستطيع القول أن 60% من النص تم معرفته والسياق سيسير على هذا النحو وذِكرُ هذا التأريخ يمثل انعطافا في القصيدة،يبدأ بعد ذلك بإضاءة النص وفتح الستار من البيت الرابع حيث ابتعد عن التضاد قليلا وأعطى البيت سمة خبرية إيحائية بذكرهِ (القرية) و(نصف قرن)يكمل الشاعر انفتاحه وإدخال الرموز ك(حاتم الطائي)ويعود مرةً أخرى للتضاد بمعنى إن حاتم لا يطرد بينما كانت سمته في البيت الخامس انه(حاتمٌ يطرد) وبخصوص الرمز أيضا ذكر (فرعون)و(السياب والبصرة)
يــــحلُّ ضــيفا على تأريــخ أمـــته
وحـــــاتمٌ طارئ الكفــين يـــــطرده
لا أُمَّ تُــــلـقِــيْـهِ فــي يَــــمٍّ فَـتَـــرْقُـبُـهُ
وأَلْفُ فِرْعَـونَ خَلْـفَ الـمَوجِ يَرْصُـدُهُ
هذه الرموز كانت سمعية تدرك من خلالها الأشخاص والأماكن أما الصور أو الرموز التي استخدمها كبصرية أو إيحائية فهي (الهرم عندما يصعده الدمع)
وَقَـلْــبـــُـهُ هَـرَمٌ ،دَمْــــــعٌ جَـــوانِـبُـهُ
مِـنْ أَيْـنَ ما جاءَتِ الأَشْـعارُ تَـصْعَـدهُ
من المعروف إن الدمع ينزل ولكن صورة رائعة والتقاط رهيب حين استخدم صفة الصعود للدمع،وأيضا استخدم الصورة البصرية أو التضاد في قوله(الاسم الذي مات مفرده)أو(تفرق العمرِ وتوحدهِ)في الحقيقة إن الشاعر يتقن مهارة الإمساك بالقارئ وجعله مشدودا لنصه وان كتاباته تحتاج قارئ متمكن يقرأ مابين السطور وخلف السطور ويحلل ويفسر لا أن يقرأ مرة واحدة فالقصائد أصبحت مثل المسألة الحسابية التي لها حلولها المختلفة ولها قوانينها التي من خلالها نفك شفرة المعنى ونفهم ما بداخل الشاعر وأيضا نحلل نفسية الكاتب ونصل لمبتغاه وبهذا نكون قد حققنا الغاية.
نعود للبيت العاشر حين يقول:
وحـــــينَ هاجَرَ من دارٍ لدمــعتهِ
وظنَّ أنَََّ بنـــــــــات الدَّار تفــقدُهُ
فنرى انه ذكر كلمة (دار)جاءت نكرةً وليست معرفة ،لربما سائلٌ يسأل كان بإمكان الشاعر أن يقول :
(وحين هاجر من دارِ حزنه،وحين هاجر من دارِ شعره،وحين هاجر من دار قلبه)فالشعر يتحمل ولكن لم يقل ذلك لأسباب وهي الوزن وهذا ليس بصعب على الشاعر فالوزن لا يستوقفه بقدر ما يريد أن يجعل القارئ مشدودا مع نصهِ ليبحث عن الدار التي لم تعرّف ولم يعرفها الشاعر لربما يجد القارئ شيئا لم يتخيله الشاعر أو لم يطرأ في باله وبهذه الحالة أصبح القارئ جزءا من صناعة الصورة الشعرية،بالنسبة لي في تفسيري الشخصي إن الدار التي لم تكن معرفة قصد بها الشاعر الوجودية والكونية بحيث أعطى الحرية في تحديد الدار ولم يحتكره لنفسه وبهذا ابتعد عن الذاتية في النص وهذا يحسب للشاعر كيف لا وهو العملاق.
والبيت الثاني عشر
وكان للامـــس أعـــتاب تجاوزها
وظل منشـــــغلا حـتى مضى غده
في هذا البيت تمكن من تكوين تركيبة صورية جميلة حين جعل للأمس أعتابا والأعتاب من المعروف تستخدم للأبواب ومن خلال عتبة باب الأمس الذي تجاوزه لا ادري لماذا قال منشغلا وأيضا مضى غده،الترابط جميل في ذكر الأمس والغد ولكن عندما يتجاوز أعتاب الأمس بمعنى يتطور ويصل إلى المستقبل والغد الذي يمضي وهو منشغل فهذا يعني لم يحقق شيء لأنه منشغل، فكيف إذن تجاوز الأعتاب مادام منشغلا،بنظري الشخصي أما يكون منشغلا بتجاوز الأعتاب وأما يكون منشغلا عن تجاوز الأعتاب، لا ادري إن كان الشاعر يقصد شيئا آخر.
بعد انكسار الماء في النص يعود الشاعر للشموخ وعدم الرضوخ وكأن النص ينقسم قسمين ،حيث الأبيات التي جاءت قبل هذا البيت:
لكنَّهُ ما انتهى لــــو جَفَّ فيــهِ دَمٌ
أتى إنســــــيابُ دمٍ ثـــانٍ يـــجدِدُهُ
كانت أبيات حديثة قريبة للنمط الحديث وذلك لان الإنسان يعاني من الوحدة والفراغ والانعزال والسخط والقهر والحرمان والتهميش والذل وهذا ما يميز الإنسان الحديث أو بالأحرى الذي يعيش هذا العصر بكل همومه،بينما التي تليها كانت تشبه العنتريات حين يقف الشاعر ويمدح الوطن والقضية فبذلك يظهر جبروت الشاعر وقوته وعدم رضوخه للواقع وعدم اقتناعه بالذي يجري،وأيضا هناك شيء مهم لابد أن يذكر في هذا البيت وهو القافية (يجدده)فكأنه يجدد القصيدة وهذا أتى من صلب العقل الباطن وفي مكانه الخاص وفي وقته المحدد،فبدأ يجدد الشاعرية وتنهال الصور الشعرية الإبداعية على مخيلة الشاعر من خلال ذكره الدلالات التي تدل على الشموخ كـ(الجبال، والسراب ولكنه الأكيد، والإشارات والأقوال) وتزداد الوتيرة شيئا فشيئا نحو الذروة وصولا لخاتمة النص.
البيت ما قبل الأخير:
هــــــو الإشـــاراتُ والأقوالُ اجمَعُهَا
فكل مــن لــــم يَقُلْ أو قالَ يقــــصُدُه
لو ختم الشاعر هزبر قصيدته بهذا البيت كان فعلا في مكانه الصحيح والجميل وذلك انه أشارَ لجوهرة النص بالأقوال والإشارات اجمعها بقوله (هو)إذن لا داعي للبيت الأخير الذي هو:
وتطـــمَئِّنُ كحقلِ النورِِ مُهـــجَتُه
تبكي عليهِ الليَّاليْ حــين تحصدُهُ