يتحدث الكاتب المعروف صالح مرسي في كتابه المعروف ( هم وأنا ) عن تجربة الكاتب الشاب الفتي الذي لما يضع رجله بعد على أي أرض رخوة كانت أم صلبة وكيف وقف من أطلق عليهم بعنوانه " هم " معه وقفة لوّحت بمستقبل يُهدِد نفسه بالانقراض ويتساءل صالح مرسي عن سبب لوقفة عظماء عصره مع شاب لا يُعرف له حرف واحد ويجيء الجواب من مستقبله نفسه وعلى لسانه هو كاتب تمخر كلماته عباب الإبداع
فيقول ما معناه : بأنهم وقفوا إلى جانبي كجذع من نخيل استندت عليه وأنا الرخو الذي لا يقوى على الوقوف في عالم الكلمة وهو العتاة المردة في عالم الإبداع فيذكر في تجربته على سبيل المثال لا الحصر : يحيى حقي ونجيب محفوظ وموقفهم النبيل الذي أصر أن يرى صالح مرسي كاتبا لا بل ويجعل منه كاتبا بكل وسائل المحاولة والتقديم والانطباع العظيم الذي يقدم معاني لكلمات كاتب بسيط ربما لم يجد الكاتب البسيط نفسه في أدبه هذه المعاني فهم ساقوا الإبداع لموهبة تستحق العناية ولم تأخذهم شهرة بالإثم ليهمشوا كاتبا غضا خوفا من مستقبل قد يسحب البساطَ من تحت الأرجل التي كانت يوما تتسمر فوقه
ويجد صالح مرسي تبريرين لفعلهم هذا ويختلف كل تبرير عن الآخر من حيث الزمن ومن حيث تطور صالح مرسي نفسه :
فيكون التبرير الأول مبنيا على كونهم كبارا عظماء جعلوا الناس في حضرتهم عظماء وهم على قدر كبير من الثقة والاعتداد بالنفس الذي جعله يمدون يد العون لكل من يرون فيه نفوسهم ويرون فيه مستقبلا يرون نفوسهم فيه بعد أن ينضب زيتها
ويكون التبرير الثاني الذي يأتي على تماس كبير مع الأول وهو يقضي بأنهم فعلوا كذا إيمانا منهم بان مرسي موهوب بامتياز وهذا أيضا يصب في نوع من التكريم الحقيقي للموهبة تكريما يأتي من موهبة حقيقية واثقة الخطوة
وقد يستغرب القارئ ما قلت ويرفع عينه ليتأكد مما قرأه في عنوان المقال : فما علاقة الخباز بما قلت .؟
ولكن قارئي الكريم لا تعجل بإصدار أي حكمٍ وأعد قراءة المقال مع إبدال كلمة " هم " أي (يحيى حقي ونجيب محفوظ كأنموذج ) أبدلهم بعلي حسين الخباز وبدّل صالح مرسي مع كل من ناله رغيف من أرغفة الخباز الانطباعية وبدل التجربة أنا وهم ب رغيف انطباعي لتكتشف :
1- كون صالح مرسي مُخطئا حين نفى بان يوجد يوما ما شخص يقف مع المبدعين كما وقف معه محفوظ وحقي وغيرهم
2- الأرغفة هي نوع من تكريم الأحياء إن لم نقل نوع من النهوض بالأحياء وتحريك راكد هم ,
3- محاولة جادة لتقديم جيل جديد يرى جيلُ الكبار المستقبلَ بعينهم
4- نوع وضرب من ضروب التفاني لخدمة الإبداع والمبدعين دون انتظار كلمة شكر
5- درس للكبار قبل الصغار يعلمهم معنى التواضع ومعنى الشعور الأصيل العميق الذي يغمرك حين تكتب عن إنسان لا علاقة لك به ,
6-تقديم قراءة وعمق جديد للمنتج الإنساني عمق ربما لم يحسه الكاتب نفسه في أدبه ومنتجه
والكثير من العبر والمعاني نستخلصها من تجربة الأرغفة ونحن ننظر لها بعين المتلقي العادي لا الأديب ولنا أن نقف الآن على منتصف المسافة بين صانع الأرغفة وبين الشاعر والمسرحي الفذ والمكنون الهائل وهذا أمر مناقشته واجبة على صلة بوجه الأرغفة لتبين أن مبدعا بحجم هذا الشاعر الفذ العميق بعمق السماء حين يكتب عن مبتدئين فإنها والله كبيرة وتستحق أن يذكرها كل من عاصر هذا العملاق فسنناقش على سبيل المحبة قصيدة نُشرت قبل أيام ولم نناقش غيرها لا على سبيل الحصر بل لكون المنتج الأدبي لهذا الإنسان زاخرا ولا يتسع له ورق ولا تبيان ولكن نناقشها لسببين
1- كونها آخر نص نُشِرَ للأستاذ
2- كونها لم تلق فهما يستحقها
وجئت بهذين الأمرين كليهما من خلال رؤيتي للقصيدة وما رافقها من ردود منشورة في مركز النور*
احتجاج طير*
أمن أجل نزق تنزعني من جسدي ؟
باية ارتعاشة قدتني الى كفيك ؟
واذا بي حين اصير اليك تجزأني
ليغادرني بعضي الى جبل
وبعضي الى بحر
وبعضي الى بعضي
سلها ... الجبال التي توزعت
جسدي تبكي الآن غربتها في
والبحار تاهت على
خرائط من ورق
فبإي وجه ستدعوني
وبإي قلب سآتيك ؟!!!
وسنناقش هذه القصيدة على وجه التفكيك الحرفي والاستدلال المكنون والبحث الكلماتي
بداية أي طير ذلك الذي رسمه الخباز محتجا ؟ وأي إبراهيم ذلك الذي يراه طيره نزقا ؟!
في الحقيقة من هذا المنطلق يختفي الشاعر خلف تورية ضخمة ويعلن أن الشعر قادر على قول ما لا يُقال وفي كل مقال حين يكون قائله على شيء كبير من الذكاء والتلاعب الشعري والاختباء خلف البث الصوري للكلمات
ولننظر إلى القصيدة بيتا بيتا
أمن أجل نزق تنزعني من جسدي ؟
ينطلق الشاعر في هذا البيت ليعلن عن صوت لوطن يُنزع منه شعبه قسرا ويحيل الوطن الذي جاء في القصيدة بصورة (طير) إلى تابع وانتماء لمنظومة الدكتاتورية التي صيرت الطير إليها بنزعه من جلده نزعا وهنا إشارة لعمري واضحة تؤرخ جيلا من الزمن هاجر فيه من هاجر ويذكرها الطير , أو الوطن ببوح معترض ويلعن أن الناس وكلما أصابها لم يكن لشيء يذكر سوى نزق رئيسهم وجهله المبطن خلف كلمات فارغة تُصاغ من باعي الضمائر ..
باية ارتعاشة قدتني الى كفيك ؟
واذا بي حين اصير اليك تجزأني
فقط لنتأمل معنى المخفي والمكنون في تعبير الارتعاشة وكيف جاء الخباز في هذا المقام بالذات بمصطلح الارتعاشة ولو نتمعن مرة أخرى لنجد الوهم الحقيقي الخادع الذي يعيشه الرئيس الراتع بنزواته والناسي لما يصير اليه الوطن الجريح ولعمري أليس هذا ادعاء القائد الضرورة وإعلانه بانه هو الوطن ففي هذا البيت يجيء صوت الوطن على لسان الطير معلنا أن الوطن ما هو بالغانية التي تدعوها لنزوة فتلبيك
وتجزئني نعم هكذا يقول الطير لننظر قليلا كيف زاوج الخباز بين تجزئته الطير وبين تقسيم الوطن وبوادر النعرات التي نعاني ويلاتها الآن وغدا وبعد ألف غد أكل هذا عبث من رئيس نزق ؟
ليغادرني بعضي الى جبل
وبعضي الى بحر
وبعضي الى بعضي
سلها ... الجبال التي توزعت
وفي هذا البيت تأتي المزاوجة العكسية بين أمر الله لإبراهيم بتصير الطير بينما نرى الأرادة الكاملة للوطن في الانتقال والهجرة –بارادة الطير- لا بارادة ابراهيم وهنا ضربة أخرى تعلن تمر الطير ( الوطن) على رغبة لم تأتي لمبرر كما في حال طير إبراهيم
إذن هل يرى الوطنُ في محاولات تفرقة الرئيس النزق له وحدة ً
هل كانت الجبال إشارة للمنفى .؟
الله ايها الخباز كيف تجعل من العراقي وطنا وتعلن أن الانسان هو الوطن أنى سار وأنى هاجر فالمنفى هو من يشعر باللا انتماء للانسان والمنفى من يشعر بالغربة وهنا يدخل الخباز جدلية فلسفية لم تحل منذ الآف السنين لتحاكي البعد الحقيقي للانسان بغض النظر عن الإيديولوجية والانتمائية فيجيء صوت الوطن صريحا ما معنى الوطن بلا انسان
جسدي تبكي الآن غربتها في
والبحار تاهت على
خرائط من ورق
فبإي وجه ستدعوني
وبإي قلب سآتيك ؟!!!
المحاكمة الحقيقية لابراهيم هذه القصيدة – الطاغية – تأتي من الطير نفسه – الوطن-
هل تتيه الخرائط ببحارها والإنسان كما هو أرض تحتوي كل وطن لا يشوبه طاغية
وفي البيت الأخير هل تنبأ الخباز وطيره سنة 1997 بسقوط الصنم وذهابه الى اللاعودة والصراع الحقيقي للوهم الذي سيعيشه الطاغية وهو يدعوا الوطن اليه (فبإي وجه ستدعوني )
ويعلن ما أعلن بانه قائد لكل أجيال ونفيه أيما نفي سقوطه من كلمات رددها في محاكمته ؟
وبإي قلب سآتيك ؟!!!
وهل في هذه الابيات الأخيرة هل كانت إشارة للغضب العارم الذي اجتاح الساحات الآن ....
وعلى كل فلقد قدم الشاعر السامق علي حسين الخباز نوعا جديدا من البيان الحكيم والاستهداف اللغوي القاصد لما وراء الكلمات المرسلة على الاذن لتبقى للاذن موسيقيتها الخاصة التي تحكم بها على المخزون الابداعي للحروف التي ترمي مرمى بعيد لم ندركه لولا ذكاء خبازي وبساطة ابوية فتحت الافاق لكل محب عاشق للابداع لينهل من عذب هذا الجندي الفذ
* قصيدة احتجاج طير منشورة في مركز النور
http://www.alnoor.se/article.asp?id=125689
والله ولي الخباز
بقلم
الدكتور أديب الطيّب
جامعة جنوب الوادي / مصر
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat