صفحة الكاتب : نجاح بيعي

الوديعة . قصة قصيرة
نجاح بيعي

بلحظة .. 

هي كلمح البصر تسامى . كأنّ ريحاً حملته فجأة للبعيد , ورفعته عاليا ً, مخترقا ًدائرة الوجود . اعتلى الزّمن حتى صار فوقه . أدرك الصّمت المختزل من الصّخب العنيف , الذي خلّفه على حين غرّة ، الدويّ المزلزل ذي الوهج الحارق . ووعى انّه يسبح بمحيط من السّكون الجليل . ذلك السّكون القدريّ الذي لفّه كشرنقة . رافداً ذهنه يقظة متقدة ولجوارحه صحوة شفيفة , سمع من خلالها وَشوشة الكائنات وأنين أجرام السّماوات النائية . رأى بأمّ عينه كيف بدأت تنحسر الظلمات الكثيفة وتتقهقر . وأخذت العوالم تشرق للعيان وتتكشّف . رأى ألأرض جرما ً يتقزّم ويتقوض من تحته ، ويستحيل إلى ذلك الشارع المفجوع ، الذي ما لبث أن انبجس من قاعه الدامي ، ضياءاً قرمزيا ًأخترق أجواء العتمة الدخانية ، وطفح ليغمر الوجود . وهو مدفوع إلى الأعلى بقوّة العصّف النّاريّ للانّفجار , لمكان ما بين الأرضِ والسّماء !!.

بذرّوة التحليق , طافت أمام عينيه الآفاق . كزاهد حدّق بآفاق الجهات الأربع . هوى ببصره إلى حيث أفق الدّمار . عاين كيف كان الموت جاثما كغول ، على امتداد الشّارع الموءود ، إلا ّعن جَسدٍ غضّ , لطفلٍ لا يزال يبكي , متعلقا ًبزوادة حياة . لمِحهُ ينوُء تحت أقدام الجّموع المفزوعة ، والهائمة على وجهها بين الأشلاء , التي بَدت كقِطع الفحمِ المُدمّاة , وأكوامِ الأجسّاد المشويّة ، وهي تغرق بمحيط الدّم الأحمر . وسط ألسِنة نار , وأعمِدة دُخان هنا وهناك .

هوّم فوق شطآن الدّم المسفوُح . متخطياً عشرات الأيدي والأرجل المبتوُرة . عابراً الرؤوس المفصولة , والمقذوفة فوق أسطُح الدّور والبنايات . أعتصرهُ الأسى . شعر عِبر غليان المشّهد المرْعب ، ببرودة الدّم الذي يجري بعروق تلك اليد الآثمة التي رَسمت هذه الساحة , والتي لم تشبه أيّ ساحة حرب . رَمى ببصره ناحية تخُوم الحواضر . فتبدّى له العالم الكائِن خلف حدود الوطن المصلوب . أبصره عالماً يموُج بالغدرِ واللامبالاة , ويغرقُ بالصّمتِ والعَماء ؟؟!!.

نأى مُحلقا ً. حلّق باتجاه البعيد . لفّ الفضاءات . مَرق بين مدارات الأفلاك , ولامس ببصره سُدم المجرّات البعيدة , والغائرة في الفضاء الفسيح . جالت في ذهنه الآماد , فتصفح الحُقب ، كأنّه يعوم باللازمان . طاف عند زمن الطفولة المّر . أقترب منه . لمِح نفسه حينها يركض لاهثاً في وجُوم ذلك الغروب , المشتعل بحمرة الشّفق الذي لم يَغب بعد . والشّمس بَدت ككُرة من دمّ , في كبد السّماء المطعوُنة . كان يركض حِذاء نهر الفرات المائِج , وهو يُكابد ريح آذار الترابية . شاقا طريقه بعناء , بين مخالب الموت غير مُكترث ، وسط فوضى الدّمار , ورأسه يموج بأصداء توسلات أمه ..

ــ \" بني أرجع !! أرجع ! فأنت لا تعرف كيف تنبثقُ الطفولة من الأموُمَة !\".

لمِح الجّيش بدباباته التي بدت وكأنها الغيلان , وهي تجوب الشّوارع الموحشة . وطائراته تحوم كأنها العقبان بالسّماء الملبدة , للمدينة المحترقة بالقنابل والرَصاص . مدينة بدت كأنّها سطح كوكبٍ مَيت لا ينبض بالحياة . حيث رائحة الموت والبارود والدُخان تملئ الأجواء . كان كلّ شيء غائم . كلّ شيء يغرق بالغيم والظلمة .

تابع المشهد . 

كان قد وصل الميدان والقصف قد أشتد . أختبئ عند مسنّاة النّهر وهو يلهث . تطلّع عبر الفوضى الحالكة , فلمح أباه يقف مُتوثبا على سفح الجّسر ذي البلاط الحجري أسفل الصدع . وقد جعله متراسا , وهو يَروم اعتراض أوّل دبّابة تعبر . رآه يمّد عنقه ويرفع رأسه كل مرة . بينما تنخفض عند الجهة الأخرى فوهة أحدى البنادق نحو أبيه شيئا فشيئا . 

مِن بعيد أخترق ببصره , عتمة فوهة الموُت اللانهائية ، فترآءت له من خلالها عند الجانب الآخر منها , عيون فارغة بوجوه كالحة . بدوّا له كأنّهم فزّاعات . ألفاهُم طُغاة , زناة ، جُفاة , بعروقهم يجري ذات الدمّ البارد . 

أطلق الإبن صرّخة تحذير ، حالما ما ابتلعها الهدير المنطلق مِن حناجر ثوار الانتفاضة , وهي تهتف \" صدّام شيل ايدك هذا الشّعب مَي يريدك \". وقف الأب ورمى القنبلة التي بيده نحو الدبّابة . وقبل أن تنفجر كان الابن قد رأى نّصل الموُت يَنطلق مُسرعا مَن فوهة العُتمة اللانهائية ، ويمرُق في الفضاء الحالك وهجا كالبرق ويخترق الصدر ...!! . 

جمُد بمكانه . لفّه الذهول . وبعينين دامعتين , ومفتوحتين على وسْعهما . رأى أباه ينّدفع للأعلى ، مصحوبا بفرقعة مكتوُمة ، إثر طلق ناريّ , ويهوي مِن على السّفح الحجريّ متدحرجا ً إلى القاع الإسفلتي ، ويستقر حيث يقف . 

كان الجسد قد تمزّق و طفح بالدمّاء . إلا من عينيه ، كانتا مفتوحتين كأنّهما بلا جفن , صوب ابنه . ظل هكذا برهة . لم يرمش كأنه يريد أن يقول بعينيه شيء ما ! . وببطء شديد حوّل بصره ، وراح يومئ به نحو يده الملموُمة الدامية . أخذ الأبن شهيقاً عميقاً ، كأنّه يكتمُ خوفه , ويدفعه إلى الوراء . لم يتمالك نفسه فانكفئ عليه باكياً. 

أحتضنه والنزف لايزال يشخب من جرح صدره العميق . حرك الأب يده ودسّ شيئا ما بيد ابنه , وشدّ قبضته عليها . تناول الإبن ذلك الشيء بعفويّة . أغمض عينيه ورفع رأسه . راح يتحسس ذلك الكائن الدافئ الذي استقرّ براحة يده , كمن يتحسس تميمة مقدسة .

ــ أه ٍ .

تأوّه بسرّه وقال :

ــ ( إنّها الوديعة !! ) .

بجلدها الأملس القديم ذات الذؤابتين , وقد دبغها توارث الأخلاف عن الأسلاف . دعكها برفق . شدّ هو الآخر يده عليها . كأنّه يودعها قلبه . أخذ يزفر بعد كل شهيق , كأنه تنين يفحّ . أو كأنه يريد أن يُخرج ما تبقى له من الطفولة . لأنه ألان عرف كيف تنشقّ البطولة عن الطفولة ؟!!. 

فقبل أن تشرق أساريرُ الأبّ بالسكينة . وقبل أن يعبر التّخوم ويسكن الأبديّة .. ضمّه إلى صدره . ليتزود منه وهو في النّزع الأخير . نظر لعينيّه الجاحظتين بإمعان . وكمن يميط لثام أو يكشف عن نبوءة , سبَر سواد عينيّه وغاص به حتى اطلع على قلبه ... بنبضه الأخير لاح له الزّمن السالف . و تراءى له أباه كيف كان يقف بأرضِ قفر ، وهي تغرق بسحب التراب المثار. يلفحُ وجههُ هجير رَمضاء الجّنوب عند شاطئ الفرات , واقفا أمام عساكر الطغاة وقد غصّت بهم الآفاق بزعيق ، يشّبه زعيق السّعادين . ورايات شؤم ترفرف كأنها الحجلان . أمّعن النظر كثيرا كمن يخترق الحُجب , حتى تبدّى له ورأى \"الحسين \" .

رأى أباه كيف يفزع إليه وينحني مرتميا عند قدميه . سمِعه يقول لأبيه :

ــ \" هنيئا لك الشهادة !\" . وقد ناوله شيئا جعله في نحره كقلادة . 

تناهت الكلمات لسمّعه طيفا ومضَ فجأة بين جوانحه وسطع في قلبه . هامَ ببصره في الأركان . فتجلّت لعينيه كربلاء المؤودة بالتراب والدم والرّماد , نداءً أحدث شقاً طويلاً في الأرض والزمن . تُردّد أصدائه للآن فلوات الأرض وجبالها . وتَعيها الكائنات . كل الكائنات . كربلاء رآها تغرقُ باللاّحد للسّكون . ذلك السّكون القدريّ الجليل الذي لفّها كشرنقة .

آبَ مِنْ ذلك السِفر . 

تلامَعت شفتاه بابتسامة رِضا , فأشرق وجهه بضياء عِلويّ . أسبل جفنيّه بِبطء . حينما وصل بالتحليق أقصاه إرتدّ مجذوبا ً للأسفل . فعنّد الهَويّ كان قد عَرج إلى السّماء شعاعا مِن نّور . ولكن وقبل أن يستقر جَسداً مُقطعا بين الأشلاء , ويأخذ رأسُهُ المفصوُل و مكانهُ بين الرؤوُس المتناثرة . كانت ( الـوديـعـة !؟) بجلدها الأمْلس القديم ، قد حَطّت و استقرّت على صَدر ذلك الطّفل الصّغير ذوُ الجسد الغضّ ، والتفت الذؤابتان على رَقبته كقِلادة . 

 

/ الحلّة ــ 27/5/2010 م . 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نجاح بيعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/02/17



كتابة تعليق لموضوع : الوديعة . قصة قصيرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net