قيمة المعرفة الإنسانية بين الشهيدين مطهّري والصّدر (الحلقة الأولى)
الشيخ مازن المطوري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ مازن المطوري

مقدمة
هذه دراسة حاولنا فيها أن نقارن بين فيلسوفين أسهما بحظّ كبير في بحث نظرية المعرفة, هما الشهيدان الشيخ مرتضى المطهّري (1919- 1979م) والسيّد محمد باقر الصّدر (1935- 1980م), ابتغينا فيها إبراز حجم الإلتقاء وحجم الإفتراق. ولا يخفى على أهل العلم والمعرفة ما للأبحاث المقارنة من أهميّة في تطوير الدراسات لاسيّما العقلية منها, وذلك بالإفادة من التلاقح الفكري. على أن ثمارها كثيرة غزيرة.
جعلنا الكلام في هذه الدراسة في مرحلتين: مثّلت المرحلة الأولى المقارنة بين ما تركه الشهيد المطهّري من أفكار في مبحث قيمة المعرفة في تعليقته على كتاب (أصول الفلسفة), وبين ما سطّره الشهيد الصّدر في هذا المبحث في (فلسفتنا). أما المرحلة الثانية فقد كان المنطلق فيها كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) حيث تمّت مقارنة ما جاء فيه من أفكار أبكار في نفس ذلك المبحث مع ما خلص إليه الشهيدان مطهّري والصّدر في (أصول الفلسفة) و(فلسفتنا), حيث تابعا الموقف العقلي في نظرية المعرفة.
ولكن قبل الولوج في صلب هذين المرحلتين, يحسن بنا بيان أمرين؛ يتعلّق الأوّل منهما بالتعريف بنظرية المعرفة, وموقع مبحث قيمة المعرفة فيها. ويتعلق الآخر بالتعريف بمصادر هذه الدراسة.
****
الأمر الأول: نظرية المعرفة
نظرية المعرفة علم يبحث فيه عن مبادئ المعرفة الإنسانية, وطبيعتها, ومصدرها, وقيمتها, وحدودها, وفي الصِلة بين الذات المدرِكة [بالكسر] والموضوع المدرَك [بالفتح]. وكذا تبحث في الأفكار المتعلّقة بأشكال ومناهج المعرفة والحقيقة, ووسائل بلوغها(1).
وقد دَرج الباحثون على استخدام مصطلح ابستمولوجيا (Epistemology), في مقام التعبير عن هذا البحث. وكان أوّل من استعمل هذا المصطلح هو ج. ف. فريير عام (1854م) في كتابه (مبادئ الميتافيزيقيا) وذلك للتفرقة بين نوعين رئيسين للفلسفة هما: الابستمولوجي والانطولوجي, بمعنى البحث في المعرفة والبحث في الوجود(2).
إلا أن الرجوع إلى الجذور الأصلية اليونانية لهذا المصطلح, لا يعطي ولا يوحي لما يراد بحثه في نظرية المعرفة بالدقّة والتّمام. فمصطلح الابستمولوجيا في اليونانية مركّب من (Episteme) الذي يعني المعرفة أو العلم, ومن (Logos) الذي يعني النظرية أو الدراسة.
ومعنى ذلك أن مصطلح الابستمولوجيا بحكم أصله الاشتقاقي, يعني حرفياً (نظرية العلم) أو (نظرية المعرفة العلمية) التي تعنى بالدراسة النقدية لمبادئ العلوم المختلفة, وفروضها ونتائجها, وتهدف إلى تحديد أصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية(3).
وإذا كان لا يظهر خلاف في استعمال مصطلح الابستمولوجيا مكان مصطلح نظرية المعرفة في اللغة الانجليزية, إذ دأبوا على الترادف بينهما, فإن الخلاف يطفو على السطح في اللغة الفرنسية, إذ يحصل التمييز بين ما يطلق عليه (نظرية المعرفة), وما يطلق عليه (الابستمولوجيا). ففي الوقت التي تعني فيه نظرية المعرفة, مجموع التأملات التي تهدف إلى تحديد قيمة معارف الإنسان وحدودها, فإن الابستمولوجيا تعني في جوهرها, أنها الدراسة النقدية للمعرفة العلمية, من حيث المبادئ التي ترتكز عليها, والفروض التي تنطلق منها, والنتائج التي تنتهي إليها, لغرض إبراز أصلها المنطقي وتحديد قيمتها الموضوعية.
أما الحال في لغتنا العربية التي لم تسهم في صنع هذه المصطلحات, ولكنها لم تمتنع عن استعمالها, فإن المتابع لاستعمالات أهل الفكر فيها, يلاحظ هناك مجاراة للموقف الإنكليزي, في عدم التفرقة بين الاصطلاحين.
وهذا يدعونا إلى الالتفات إلى أمر مهم وهو: أن المفاهيم لا تقبل السكون الدائم فهي قابلة للانتقال, وفي انتقالها هذا تنتقل من هوية إلى أخرى, ومن ثم فليس محكوماً على أهل الفكر أن يكونوا في موقع المتلقي الدائم, ليكونوا بذلك المرآة العاكسة ليس إلا. ذلك أن المفاهيم في نشأتها تكون ملاصقة لإشكاليات معينة, ولكن ذلك لا يعني أن تكون المفاهيم حدوداً لهذه الإشكاليات, فقد يتبين أن لها امتدادات وسعة لم يكن حتى المكتشف لتلك المفاهيم على علم بها, فالذي أدخل مفهوم الذرّة أوّل مرة في جملة اصطلاحات الفلسفة, كان يعني به شيئاً مادياً متناهياً في الصغر بنحو لا يقبل القسمة, ولم يكن يتوقع أن يأتي ليبنتس (Leibniz) (1646- 1716م) ليستعمل هذا المفهوم في المجال الميتافيزيقي ليقول بالذرّات الروحية!.
وقياساً على هذا فإنا لا نرى مانعاً في استعمال مصطلح ابستمولوجيا للتعبير عن نظرية المعرفة, يشفعنا في ذلك الاستعمال الانجليزي كما مرّ.
أمّا تاريخ البحث في نظرية المعرفة, فإنه قديم قدم التفكير العقلي, «فقد تناول فلاسفة اليونان وفلاسفة الهند (المعرفة البشرية), كما درسها فلاسفة فارس (الفهلويون)»(4), ومن ثمَّ فأين ما وجد تفكير عقلي كان هناك بحث في المعرفة, ولهذا كان البحث في نظرية المعرفة من أخص خصائص البحث الفلسفي عامّة وإن لم يكن من مسائل هذا البحث. إلا أنّه من المعروف أن أوّل محاولةٍ في تاريخ الفكر لوضع مشكلة المعرفة الإنسانية موضعَ البحث المستقل المنظّم, كانت في القرن السابع عشر الميلادي مع فيلسوف التجريب الانجليزي جون لوك (John Locke) (1632- 1704م), في كتابه ذائع الصيت (مقالة في العقل البشري) الذي يعدّ بحق أوّل بحث علمي منظّم, تناول بالبحث والدرس أصل المعرفة, وماهيتها وحدودها, ودرجة اليقين فيها. ومنذ ذلك الحين تميّزت القارّة الأوروبية بالبحث في نظرية المعرفة فكان من السمات البارزة فيها. بل قد «أضحت نظرية المعرفة السؤال الأوّل الذي تطرحه أغلب مدارس الفلسفة الغربية الحديثة, بل هو الأخير أيضاً لدى بعض الدارسين, وهي تصر على ضرورة أن تكون مشكلة المعرفة منطلقاً جاداً لركوب البحث في مختلف قضايا الحكمة الأساسية, تبرر ذلك بأن تحديد أسلوب المعرفة وأدواتها السليمة, وقيمة هذه الأدوات في الكشف عن الواقع, وتشخيص إمكانات الذهن البشري وحدود فعاليته, تمثّل نقطة البدء في أية معرفة أخرى, سواء على مستوى نظرية الوجود, أم الأخلاق, أم السياسة. ونحن مع الفلسفة الحديثة في تقدم رتبة البحث حول «نظرية المعرفة» في اغلب مشكلاتها على سائر أبحاث الفلسفة الأخرى..»(5).
وأمّا الحكماء الإسلاميون, فلم يفردوها بالبحث المستقل في سالف الأزمان, وإنما بحثوها بشكل مشتّت في مختلف فصول علمي المنطق والفلسفة. فإمعان النظر في مختلف أبواب الحكمة الإسلامية وفصول علم المنطق, يوقف الباحث على أنهم قد بحثوا مسائل نظرية المعرفة في متفرقات مسائلها.
وبشأن أهمية البحث في نظرية المعرفة فإنها تتأتى من جهة: أن تقييم جميع المدارس الفلسفية, والمناهج العلمية, يتوقف على المنحى والاتجاه المتخذ في المعرفة, فما لم يتخذ الباحث رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في نظرية المعرفة, لا يصح منه الإذعان بأي قانون فلسفي أو مسألة علمية.
وبخصوص أهم المسائل التي تتناولها نظرية المعرفة بالبحث والدرس, فتتمثّل في مباحث ثلاثة:
1) البحث في مصدر المعرفة.
2) البحث في قيمة المعرفة.
3) البحث في حدود المعرفة.
والمسألة الأساسية في نظرية المعرفة هو البحث في قيمة المعرفة, وهو ما يهمنا فعلاً في هذه الدراسة, فماذا يعني البحث في قيمة المعرفة؟.
إن البحث في قيمة المعرفة ينصب أساساً للإجابة عن التساؤلات التي تطرح حول حقّانية الإدراك البشري, ذلك أنّ العقل الإنساني ينشط من أجل المعرفة وإدراك الواقع من حوله, بيد أن الإنسان يخطئ, وإقراره بالخطأ يوقظ فيه الريبة والشك, ويوقعه في الحيرة ما يكتنف آراء الناس من غموض وتناقض.
ثم إن العقل الإنساني بعد أن ينصب على الأشياء, يستدير لدراسة ذاته وطبيعة فكره, وهذا التأمّل في الذهن والتساؤل عن قيمة ما يحمله من معرفة, أوّل لحظات الشك لا يلبث أن يجتازها بسلام أو ينحرف في تيارها, إلا أن إثارة الشك تفضي إلى إثارة أهم المسائل المعرفية, وهي المسألة المتمثلة بالتساؤل الذي يقول: هل يصل الإنسان والعقل البشري إلى اليقين ومعرفة الواقع فيما لو كانت هناك واقعية خارج ذهن الإنسان؟ وهل معرفة الإنسان متطابقة مع الخارج؟ هذا التساؤل الذي يمثل في جوهره البحث في قيمة المعرفة, تعتبر كلُّ الفلسفات, شرقيها وغربيها, يقينيتها ولا أدريتها وما بينها, بمثابة جواب عنه.
نعم بإزاء هذا التساؤل اختلفت الإجابات, وكانت كلُّ إجابةٍ تمثّل مذهباً ومدرسةً, فهناك من ذهب إلى إنكار الواقعية من أصل, وهناك من أقرَّ بها ولكنّه أنكر إمكان إدراكها, وهناك من ذهب إلى التطابق بين الفكر وموضوعه, وهناك من لم يتبن هذا أو ذاك وإنما اتخذ موقف الشك من الجميع.
فحرّي بمن يريد أن يؤسّس لمذهب فلسفي في الحياة ونظرية معرفية أصيلة, أن يتصفّح تاريخ هذه المذاهب, وما قالته في هذه المسائل المهمّة التي يرتكز عليها البناء المعرفي البشري بأجمعه, ليكون على بصيرة من أمره, فيعرف مواقع القوة فيأخذ بها, ومواقع الضعف والزلل فيتجنّبها.
الأمر الثاني: التعريف بمصادر الدراسة
سنعتمد في هذه الدراسة على مصادر أساسية تختلف بحسب مرحلتي البحث.
ففي المرحلة الأولى سنعتمد على (أصول الفلسفة) و(فلسفتنا). وبالنسبة إلى (أصول الفلسفة) فقد صدر جزؤه الأوّل بطبعته الفارسية عام (1373 هـ ق - 1953م) ثم بعد سنة واحدة صدر الجزء الثاني, أما ثالث الأجزاء فقد تأخّر عامين عن صدور الجزء الثاني. أمّا كتاب (فلسفتنا) فقد صدر بطبعته الأولى سنة (1379 هـ - 1959م).
مثّل (أصول الفلسفة) في الأصل محضر دروس ألقاها العلامة الراحل السيّد محمد حسين الطباطبائي (1892- 1981م) على مجموعة من طلبته. ثم جمعت وطبعت مع حواش توضيحية كتبها أحد أهم حضّار هذه الدروس أعني الشهيد الشيخ مرتضى المطهّري.
ضمَّ كتاب (أصول الفلسفة) أربعة عشر مقالة, بحثت المواضيع الآتية: ما هي الفلسفة؟, الواقعية والمثالية, العلم والإدراك, قيمة المعرفة, توالد المعرفة, الإدراكات الاعتبارية, مباحث الوجود, الإمكان والوجود- الجبر والاختيار, العلة والمعلول, الإمكان والفعلية- الحركة- الزمان, الحدوث والقِدم- التقدّم- التأخّر- المعيّة, الوحدة والكثرة, الماهية- الجوهر والعرض, العلم وإله العالم.
وقد انتظمت المقالات السّت الأولى في جزء مستقل من الترجمة العربية(6), ولهذا جاز أن يعطى لهذا الجزء عنوان (نظرية المعرفة)(7). أما الجزء الثاني منه, فقد مثّلت أبحاثه نظرية الوجود (الانطولوجيا).
أما كتاب (فلسفتنا), فقد جاء في قسمين؛ مثّل القسم الأول نظرية المعرفة, أما الثاني فقد ضمَّ المفهوم الفلسفي للعالم (نظرية الوجود).
نعم امتازت (فلسفتنا) عن (أصول الفلسفة) - وهو ما يثير الاهتمام فيها- حيث عرضت بحثاً تمهيدياً قبل الخوض في البحث الفلسفي, تطرقت فيه إلى واحدة من كبريات مسائل المجتمع الفكرية, وهو البحث عن النظام الأصلح للإنسانية, فجعلت المسألة الاجتماعية بمثابة التمهيد للخوض في الدراسة الفلسفية(8).
وهناك مزية أخرى تسجّل لـصالح (فلسفتنا), وهي أن جلَّ أبحاثها جاءت بشكل منسّق ومنظّم وفي تراتبية موضوعية, أمّا (أصول الفلسفة), فبحكم أنها متن وتعليقات, فقد خلت من هذا الاتساق والتنظيم, لذا تلاحظ فيها تكراراً في موضع, واقتضاباً في آخر. ولكن بالرغم ذلك كلّه فإنّا نجد «أن العلامة الطباطبائي فريداً في السبق إلى تشكيل ظاهرة للتواصل والحوار والنقد مع الحكمة الغربية على قاعدة حكمة الشرق, التي نعني بها (أي حكمة الشرق), السلسلة التي انتهت بالحكمة المتعالية ومدرسة صدر الدّين الشيرازي»(9).
جاء الكتابان في سياق واحد, وهو مواجهة الخطر الوافد على البلدان الإسلامية المتمثّل بالغزو الفكري المناهض للنظرية الإسلامية, ولاسيما التيارات الماركسية, ففي «غفلة رضا حكمة الشرق بإنجازاتها, دقّت الماركسية نواقيسَ الخطر, وكان خطراً موحشاً, أربك المؤسّسة الدّينية بزحف داهم البيوت, فاستيقظت هذه المؤسّسة بمالها من عمق بشري, مدافعةً عن (إيمانها) الذي هدّده الإلحاد الماركسي, وعن (قيمها) التي ناجزتها قيم الفكر المادي الزاحف بشكل منظّم»(10).
في المرحلة الثانية من الدراسة, كان العمدة فيها كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء), الذي أبصر النور سنة (1972م). وهو الدراسة الوحيدة الجادّة للاستقراء التي ولدت في الشرق المسلم.
وقد كانت الجذور الأولى لأفكار هذا الكتاب, هو تعرّض الشهيد الصدر في ضمن بحوثه في علم أصول الفقه لدى مناقشته للأخباريين في حجية البراهين العقلية, وذلك بتاريخ (4/ 9/ 1963م), عندما وصل إلى مبحث القطع, فتطرّق إلى نمط التفكير الأرسطي ونقده نقداً مستحكماً فيما يقرب من عشر دروس(11), وانطلاقاً ممّا تجمّع لديه من هذه الدراسات, مضافاً لمناقشاته مع تلاميذه, تبلور لديه مذهب معرفي جديد أطلق عليه اسم (المذهب الذاتي في نظرية المعرفة), وبعد ذلك قام بتطوير هذه الأبحاث وأكملها بما لم يناسب ذكره في بحوث علم الأصول, ثم قام بتعميق المناقشات وأخرجها في كتاب الأسس.
أما قيمة هذه الأطروحة, فإنها من دون مبالغة في القول «نقلتنا مع بعض وجوه مشكلات الاستقراء ونظرية الاحتمال ما يقرب من ثلاثة قرون, واختزلت المسافات الزمنية, التي تفصلنا عما عليه الوضع في غرب القارة في وجوه أخرى أكثر من قرن. ومن ثم طرحت معالجة هي أقرب لروحنا في الشرق, وعساها أن تكون علاجاً أو على الأقل بداية العلاج لسد الهوة الثقافية العميقة, التي تفصل بين العالمين»(12).
لقد «جاء الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء ليغزو الدليل الاستقرائي في أرضه التي رشد فيها اليوم, والتقى أحدث انجازات الغرب على هذا الصعيد, ليتفهّم بعمق, وينقد عن بصيرة, ويقدّم شيئاً خطيراً على مستوى الفكر العالمي المعاصر.. الأسس المنطقية للاستقراء أفق جديد ونافذة جديدة, اخترق بها السيّد محمد باقر الصدر جدار الفصل السميك بين المنهج العلمي الحديث, وبين معطيات التاريخ الثقافي لحكماء ومناطقة المسلمين. وكان هذا الأفق وصلاً أصيلاً صدر اثر تثوير إمكانات العقل والتراث, دون أن يتردد صاحبه في الإفادة مما أنجزه الآخرون, ودون أن يستسلم فيقلد ما طرحه حكماء الغرب, بل ورد ميدان البحث واثقاً بمعداته, متسلحاً بسلاح العلم المحايد, مقارعاً الحجة بالحجة, مع فهم موفق للفكر الغربي من داخله. ومن هنا حق على البحث العلمي المعاصر أن يسجل للصدر - على مستوى المنهج - مزيةً ندر أن يتوفّر عليها باحثٌ علمي في موضوع بحثٍ غريبٍ عن بيئته ومدرسته. حيثُ دخل السيّد محمد باقر الصّدر ميدان البحث في قضية معالجة (مشكلة الاستقراء) التي تعني في الأفق الغربي المعاصر أمراً أجنبياً تماماً عن أفق ومناخ الفكر الشرقي وأدواته الثقافية, دون أن يستشرف على هذه القضية من الخارج, بل عالجها على ضوء معطياتها الداخلية وفي ظل المناخ الرياضي والمنطقي الخاص الذي طرحت خلاله. وحقَّ أيضاً على تاريخ البحث العقائدي الإسلامي أن يسجل للصدر الفضل في رسم طريق الإسلام, ومن ثمَّ لابد لتاريخ العلم - إن أنصف التاريخ- أن يقف للصدر وقفة إجلال وتقدير لرجل إيديولوجي يحمل فكراً, وينتمي إلى مدرسة فكرية ذات تراث, لكنه حفظ للعلم والفلسفة الحقّة حيادهما, فورد ميدان البحث العلمي والفلسفي في اخطر قضايا الفكر الحديث دون مسلمات لا تقبل الجدل»(13).
ولكن بالرغم من ذلك كلّه, فإن كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء" من أقل مؤلفات المعلّم الراحل الشهيد الصدر تداولاً بين القرّاء, فإنه يغيب في حلقات دراسة المنطق والفلسفة في الحوزات العلمية, ولا تتنبّه إليه كثير من الأبحاث في نظرية المعرفة, وفلسفة العلم.
يتبع..
الهوامش:
(1) المعجم الفلسفي, مجمع اللغة العربية: 203, القاهرة 1979م ؛ المعجم الفلسفي, جميل صليبا 2: 478 ؛ الموسوعة الفلسفية المختصرة: 475- 476.
(2) مدخل إلى الفلسفة بنظرة اجتماعية, عبد المجيد عبد الرحيم: 162, مكتبة النهضة المصرية 1976.
(3) نظرية المعرفة من سماء الفلسفة إلى أرض المدرسة, عادل العسكري: 28.
(4) دراسات في الحكمة والمنهج, السيد عمّار أبو رغيف: 336.
(5) دراسات في الحكمة والمنهج: 337.
(6) هي الترجمة الكاملة الأكثر شهرة ودقّة, التي اضطلع بها سماحة الأستاذ السيّد عمّار أبو رغيف (دام ظله), التي جاءت بعنوان (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي), وقد طبعت مؤخراً في مجلدين ضخمين من قبل المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع.
(7) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1: 18, مقدمة الأستاذ المترجم.
(8) وهذا المنهج خلاف ما هو السائد, حيث يبتدئون البحث في نظرية المعرفة, ثم الانتقال إلى بحث الوجود, وبعد التأسيس الفلسفي ينتقل الباحث إلى الخوض في مسألة القيم الإنسانية والنظم الاجتماعية, كما فعل المعلم الثاني أبو نصر الفارابي في المدينة الفاضلة.
(9) أصول الفلسفة 1: 13, مقدمة المترجم. نعم سبقتها محاولة المرحوم الشيخ عبد الكريم الزنجاني, في كتابه (دروس الفلسفة) في خصوص جزئه الأوّل الصادر في النجف سنة (1940م), إذ تواصل فيه مع الحكمة الغربية, ووجه بعض النقود لفلسفة (كانْت) و(ديكارت), والنظرية النسبية لـ(اينشتاين), وآخرين من رجالات الغرب. وإن لم تكن هذه المحاولة من حيث الشمول والسّعة والعمق بمقدار ما فعله العلامة الطباطبائي.
(10) أصول الفلسفة 1: 15, مقدمة المترجم.
(11) انظر في مناقشة الأخباريين: بحوث في علم الأصول, السيد محمود الهاشمي 4: 119, حجية الدليل العقلي.
(12) منطق الاستقراء, السيد عمّار أبو رغيف: 7- 8.
(13) الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش, السيّد عمّار أبو رغيف: 10- 11.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat