صفحة الكاتب : السيد يوسف البيومي

تلك الأمثال: من كتاب الله ج2
السيد يوسف البيومي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نواصل مع القارئ الكريم تبيان بعض الأمثال التي وردت في كتاب الله عز وجل، أرجو أن تكون في فائدة القراء الكرام..
قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغَاوِين * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْركْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * ساءَ مَثَلاً الْقَومُ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُون}.
تفسير الآيات: 
النبأ: الخبر عن الأمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة ، أخلد إلى الأرض أي سكن إليها.
السلخ: النزع، وقوله: (أخْلد إلى الأرض) لصق بها، واللهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش، واللهاث حرّ العطش.
هذا هو تفسير مفردات الآية، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه، فالأكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل، وقيل من الكنعانيين أوتي علم بعض كتاب الله، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.
والإمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية، وإليك ما يدل على ذلك في الآية:
أ ـ لفظ ( نبأ ) حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً.
ب ـ قوله: ( الذي آتَيْناهُ آياتنا ) حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية.
ج ـ قوله: ( فانسلخ منها ) يدل على أنّ الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلاّ انّه خرج منها. 
ويؤيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوى باللباس، ويقول : ( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيرٌ ). 
د ـ قوله: ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطان ) يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين.
إلى هنا تم تفسير الآية الاُولى، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية، وهي انّه سبحانه تبارك وتعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه، ولكنّه لم يشأ، لأنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه واتّبع هواه، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن الله وكذب آياته، ولذلك يقول:
(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي لرفعناه بتلك الآيات «ولكن ما شئنا» وليس ذلك للبخل منه سبحانه، بل لفقدان الأرضية الصالحة، لأنّه أخلد إلى الأرض ولصق بها، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.
ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته، وهو انّ هذا الإنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته، فلا يصدر منه إلاّ التكذيب والإدبار عن آياته، فلذلك لا يؤثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ، ولتقريب هذا الأمر نأتي بتمثيل في ضمن تمثيل، ونقول:
(فَمَثَلهُ كَمَثل الكَلْب انْ تَحْمل عَلَيه يَلْهَث أَوْ تَتْركهُ يَلهَث)، وذلك لأنّ اللهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها.
هذا هو المشبه به، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد الله تبارك وتعالى، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة تؤهله لتعلّق مشيئته تعالى به، فمن أخلد إلى الأرض ولصق بها، أي أخلد إلى المادة والماديات، فلا تشمله الهداية الإلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالاً اختيارياً مكتسباً.
هذا هو حال المشبه به ، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلاً آخر.
وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين فيه، فربما يقال: إنّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ الله سبحانه يرسل رسولاً في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلمّـا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم، فقيل: قتلوا في حربهم مع النبي، فقال: لو كان نبياً لما قتل أقرباءه، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها، فأتت أُخته الفارعة إلى رسول الله  ، فسألها عن وفاته ، فذكرت له انّه أنشد عند موته: 
كل عيش وإن تطاول دهراً
  صائر مرة إلى أن يزولا
  
صائر ليتني كنت قبل ما قد بدالي
  في قلال الجبال أرعى الوعولا
  
إنّ يوم الحساب يوم عظيم
  شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
  
 
ثمّ قال  لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت:
 
لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربّنا
  ولا شيء أعلى منك جدّاً وأمجدُ
  
مليكٌ على عرش السّماءِ مهيمنٌ
  لعزّته تعنُو الوجوهُ وتسجدُ
  
ثمّ أنشدته قصيدته التي يقول فيها: 
وقف الناس للحسابِ جميعاً
  فشقيّ معذّب وسعيد
  
والتي فيها :
عند ذي العرش تُعرضونَ عليه
  يعلمُ الجهرَ والسِـراءَ الخفيّا
  
 
يوم يأتي الرحمنُ وهو رحيم
  إنّه كان وعدُهُ مأتيّا
  
ربّ إن تعفُ فالمعافاةُ ظنّي
  أو تُعاقِبْ فلم تعاقِب بريّا
  
  
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ أخاك آمن شعره ، وكفر قلبه» وأنزل الله تعالى الآية.
وقيل : إنّه أبو عامر بن النعمان بن صيفى الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فقدم المدينة ، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله): ما هذا الذي جئت به، قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم»، قال: فأنا عليها، فقال: "لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها".
فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منّا طريداً وحيداً، فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي من المدينة، فمات بالشام طريداً وحيداً.
والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين ، بل كما قال الإمام الباقر عليه السلام): «الأصل في ذلك بلعم ، ثم ضربه الله مثلاً لكل موَثر هواه على هدى الله من أهل القبلة ».
وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الإنسان هي أُخريات حياته ، فربما يكون موَمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه، فليس صلاح الإنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلاً على صلاحه ونجاته في آخر عمره.
وبذلك يعلم أنّ ترضّي القرآن عن المهاجرين والأنصار في قوله سبحانه:  {لَقَدْ رَضِي اللهُ عَنِ الْمُؤمِنينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
ويؤيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله: (إِذ يُبايعونك) ولا يكون دليلاً على رضاه طيلة حياتهم، فلو دلّ دليل على زلّة واحد منهم، فيؤخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين.
وقد يظهر مفاد قوله سبحانه: {والسَّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْري تَحْتَهَا الأنهَارُ خالِدينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ}.
فانّ الآية دليل على شمول رضى الله لهم، فيؤخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة، فيؤخذ بالثاني، وليس بين الدليلين أي خلاف، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية، أعني من آتاه الله سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها.
فما ربما يتراءى من إجماع غير واحد من المفسرين بهذه الآيات كلى عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي والله العالم(1). 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الأمثال في القرآن الكريم، للشيخ جعفر السبحاني، ص142.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد يوسف البيومي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/07



كتابة تعليق لموضوع : تلك الأمثال: من كتاب الله ج2
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net