صفحة الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي

قصة قصيرة بقايا رجل
ستار عبد الحسين الفتلاوي

 ظهيرة قائضة , تأخذ بتلابيبه, وتحيل مفاصله وعظامه إلى سيولة زيت ثقيل .. ذلك المتخبط على أسفلت فائر . عائدا من الجامع في ظهيرة ترشح سموما وغبارا . كان كل شيء غارقا في هدوء عميق , مستسلما لنوم قيلولة إجبارية . والريح تمشط الشوارع حيئة وذهابا . تنتفخ أكياس النايلون , متطايرة في الجو في رقصة متكررة ومألوفة . يتوهم إنها طيور ملونة تطوحها الريح . البيوت ساكنة . لاحس فيها ولا حركة . كأنها مهجورة من ساكنيها . تتكئ على عواميدها , منتظرة انبعاثها .. مثقلة بأحزان سرمدية , تأنف أن تفارقها  .. موجوعة بأوجاع أهلها .                                                                                    بعض البيوت تشي بنفوس ساكنيها , بسيطة ومفتوحة , أو معقدة وموحشة  . يراودك أحساس بأن بعض البيوت تطردك من عتباتها .. ترفضك بطريقة  غريبة وعصية على الفهم . الباب ذو الالوان الشاكسة يهمس : اغرب عني , أنت لست مؤهلا إن تطرقني !! من ذلك الباب بالضبط , يخرج رجل بلباس داخلي قصير , وفانيلة انحسرت عن بطنه المنتفخة والمشعرة.رأسه الكبير يخلو من الشعر .نظر صوبك بعينين نصف مفتوحتين , ازدردك من رأسك إلى قدميك . ركض إلى حافة الرصيف ,رمى كيس الازبال .. هرول عائدا بطريقة مضحكة , وقد دخل لباسه في شق مؤخرته !                                                                اللفح الحار للهواء يعمي العيون , ويغشيها بسحابة من الدمع . كل الأشياء راكة في مستنقع الظهيرة .. البيوت تمتد منتظمة ومغلقة , ليس ثمة فرجة مفتوحة . أعمدة الكهرباء لاتستقر حين تنظر إليها , كأنما تتلوى تحت شمس تود لو تهوي  . يترسخ في داخلك شعور بالاعوجاج . . لاظلال .. الأشجار ابتلعت ظلالها في وقفة عمودية . مظلة الباص اكلت الشمس ظلها ,فبقيت عارية في القيظ . الشارع يمتد خاليا الا من خطواته المتسارعة في حثيث مرتبك . قدمه اليسرى تسبقه دائما , فيحاول اللحاق بها . نظر بعينيه التي اذاها تكسر الضوء ووميضه الحاد . قال : ليس ثمة احد غيري , فلاْ لأمشي بشكل اخرق .. لايوجد من يضحك عليّ الان . لاعين ترى ولا أذن تسمع . استشاط صوت بداخله : والملكان أنسيتهما ؟ قال : أستغفر الله , ولكن حتى الملكين لن يبقيا في هذه الظهيرة . استغفر الله , ماشأني بهذه الافكار . قاربت على الوصول . اجال بصره فيما حوله .. شمس لاهبة تحرق قفاه . شفتاه متيبستان , يشعر بعطش مفاجئ . اذناه تتلقفان صوتا ما . يحاذيه شيخ نحيف , يرتدي يشماغا وعقالا على رأسه . باغته بقوله : السلام عليكم .

– وعليكم السلام من اين جئت ياعم ؟                                                                                                                             - لاتسأل ,بعض الاشياء لايمكن الاجابة عنها . انت تقسو على على نفسك اكثر من اللازم . خذ .. اشرب هذا الماء .                          شربت الماء وكأنني منوم مغناطيسيا . كان للماء طعما غريبا ولذيذا , صافيا ومنعشا , ليس فيه رائحة كلور او غيره من المعقمات . استقبلته احشائي الظامئة بنهم غريزي , مثل مزنة مطر , طال انتظارها على ارض يباب . اعدت الكأس الفارغة الى الشيخ . قال : هنيئا , استودعك الله . حافظ على ايمانك .                                                                                           تركني في حيرتي .. من اين عرف ان يقيني قد ارتعش قليلا ؟! الرجل يسير حافيا على الاسفلت المائع .صرخت خلفه : كيف تسير حافيا في هذا القيظ ؟ اختفى مثلما جاء , وغاب شخصه في مساحات الضوء المتوحش .الضوء الباهرلاتطيقه عيناه . قال: يجب ان اشتري نظارة والا لن اجدعيني في محجريهما .. انهما يغوران في راسي طيلة الصيف .                                                 اكتسحته غربة مبهمة ,واليفة في ذات الوقت . دنسه كيانه المفكر بسؤال :  لماذا تعطيك بعض الاوقات شعورا بالغربة ؟ قال : قد اكون انا الوحيد الذي يشعر هكذا . على كل حال , انا الشئ الناتئ , والمتحرك , والغريب  , بمشيتي الراقصة على ايقاع غير منتظم ! انتبه الى توقف خشخشة اوراق الاشجار , والتكثف العميق للسكون على اسطح البيوت . اصابته الدهشة اذ وجد نفسه بين البيوت . كان يشعر انه في صحراء او في فضاء مفرغ من الزمن . كرر قولا سمعه ذات مرة : مادامت الاشياء بلا ظلال فهي اما ميتة او غير موجودة . حقق الفكرة في ذهنه , لكنه لم يتوصل الى فهمها . الازيز المتواصل لبرادات الهواء , يسحبه الى داخل البيوت . حيث الاخرين غارقين في عتمة صناديقهم ( بيوتهم ) . ركس قلبه الى غور سحيق , كما تنتهي نقطة ما الى وسط دوامة . انسحق تحت عبء اثقال واثقال ... سرت في اسفل بطنه رعشة محرقة , عندما سمع الانين المكتوم لانثى تغتصب . التفت بكامل جسمه الى مصدر الصوت . وجد قطتهم الصغيرة الضالة , ينهش رأسها قط مريع .. متسخ الوبر , بوجه مربع . استمرت القطة تطلق انينها , وهو تنهشه رغبات حادة تكومت في نفسه منذ سنوات , ثم تنبجس رويدا .. رويدا في لياليه . فتؤرقه باحلام أثمة .. تحيله الى كيان بائس وضعيف . اصبح مشهد الرغبات المذبوحة لايطاق . والانين المتوحش يسيح تحت شمس محرقة .. يتصاعد في فضاء الرصاص السائلروائح ثخينة , يصاحبها هرير روح طرية , لم تدنس بعد . يذوب الهرير والانين في شرايينه المتورمة بالحاح  مستمر . يحدثه الاخر الذي في نفسه : ستكون لك امراة بجمال صبرك ..امرأة لم يقربها انس ولاجان .القط المريع يسير في المؤخرة , رافعا ذنبه الى الاعلى , او ملوحا به الى الجانبين . ارتسم على وجهه المربع تجهم انساني فريد , اما قطتنا الضالة , والتي لم تكن ضالة ابدا . كانت تهرب منه بوثبات قصيرة , تتمرغ امامه بالتراب تحت نبات الجهنمية المتهدل من الاسيجة . كانت تعرف بغريزتها , انها لاتستطيع الهرب من قدر مرسوم .. عشرات الهررة المستثارة ستكون مستعدة لافتراسها, حيث تصفعها السموم اللافحة .                                                                     قال : اذن قطتنا التي تربت في بيتنا , لم تضل طريقها , ولكنه نداء غريزتها .. نداء هذا الذكر ذي الوبر الخشن . تلاقت نظراتنا في مستقيم واحد . فبدى القط غير مهتم بوجودي , ومراقبتي المضنية له . تمدد بوقار تحت الجهنمية , وذات النظرة الانسانية النافذة تنعكس في عينين فيهما توحش نمر ! نظراته تمر من خلالي , وتتبدد في مكان اخر . تجنبت النظر الى وجهه مباشرة . هربت من الحريق الذي يشتعل في خضرة عينيه . قلت : القطط تسكنها ارواح الجن .                                                عادت نظرته تتلمس طريقها , الى الانثى الراقدة . تداري خوفها من تجرتها الاولى . رائحة وبر مبتل .. حادة تشبه الى حد ما   رائحة دم متجمد حين تغسله بالماء . امتلاء الهواء بنداء لاهث لقطط تخمش وجوه بعضها .                                                   اثارت الرائحة حساسية انفه , فعطس . رمقه القط  بغير اهتمام . تثائب ولعق قائمتيه الاماميتين بلسان احمر . يتشمم الرائحة بانفه الرمادي . يلعق اثار اقدام الانثى ..يدور حولها بخطوات مدروسة . تلتفت القطة يمينا وشمالا , بوثبة رشيقة يقعي على ظهرها , وقد عض جلدة راسها بانيابه . ينطلق انينها كصفارة حريق , فيحدث جرسا مزعجا في راسه .                                          قال : لماذا الطبيعة بهذا القدر من الوضوح ؟! أحرقته حبيبات الملح التي تجمعت على مسامات جلده المدبوغ . قال : اشعر ألان , كأنني سمك ملح ترك ليجف . حاسته التي ليست بأذن ولا عين , تنذره بأن ظلا ما يسقط عليه . النظرة الوجلة ذات نهاية مدببة تنغرز في أعلى ظهره . يستدير على مهل معطيا نفسه فرصة للتخلص من بهاق الشمس . يرفع بصره الى حيث النظرة المحتدمة برغبات الأعضاء المرضوضة . أيقن أن فتاة ما أو امرأة ما تشاركه نوازعه الشريرة . بدت أول الأمر بكامل جسمها تحتجز النافذة .. ذراعها البضة تدل على أنها فتاة مراهقة , أرهقها توحدها في غرفة بالطابق العلوي . الفتاة تسدل ستارة النافذة   وتراقب من كوة صغيرة . قال : لا تخافي , لست إلا بقايا رجل .                                                                                الباب يوارب على فناء الدار . يبصق بقوة طاردا حبيبات الملح المترسبة فوق لسانه . تسقط عيناه على فخذين متقشرين .. تسقط بالتحديد وسط الفخذين المنفرجين . يرى اخته الجرباء تحتضن حوض الماء . يعتصر وجهها الم حاد , فيتبقع ببقع حمراء وزرقاء .. البقع واضحة في الجلد المتقشر . تشد الفتاة اصابعها المتقلصة .. ثوبها الابيض كان متسخا ومرفوعا الى مستوى حوضها . اعماقها ملوثة بالدماء التي تنز من لباسها الداخلي . حافة حوض الماء ملوثة بالدماء. الفتاة منذهلة , لاتدري كيف تداري خزيها امام عيني اخيها ؟ بهتت اوصالها وجمدت عن الحركة .يفرقها شعور بالعري التام . ارخت ثوبها على فخذيها , تستر ما دنسته العين الناقمة . يلوك كلماته كمن يلوك قطعة خبز متعفنة : فضحتينا ياكلبة ,قومي الى الداخل .                           اسرعت مهرولة , تسحب خلفها خيطا ضئيلا من الدم . ثمة بقعة دم ارتسمت على الثوب المتسخ ,وتشرخت الى نتوءات صغيرة . يبرك قرب الحوض , وهو خائر القوى   . فتح صنبور الماء وغسل حافة الحوض . يشرب الماء الحار ويبصقه , ثم يشربه ويبصقه . تشيط في انفه رائحة وبر مبتل . يمدد جسده على الاريكة . تتوالى عليه نوبات الغثيان . يمرر يده على لحيته الناتئة الشعر كالحلفاء.. امه مرتمية اسفل منه , نظراتها المتوسلة تلتصق به . وجهها غارق في السواد , وعظامها تكاد تشق جلدها . تستند الى مرفقيها وتسبقه بالكلام : ( يمه البنت كبرت . الزمن لايترك شيئا على حاله .. يمه وهذي خبلها المرض . اتحملها الله يرضى عليك ) . زم شفتيه المتشققة , ولم يجد ما يقوله .                                                                                صرخت البنت الجرباء من الغرفة الاخرى : ( كل البنات تزوجن , بس اني ظليت ...) . ركض الى الباب المغلق , ورفسه برجله . فتكوم على وجهه . قال : والله اذا لم تسكتي , اكسر الباب واقتلك , روحي صارت بمناخيري .                                                  – ( يمه هذا الله كاتبه علينا ) .                                                                                                                           – ( لا يمه الله ما كتب شئ . هذا حظي العاثر . تدرين اني صرت مثل هذا الذي يغني : ( انا ياطير ضيعني نصيبي صرت لاني لهلي و لا ني لحبيبي ) .                                                                                                                                  – ( يمه الله كريم .. الله كريم ) .                                                                                                                               – الى متى برأيك نردد .. الله كريم , وكم مرة قلتها .. الف مرة .. الاف المرات .                                                                        اغفى تاركا عيني امه تسبحان في الفراغ . ومن الغرفة الاخرى , تنطلق الكلمات ذاتها , وبوتيرة واحدة : اريد اتزوج .. اريد اتزوج .تتصاعد وتيرة كلماتها الختامية بما يشبه النشيد : ( كل البنات تزوجن , بس اني ظليت ) .كانت  البنت جاثية على ركبتيها , تحدث شخوصها الوهميين , وتلعب بحواشي ثوبها المبقع بالدم . تخرج يديها من جيب ثوبها, فيسقط مستقرا على فخذيها . تعود الى هذيانها المحموم : ( اني حلوة وحبابة .. غدا او بعد غد اتزوج ويبقى هو وهذه الخبلة امي ...) . صرختها كانت يائسة ومؤلمة , يصاحبها صوت يديها وهي تضربها على الارض : اريد اتزوج .. اريد اتزوج .. الكلمات الحادة الحواف تتسرب رغما عنه الى اذنيه . اعتقد انه هو الذي يرددها , ولكن بطريقة هدئة ومنسابة : اريد ان اتزوج .. اريد ان ارتاح .. اريد ان انام حتى تبعثر القبور . 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ستار عبد الحسين الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/16



كتابة تعليق لموضوع : قصة قصيرة بقايا رجل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net