ظهيرة قائضة , تأخذ بتلابيبه, وتحيل مفاصله وعظامه إلى سيولة زيت ثقيل .. ذلك المتخبط على أسفلت فائر . عائدا من الجامع في ظهيرة ترشح سموما وغبارا . كان كل شيء غارقا في هدوء عميق , مستسلما لنوم قيلولة إجبارية . والريح تمشط الشوارع حيئة وذهابا . تنتفخ أكياس النايلون , متطايرة في الجو في رقصة متكررة ومألوفة . يتوهم إنها طيور ملونة تطوحها الريح . البيوت ساكنة . لاحس فيها ولا حركة . كأنها مهجورة من ساكنيها . تتكئ على عواميدها , منتظرة انبعاثها .. مثقلة بأحزان سرمدية , تأنف أن تفارقها .. موجوعة بأوجاع أهلها . بعض البيوت تشي بنفوس ساكنيها , بسيطة ومفتوحة , أو معقدة وموحشة . يراودك أحساس بأن بعض البيوت تطردك من عتباتها .. ترفضك بطريقة غريبة وعصية على الفهم . الباب ذو الالوان الشاكسة يهمس : اغرب عني , أنت لست مؤهلا إن تطرقني !! من ذلك الباب بالضبط , يخرج رجل بلباس داخلي قصير , وفانيلة انحسرت عن بطنه المنتفخة والمشعرة.رأسه الكبير يخلو من الشعر .نظر صوبك بعينين نصف مفتوحتين , ازدردك من رأسك إلى قدميك . ركض إلى حافة الرصيف ,رمى كيس الازبال .. هرول عائدا بطريقة مضحكة , وقد دخل لباسه في شق مؤخرته ! اللفح الحار للهواء يعمي العيون , ويغشيها بسحابة من الدمع . كل الأشياء راكة في مستنقع الظهيرة .. البيوت تمتد منتظمة ومغلقة , ليس ثمة فرجة مفتوحة . أعمدة الكهرباء لاتستقر حين تنظر إليها , كأنما تتلوى تحت شمس تود لو تهوي . يترسخ في داخلك شعور بالاعوجاج . . لاظلال .. الأشجار ابتلعت ظلالها في وقفة عمودية . مظلة الباص اكلت الشمس ظلها ,فبقيت عارية في القيظ . الشارع يمتد خاليا الا من خطواته المتسارعة في حثيث مرتبك . قدمه اليسرى تسبقه دائما , فيحاول اللحاق بها . نظر بعينيه التي اذاها تكسر الضوء ووميضه الحاد . قال : ليس ثمة احد غيري , فلاْ لأمشي بشكل اخرق .. لايوجد من يضحك عليّ الان . لاعين ترى ولا أذن تسمع . استشاط صوت بداخله : والملكان أنسيتهما ؟ قال : أستغفر الله , ولكن حتى الملكين لن يبقيا في هذه الظهيرة . استغفر الله , ماشأني بهذه الافكار . قاربت على الوصول . اجال بصره فيما حوله .. شمس لاهبة تحرق قفاه . شفتاه متيبستان , يشعر بعطش مفاجئ . اذناه تتلقفان صوتا ما . يحاذيه شيخ نحيف , يرتدي يشماغا وعقالا على رأسه . باغته بقوله : السلام عليكم .
– وعليكم السلام من اين جئت ياعم ؟ - لاتسأل ,بعض الاشياء لايمكن الاجابة عنها . انت تقسو على على نفسك اكثر من اللازم . خذ .. اشرب هذا الماء . شربت الماء وكأنني منوم مغناطيسيا . كان للماء طعما غريبا ولذيذا , صافيا ومنعشا , ليس فيه رائحة كلور او غيره من المعقمات . استقبلته احشائي الظامئة بنهم غريزي , مثل مزنة مطر , طال انتظارها على ارض يباب . اعدت الكأس الفارغة الى الشيخ . قال : هنيئا , استودعك الله . حافظ على ايمانك . تركني في حيرتي .. من اين عرف ان يقيني قد ارتعش قليلا ؟! الرجل يسير حافيا على الاسفلت المائع .صرخت خلفه : كيف تسير حافيا في هذا القيظ ؟ اختفى مثلما جاء , وغاب شخصه في مساحات الضوء المتوحش .الضوء الباهرلاتطيقه عيناه . قال: يجب ان اشتري نظارة والا لن اجدعيني في محجريهما .. انهما يغوران في راسي طيلة الصيف . اكتسحته غربة مبهمة ,واليفة في ذات الوقت . دنسه كيانه المفكر بسؤال : لماذا تعطيك بعض الاوقات شعورا بالغربة ؟ قال : قد اكون انا الوحيد الذي يشعر هكذا . على كل حال , انا الشئ الناتئ , والمتحرك , والغريب , بمشيتي الراقصة على ايقاع غير منتظم ! انتبه الى توقف خشخشة اوراق الاشجار , والتكثف العميق للسكون على اسطح البيوت . اصابته الدهشة اذ وجد نفسه بين البيوت . كان يشعر انه في صحراء او في فضاء مفرغ من الزمن . كرر قولا سمعه ذات مرة : مادامت الاشياء بلا ظلال فهي اما ميتة او غير موجودة . حقق الفكرة في ذهنه , لكنه لم يتوصل الى فهمها . الازيز المتواصل لبرادات الهواء , يسحبه الى داخل البيوت . حيث الاخرين غارقين في عتمة صناديقهم ( بيوتهم ) . ركس قلبه الى غور سحيق , كما تنتهي نقطة ما الى وسط دوامة . انسحق تحت عبء اثقال واثقال ... سرت في اسفل بطنه رعشة محرقة , عندما سمع الانين المكتوم لانثى تغتصب . التفت بكامل جسمه الى مصدر الصوت . وجد قطتهم الصغيرة الضالة , ينهش رأسها قط مريع .. متسخ الوبر , بوجه مربع . استمرت القطة تطلق انينها , وهو تنهشه رغبات حادة تكومت في نفسه منذ سنوات , ثم تنبجس رويدا .. رويدا في لياليه . فتؤرقه باحلام أثمة .. تحيله الى كيان بائس وضعيف . اصبح مشهد الرغبات المذبوحة لايطاق . والانين المتوحش يسيح تحت شمس محرقة .. يتصاعد في فضاء الرصاص السائلروائح ثخينة , يصاحبها هرير روح طرية , لم تدنس بعد . يذوب الهرير والانين في شرايينه المتورمة بالحاح مستمر . يحدثه الاخر الذي في نفسه : ستكون لك امراة بجمال صبرك ..امرأة لم يقربها انس ولاجان .القط المريع يسير في المؤخرة , رافعا ذنبه الى الاعلى , او ملوحا به الى الجانبين . ارتسم على وجهه المربع تجهم انساني فريد , اما قطتنا الضالة , والتي لم تكن ضالة ابدا . كانت تهرب منه بوثبات قصيرة , تتمرغ امامه بالتراب تحت نبات الجهنمية المتهدل من الاسيجة . كانت تعرف بغريزتها , انها لاتستطيع الهرب من قدر مرسوم .. عشرات الهررة المستثارة ستكون مستعدة لافتراسها, حيث تصفعها السموم اللافحة . قال : اذن قطتنا التي تربت في بيتنا , لم تضل طريقها , ولكنه نداء غريزتها .. نداء هذا الذكر ذي الوبر الخشن . تلاقت نظراتنا في مستقيم واحد . فبدى القط غير مهتم بوجودي , ومراقبتي المضنية له . تمدد بوقار تحت الجهنمية , وذات النظرة الانسانية النافذة تنعكس في عينين فيهما توحش نمر ! نظراته تمر من خلالي , وتتبدد في مكان اخر . تجنبت النظر الى وجهه مباشرة . هربت من الحريق الذي يشتعل في خضرة عينيه . قلت : القطط تسكنها ارواح الجن . عادت نظرته تتلمس طريقها , الى الانثى الراقدة . تداري خوفها من تجرتها الاولى . رائحة وبر مبتل .. حادة تشبه الى حد ما رائحة دم متجمد حين تغسله بالماء . امتلاء الهواء بنداء لاهث لقطط تخمش وجوه بعضها . اثارت الرائحة حساسية انفه , فعطس . رمقه القط بغير اهتمام . تثائب ولعق قائمتيه الاماميتين بلسان احمر . يتشمم الرائحة بانفه الرمادي . يلعق اثار اقدام الانثى ..يدور حولها بخطوات مدروسة . تلتفت القطة يمينا وشمالا , بوثبة رشيقة يقعي على ظهرها , وقد عض جلدة راسها بانيابه . ينطلق انينها كصفارة حريق , فيحدث جرسا مزعجا في راسه . قال : لماذا الطبيعة بهذا القدر من الوضوح ؟! أحرقته حبيبات الملح التي تجمعت على مسامات جلده المدبوغ . قال : اشعر ألان , كأنني سمك ملح ترك ليجف . حاسته التي ليست بأذن ولا عين , تنذره بأن ظلا ما يسقط عليه . النظرة الوجلة ذات نهاية مدببة تنغرز في أعلى ظهره . يستدير على مهل معطيا نفسه فرصة للتخلص من بهاق الشمس . يرفع بصره الى حيث النظرة المحتدمة برغبات الأعضاء المرضوضة . أيقن أن فتاة ما أو امرأة ما تشاركه نوازعه الشريرة . بدت أول الأمر بكامل جسمها تحتجز النافذة .. ذراعها البضة تدل على أنها فتاة مراهقة , أرهقها توحدها في غرفة بالطابق العلوي . الفتاة تسدل ستارة النافذة وتراقب من كوة صغيرة . قال : لا تخافي , لست إلا بقايا رجل . الباب يوارب على فناء الدار . يبصق بقوة طاردا حبيبات الملح المترسبة فوق لسانه . تسقط عيناه على فخذين متقشرين .. تسقط بالتحديد وسط الفخذين المنفرجين . يرى اخته الجرباء تحتضن حوض الماء . يعتصر وجهها الم حاد , فيتبقع ببقع حمراء وزرقاء .. البقع واضحة في الجلد المتقشر . تشد الفتاة اصابعها المتقلصة .. ثوبها الابيض كان متسخا ومرفوعا الى مستوى حوضها . اعماقها ملوثة بالدماء التي تنز من لباسها الداخلي . حافة حوض الماء ملوثة بالدماء. الفتاة منذهلة , لاتدري كيف تداري خزيها امام عيني اخيها ؟ بهتت اوصالها وجمدت عن الحركة .يفرقها شعور بالعري التام . ارخت ثوبها على فخذيها , تستر ما دنسته العين الناقمة . يلوك كلماته كمن يلوك قطعة خبز متعفنة : فضحتينا ياكلبة ,قومي الى الداخل . اسرعت مهرولة , تسحب خلفها خيطا ضئيلا من الدم . ثمة بقعة دم ارتسمت على الثوب المتسخ ,وتشرخت الى نتوءات صغيرة . يبرك قرب الحوض , وهو خائر القوى . فتح صنبور الماء وغسل حافة الحوض . يشرب الماء الحار ويبصقه , ثم يشربه ويبصقه . تشيط في انفه رائحة وبر مبتل . يمدد جسده على الاريكة . تتوالى عليه نوبات الغثيان . يمرر يده على لحيته الناتئة الشعر كالحلفاء.. امه مرتمية اسفل منه , نظراتها المتوسلة تلتصق به . وجهها غارق في السواد , وعظامها تكاد تشق جلدها . تستند الى مرفقيها وتسبقه بالكلام : ( يمه البنت كبرت . الزمن لايترك شيئا على حاله .. يمه وهذي خبلها المرض . اتحملها الله يرضى عليك ) . زم شفتيه المتشققة , ولم يجد ما يقوله . صرخت البنت الجرباء من الغرفة الاخرى : ( كل البنات تزوجن , بس اني ظليت ...) . ركض الى الباب المغلق , ورفسه برجله . فتكوم على وجهه . قال : والله اذا لم تسكتي , اكسر الباب واقتلك , روحي صارت بمناخيري . – ( يمه هذا الله كاتبه علينا ) . – ( لا يمه الله ما كتب شئ . هذا حظي العاثر . تدرين اني صرت مثل هذا الذي يغني : ( انا ياطير ضيعني نصيبي صرت لاني لهلي و لا ني لحبيبي ) . – ( يمه الله كريم .. الله كريم ) . – الى متى برأيك نردد .. الله كريم , وكم مرة قلتها .. الف مرة .. الاف المرات . اغفى تاركا عيني امه تسبحان في الفراغ . ومن الغرفة الاخرى , تنطلق الكلمات ذاتها , وبوتيرة واحدة : اريد اتزوج .. اريد اتزوج .تتصاعد وتيرة كلماتها الختامية بما يشبه النشيد : ( كل البنات تزوجن , بس اني ظليت ) .كانت البنت جاثية على ركبتيها , تحدث شخوصها الوهميين , وتلعب بحواشي ثوبها المبقع بالدم . تخرج يديها من جيب ثوبها, فيسقط مستقرا على فخذيها . تعود الى هذيانها المحموم : ( اني حلوة وحبابة .. غدا او بعد غد اتزوج ويبقى هو وهذه الخبلة امي ...) . صرختها كانت يائسة ومؤلمة , يصاحبها صوت يديها وهي تضربها على الارض : اريد اتزوج .. اريد اتزوج .. الكلمات الحادة الحواف تتسرب رغما عنه الى اذنيه . اعتقد انه هو الذي يرددها , ولكن بطريقة هدئة ومنسابة : اريد ان اتزوج .. اريد ان ارتاح .. اريد ان انام حتى تبعثر القبور .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat