الكتاب- القرآن – التَنـزيل - الذكر -الفرقان ___ الجزء الأول
محمد صالح الهنشير
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد صالح الهنشير

الكتـاب
الكتاب كلمة يطلقها الله في كتابه (القرآن الكريم) للتّدليل على الوحي عامة:
ـ”حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم “ 1 ,2غافر
هنا يمكن أن تدل على القرآن و لكن في إطار سنَة الله في تنزيل الكتب على الأنبياء حتى ”الزبور” و “الإنجيل” و “التّوراة” ما أنزلها الله على أنبيائه ليشقى بها أقوامهم
ـ”ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” 2طه
فكلّ الكتب السماوية مصدرها واحد ” الله“ وهي قد نزلت من معزّ (آية غافر) ليعزّ الإنسان, عن عليم لتتعلّم فيها الشّعوب و الأفراد لأنّـها مصدر العلم الكامل
ـ”حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلّكم تعقلون * و إنّه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم ” 1،2،3،4 الزخرف أو النّعيم
الكتاب مرتبط بالإبانة و القرآن بالتّنزيل و اللّسان العربي, كلّ الكتب على درجات من الإبانة, و الإبانة هي جعل المعنى واضحا جليا, فالكتاب عامة مبين و لكن يختص منه القرآن في إبانته و تختص منه أم القرآن في إبانتها(الفاتحة) و يختص مجمع البيان مدينة العلم” علي حكيم” أي القرآن في صيرورته التاريخية و ليس مقصودا بذاته.
ـ”الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة…* ” 1،2،3البقرة
فالصّلاة شرعت بالتوازي مع نزول القرآن, بعد الإسراء و المعراج, الصّلاة على شكل الإقامة, هي الصّلاة كفرض لا كدعاء فالمقصود بالكتاب القرآن فالله يقول:
ـ” و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك… ” 4 البقرة.
و هنا تتوضّح المسألة أكثر, فالكتاب إمّا يقصد به أحـد الكتب السماوية ” الزبور التوراة الإنجيل القرآن “ في صيرورتها التّاريخية أو القرآن في علاقته بتاريخ الرّسالات التي مدارها رسالة واحدة لأن الدّين عند الله الإسلام.
ـ”كتاب فصلت آياته قرآنا عربيّا لقوم يعقلون” 3 فصلت
فالقرآن مقاس للكتاب, إنّ الشّكل و المضمون الذي وجد عليه الكتاب في زمن ما في عهد ما على يد نبيَ معلوم يسمّى قرآنا كما يسمّى في زمن آخر و عهد آخر و على يد نبّي آخر” إنجيلا” إن القرآن هو مدارها وهو المقرون بالقدسيّة المستمر عبر التّاريخ في قدسيته و امتناعه عن التبدّل.
القـرآن:
وحي الله العربي المنزَل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده لا شريك له في التلقّي الأوّل عن جبريل رسول الوحي, يلقيه بدوره إلى آل بيته الأقربين و صحابته وأول من يتلقّاه عنه أمير المؤمنين عليه السلام علي ابن أبي طالب الذي تربّى في أحضانه و عرف حرارة أنفاسه و ملمسه وهو القائل
”ما من آية نزلت إلا أعلم متى نزلت و فيمن نزلت“
“قل أيّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم و أوحي إليَ هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو اله واحد و إنني بريء ممَا تشركون 19” الأنعام
إنّ هذا القرآن لا يكون إلاّ لمن بلغ, ومعنى البلوغ هنا اختيار الله لسنّ يكون فيها الرّسول معنيّ بالتبليغ, وهو تكليف لمن صار عقله مدركا و مميَزا و الرسول يبلَغ و لكن ليس لوحده المبلغ فإن الصبي الذي ترون وعمره عشر سنين مكلف بالتَبليغ معه لأنّه وزيره ووصيّه فيبلّغ عنه وكم من آية بلغها عنه, فلسان الآية يقول “وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ “19 الأنعام
كذلك ينذركم به نقلا عني, خطأ تعتقدون أنه غير مؤهَل فهو وريث النبوة و بلوغه غير بلوغكم
ـ”وما يتّبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذَبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمَا يأتهم تأويله كذلك كذَب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين “ 36,37,38,39 يونس
انظر إلى جملة الحقائق في سورة يونس عليه السلام كيف تعبَر الآيات لوحدها بالمنطق الإلهي فنقول إن هذا الكلام ( القرآن) هو حلقة من حلقات الكتاب كما عرفناه آنفا
هو ليس إسقاطا, بل هو استمرارية و تصحيح”تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب… ” 37 يونس
ثمّ هو لا ريب فيه لم يدع للشك فيه مكان بتضارب أو تناقض أو نقص أو تقصير وما على الذي يدّعي افتراءه إلا أن يأتي بمثله, و لكن من جهل شيئا عاداه إما عداءا ظاهرا أو باطنا, فالذي يشهد
يبعضه و ينفي بعضه في سلوكه و ميوله إن هو إلا ناكر له في قرارة ذاته” بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله…“39 يونس
فلا العلم الذي يعطي الفهم الصحيح لديهم ولا التأويل الذي لم يجدوه زادهم يقينا في تعجيزه , بل إنهم يرمون بعجزهم عليه و هذا ليس بجديد ” …كذلك كذَب الذين من قبلهم…” 148الأنعام.
كيف نتعامل مع القرآن ؟
في المستوى الأوّل يجب أن نعرف لماذا أتانا الله بهذا القرآن بغايته هو,لا بتخميننا نحن “ و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزَلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجَدا و يقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربّنا لمفعولا ويخرَون للأذقان يبكون و يزيدهم خشوعا ” 105,106,107,108,109الإسراء
الحقائق المتعددة التي تطلقها هذه الآيات هي :
1_ الكتاب نزل عن طريق الحق:
اختيار لغته
زمانه
مكانه
الشخص المتلقي
منجَما
2_ إن فحوى ما أنزل فيه الحق : العقيدة التامة
التشريع الذي لا قبله و لا بعده
مصدر الحقيقة الكاملة
3_ المطلوب من المبلَغ (النبي) : التبشير أولا
منهج تبليغه
4_ إن الله قد فرَق فيه بين الأشياء فجعلها متماسكة محدَدة
ـ “…و قرآنا فرقناه…“ 106 الإسراء
5_ إن الغاية من إعطاء هذا القرآن للنبي أن يقرأه على الناس (دون تمييز) فهو للعالمين, فمهمة القراءة هي المهمة الكبرى (التي يأتي بيانها لاحقا) ـ
6_ يعود ليؤكد على التنزيل للتأكيد على الإعجاز (يأتي بيانه في الحديث عن التنزيل) ـ
7_ التأكيد على أن القضية الكبرى ليست في الإيمان به من عدمه لأن المهمّة هي في التبليغ, لكن الإيمان من عدمه عملية باطنية يختص بها الله تعالى
8_ تّأكيد على أن فئة تنتظر هذا الإعجاز و الفرقان, مهيّأة بما لديها من علم فطري ربّاني دون المكتسب لتقبّله بالفهم و العمل “…إنّ الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجدا ” 107الإسراء
و صفة هذه الفئة محصورة في جملة من الصفات و هي :
أ_ سرعة الاستجابة بالطاعة و التسليم للاستعداد المنبثق من الإيمان بالرّسالة و بالغيب”الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذي يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون “1,2,3 البقرة
هناك استعداد قبليّ في الإيمان بالغيب بما أوتوا من علم تكويني .
ب_ كل الذين سمعوه لأوّل وهلة فيهم من أعرض و فيهم من تردد و منهم من استبشر و منهم من خرّ على وجهه ساجدا حامدا لانتظارهم المتوقع للوحي لعلمهم أن الله وعد بتبيان كل شيء و أتمم وعده .
إنه لمّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام من خديجة عليها السلام زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه جاء جبريل عليه السلام للنبي و قال له “اقرأ” خرّ ساجدا يبكي و يحمد الله .
أعلمه أن الخير آت وهو أوّل من صدَقه من الرّجال لذلك قال فيه النبي عليه و آله السلام
”أنت صدَيق هذه الأمة“
ماهي القراءة المأمور بها النبي عليه و آله السلام؟
إن قوله تعالى “اقرأ بسم ربك الذي خلق ” 1 العلق
هي القراءة الأولى التي أمر الله بها نبيه فإذا قرأ بسم الرّب الخالق, فإنه يقرأ الأشياء و الأحداث و الأشخاص و الضوابط بسم الرّب الخالق.
إن القراءة من قبل كانت تتم لأن الوحي لم يأت إلا مع القرآن فكان جبريل ينزل ليوضّح و يرشد, لكن القراءة الجديدة فيها أمور فيها أمر,فيها معجزة خالدة ليس بعدها إعجاز.
إن محمدا عليه و آله السّلام يقرأ الأشياء حتى قبل نزول الوحي وهو “و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى” 3,4,5النجم
إن مجرد نطقه وحي, لكن كلام محمد كلام, و كلام الله كلام, إن التفريق هنا في المصدر لكن القراءة متكاملة لا تضارب فيها.
إن قوله “اقرأ بسم ربك…”1العلق ، اقرأ يا محمد بسم الله.. بسم القرآن.
1 القراءة بالقرآن
لا بد للمؤمنين عبر الزمان من عهد يعيشون به يتوارثونه, عهدا مع الله يبذلون من أجله النّفس و المال, وهو منحدر عن رسالة كونيّة يتواصى بها أهل الحق”إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر ” 3العصر
الله خصهم و استثناهم فهم يعيشون بالرسالة فهُمُ الرسالة
“كان محمد قرآنا يمشي في الأسواق“
يقول الإمام علي عليه السلام: “القرآن كتاب الله الصامت و أنا كتاب الله الناطق“
يقول النبي عليه و آله السلام:”اللهم أدر الحق حيث ما دار علي“
إن القرآن بهؤلاء و هؤلاء بالقرآن فهم ترجمانه على الأرض يحيون به و بهم يحيى, هم القدوة
والنّهج, إذا أردنا أن نعرفه فيجب أن نعرفهم و إذا أردنا أن نعرفهم فيجب أن نعرفه.
إنه ميثاق مع الله لا يناله إلا الأنبياء و الأوصياء و الشهداء”إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم 111” التوبة
إنّ للذين يحيون بالقرآن ارتباطا بمعنى الإيمان لا الإسلام , إنه غالبا ما يُقرن الالتزام به بدرجة من الإيمان.
ـ” إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا “ 9 الإسراء
إذا كان الأجر كبيرا فلا بدّ أن يكون العمل”الذين يعملون الصالحات” عملا عظيما و هذا العمل هم
مهديون فيه إلى الصراط المستقيم ”يهدي للتي هي أقوم“ـ
هل يهدي القرآن كلّ الناس للتي هي أقوم؟ إنّه يهدي فئات معيّنة دون أخرى حتّى ولو عاصروا نزوله و علموا في قرارة أنفسهم بأنه الحق “و ننزَل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا ” 82 الإسراء
إنّ التعاطي مع القرآن هو المحدّد لأهل العدل من أهل الظّلم, أهل الإيمان من أهل الخسران, إنه يوطّد إيمان المؤمنين إذا عاشوا به و يزيد في خسران الظّالمين وهم على درجات و فئات متعددة.
إنّ هذا علم آخر علم المنازل و الدّرجات.
و الله لا يظلم أحدا بأن يفتح بصيرة هذا لكتابه و يجعلها أكثر سوادا عند الآخر لأنّ لديه الحكمة و العلم في ذلك” و إنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم “ 6النّمل.
وهذه الحكمة و العلم يُعجز بها الله جميع القوى و يتحدّاها.
2_ القراءة مع القرآن
وهي القراءة الموازية التي تلتحم بالقرآن و لا تلتقي معه أبدا بل تستكين في ظلّه لتوهم به وهو براء منها يتبنّاها رهط من الّذين :
1 كفروا به: ”و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا * و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين و كفى بربك هاديا و نصيرا * و قال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبَت به فؤادك و رتلناه ترتيلا* ” 30،31،32الفرقان
هؤلاء تفصلهم مسافة العداء مع كتاب الله بهجره و التّشكيك فيه إما علنا أو سرا يقول فيهم بعد ذلك:”الذين يُحشرون على وجوههم إلى جهنم أولائك شر مكانا و أضل سبيلا ” 34 الفرقان
2 ألحدوا: “ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ” 45الإسراء
ـ “ و قالوا أئذا كنا عظاما و رفاتا أئـنا لمبعوثون خلقا جديدا “49 الإسراء
و مردّ إنكارهم لكلام الله أنّه أكد على البعث و الحساب و هم يرون الحياة مادة, أرحام تدفع و أرض تبلع فكيف سيتواصلون معه, يقول في ذات السّياق:” و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا و إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّو على أدبارهم نفورا ” 46الإسراء.
3 أشركوا: الذين اتّفقوا معه في بعض من الأمر و رفضوا البعض الآخر “ و قل إنّي أنا النّذير المبين * كما أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عضين * فوربّك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين ” 89،90،91،92،93،94، الحجر
4 المنافقين: وهم الأخطر في علاقتهم بكتاب الله , كلّما وجدوا الفرصة في أمن أو خوف شككوا في المعنى لا لاشتباه فيه بل لتشابه , لأنّ للقرآن أهله الذين يستنبطونه , ليس متاحا لأيّ كان, وهم بعيدون على التدبّر يعملون لصالح الاختلاف.” أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا * و إذا جاءهم أمر من الأمن و الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فظل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا “82’83 النساء
و المنافقون في كتاب الله كما يصفهم و الحديث عنهم له مكانه المستفيض , ينقسمون إلى شقّين:
1_ نفاق ظاهر
2_ نفاق باطن وهو الأخطر
ـ”الله لا الاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه و من أصدق من الله حديثا * فمالكم في المنافقين فئتين و الله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أظل الله و من يظلل الله فلن تجد له سبيلا ” 87،88النساء
ـ” و منهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنـفا أولائك الذين طبع الله على قلوبهم و اتبعوا أهواءهم ” 16محمد
ـ”و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النّفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ” 101التوبة
إنّ هذه القراءة لا تلتقي بكتاب الله أبدا و إن بدت في بعض الحالات تلتقي به, فإن المقصد خبيث و تأويل في شكل تبرير لمقاصد ذاتيّة و مصالح آنيّة وهي تفتري على الله كذبا و الله مكذّب ما يفترون
3_ القراءة للقرآن:
وهي معاملة الكتاب على أنه مصدر من مصادر العلوم مثله مثل بقية العلوم الإنسانية المكتسبة وهو مستوى العامّة من المسلمين و فيه منفعة جليلة, لكنها لا تكفي لوحدها , و يمكن حصر القراءة للقرآن في طلب العلم و الأجر.
في تحصيل الأجر و تنقية الروح:
إن كلام الله موجه للإنسان لا لغيره بالرّغم من أنه ظاهرا يتحدث حتى عن الحيوانات و النبات و الجماد و لكن كل ذلك تابع للإنسان, فهو في هذه الآيات لا يخاطب إلاّ النّفس البشرية العاقلة التّائقة إلى المعرفة و يؤكد على ذلك و يكرره مرارا في سورة القمر:
ـ” و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر” 17, 22, 32, 40 القمر
مجرد أنك تقرأ القرآن بل مجرّد أن تنظر في المصحف و تعظّم هذا الكتاب يحصل لك الأجر عند الله, فإنك إن احترمت كلام شخص في الدّنيا بادلك الاحترام فكيف بك و أنت تحترم كلام مقلّب القلوب
ـ” و ما تكون في شأن و ما تتلوا منه من قرآن و لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين ” 61يونس
في علم قراءته :
إن قراءته, مجرّد قراءته, لتختلف عن أي قراءة كانت فهي مستقلة بذاتها, تعطي القرآن هيبته بأن تحترم حروفه المفخّمة و المرقّقة, العالية و المنخفضة, المشددة, المغناة و الممدودة, هذه القراءة هي الترتيل الذي أمر الله به نبيه عليه و آله السلام
ـ”يا أيها المزمل* قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه و رتل القرآن ترتيلا ” 1،2،3،4 المزَمل
و هذا العلم مأمور به نبيه و قد تناقله عنه الأقربون الإمام علي عليه السلام و كتبة الوحي و نقلوه كما هو فكان علما مستقلا بذاته , يتناول القرآن من وجهة لغوية لها علاقة بالرسم و النّطق و وضع الحنجرة و إعطاء الحرف مستحقاته و لعمري يساعد ذلك على الخشوع مع كتاب الله و توضيح معناه حتى لا نقع في التّحريف دون أن نشعر.
ـ” إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها و له كل شيء و أمرت أن أكون من المسلمين * و أن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ظل فقل إنما أنا من المنذرين ” 91،92النمل
فمهام الرّسول هنا تعطينا موقع التلاوة :
ـ عبادة الله
ـ أن يكون كواحد من المسلمين
ـ أن يتلوا القرآن
ـ ليس من مهامّه هداية الناس بل عليه أن ينذرهم
بعد تلاوة القرآن جاء التّذكير بأنه ليس من مهام النبي هداية النّاس , و لكن إنذارهم, لأن مهمة الهداية هي للإمام في كل عصر, انطلاقا من تأويله للقرآن و هم أحسن من يتلوه .
_في علم التشريع و علاقته بكل علم صحيح:
إن القرآن ليس كتاب متعة روحية, و لا كتاب له طريقة في القراءة (التّرتيل) بل أكثر من ذلك ضابط و منظّر كبير للحياة للعالمين جميعا من أول قدم لآدم عليه السلام على الأرض لآخر قدم في عهد الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف على الأرض, إنّ له فرائض لا بد أن تُتبع لتكتمل الطاعة , فالله يقر بأنه فرض على رسوله ذلك فرضا لا خيار لأحد في شيء لأن الله أحاط بكل شيء فالأحكام تؤخذ منه على قطعيَتها لا بالجدل فيها أو محاولة معاملتها كدستور قابل للتداول و النقاش, إنه فهم فقط و استنباط للأئمة عليهم السلام و من خلفهم بتفويض.
ـ” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى و من هو في ظلال مبين * و ما كنت ترجوا أن يُلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ” 85،86 القصص
إن للقرآن أحكاما عامة هي ما أراده الله لخلقه و هو أدرى بهم , إما أن نبحث في مغزاها و مجراها فهي محاولات للفهم , و تأويل من أصحاب التّأويل , أما الأصل فهي أوامر لا بد أن تطاع لا أن نختلف حولها, فمجرد الاختلاف حولها باطل و كفر.
ـ”و ما من غائبة في السماء و الأرض إلا في كتاب مبين *إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون * و إنه لهدى و رحمة للمؤمنين * ” 75،76’77النمل
إن هذه الأحكام لدى المؤمنين هي الرّحمة المرجوَة و الهدي الإلهي المطلوب.
4_ القراءة في القرآن:
المقصود بها التأمَل الذي هو ليس شرطا و لا حكرا على العالم الذي له علم الكتاب, و لا على الذين لهم علم من الكتاب , و لا مكتسب العلم من الدارسين بالقلم (بالاكتساب) , إنه لأي مسلم و بأمر من الله مدعو إلى التأمل بالتّدبّر و تحسّس الإعجاز.
1_التّدبر:
الله يحب أن يُتدبر كلامه لأنّ في التدبر إثارة للمسائل و الإشكاليات و طرحا للاستفهام و بذلك يصبح الفؤاد و العقل مشدودين إلى كتاب الله فيسعى المسلم القارئ دون أن يشعر إلى المعرفة فيرجع إلى منابع التأويل الأصليّة و يفهمها على حدّ يقرَب له الفهم, بل إن القرآن قد جعل المتدبر محمودا مرهف السمع و على بصيرة , نفهم ذلك من ضده إذ يقول : ”أولائك الذين لعنهم الله فأصمّهم و أعمى أبصارهم * أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها” 23’24محمد
فالتدبّر مفتاح القلوب لتستنير بنور الله, و لن تستنير من نوره وتستفيد من تدبرها إلا ّإذا فهمت موقع التدبّر و جعلته قادحا للإقتداء بأولي الأمر الذين لهم القدرة على الاستنباط, و بذلك يكون عزّ و جلّ قد جعل منهجا محكما في التعامل مع كتابه , من ظل عنه و أفتى بغير علم و ظن أنه على خير ضاع سعيه “ أفلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا * و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم و لولا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان إلاّ قليلا ” 82’83 النساء
2 التمعّن في الإعجاز:
إن إتباع المنهج الذي أراده الله في فهم كتابه سيدخل قارئه في استنارة علم هدائي يجعل الرّؤية أمامه واضحة و الخطوط متماسكة, و كلما توطدت هذه العلاقة وقف على الإعجاز الذي هو مكمن أسرار الإعجاز الداخلي للقرآن (نرى في التنزيل الإعجاز الخارجي)ـ
إن التماثل بين الأمثال مثلا يُحسب في ظاهره على أنه تكرار للحوادث ذاتها لكننا بالتدبّر و طرح الأسئلة و الرجوع إلى الرسول و إلى المستنبطين (أئمة أهل البيت ) من أولي الأمر تنكشف أمامنا بعض الحجب و نقف على روعة الإضافة و دقة المبنى و كيف يفسّر بعضه البعض.
“قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا 88 و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا 89” الإسراء
إن الإعجاز ليس مجرد خطوط في تركيب الكلام, إنه يدخل في السر الباطني الذي يجعل من نسيج الحروف و تركيب الكلام شفاء و دواء و أحاسيس باطنية تحمل نشوة الإيمان و التمتع.
هذه هي القراءات المتبعة مع كتاب الله جملة و فيها مستويات عدة: ـ
ـ قراءة مع القرآن الكفار , الملحدين , المشركين , المنافقين
ـ قراءة للقرآن القراءة الأولية السطحية التي لا تخلو من أجر
ـ قراءة في القرآن هي قراءة التدبر و التأمل في الإعجاز
ـ قراءة بالقرآن قراءة التطابق للرّاسخين في العلم من أنبياء و أئمة
و ينفتح كتاب الله خارجيا عن جملة من الإصطلاحات التي نقف عليها في السّور الكريمة و كما علمنا فهي ليست مجرد متشابهات بل هي مفاهيم إضافية مرتبطة بالقرآن و مستقلة في ذات اللحظة .
_فما المقصود بالتنزيل مثلا ؟
التَنزيل:
كيف يتحدث القرآن عن التنزيل و هل المقصود به القرآن فحسب و ما المراد منه:
المفهوم:
يتحدث هذا المصطلح لوحده و ما شابهه و يتميز بعضه عن البعض فهو ليس قرآنا أو كتابا أو وحيا أو فرقانا لكنه يتماسَ معه في جوانب و يتشكل في ثلاث مصطلحات مميزة
الإنزال التَنزيل التَّنزّل
1_ الإنزال:
إن هذا المصطلح و ما شابهه لا يختص فقط لإنزال الوحي على الأنبياء أو إنزال الوحي على محمد عليه و آله السلام, إنه مصطلح عام يتحدث عن كل ما هو معجز و ينطلق لا (ك) فعل الإنزال في معناه المادي و لكنه يريد أن يبين كل ما يصل عن طريق القدرة الإلهية بإيجاز نظرا لقيمة المُنزَل و المُنزَل , و المنزَل عليه .
ـ” و إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا … “ 91 البقرة
رأيت كيف أن هذا المفهوم شامل في دلالته
أ_ إنزال الكتاب عامة :
ليس المقصود به الإنزال المادي في كيفية النزول (وهو معنى التنزيل يأتي بيانه لاحقا) إنه الإنزال كأن تقول أنزلتك منزلة أخي كقول النبي عليه و آله السلام لأمير المؤمنين عليه السلام “ألا تريد أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي“
ـ” و اذكروا نعمة الله و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة ” 231 البقرةّ
انظر كيف أن الإنزال ليس مقتصرا على الكتاب المقدس بل إنه يشمل الحكمة كذلك و الحكمة في تنزيلها ليس التنزيل المادي, إن المقصود به الإنزال أي أن الله هو من ينزل الحكمة في قلوب المؤمنين الصادقين
ـ”يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا و ما يذَكَر إلا أولوا الألباب ” 169البقرة
رأيت كيف أن الإنزال قرن بين الكتاب و الحكمة لأنه سريان إلهي في الوجدان.
إن مفهوم الإنزال هو الروح التي تُلقي و الرّوح التي تتلقى , لا المعنى الظاهري الخارجي “الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان و ما يدريك لعل الساعة قريب ” 17 الشورى
فالحق و الميزان هما سمات الكتاب الغالبة التي جاء بها الكتاب الذي مصدره الله دون الالتفات إلى طريقة الإيصال و شكلها, و الحجة في ذلك أن المصطلح لا يطلق على كتاب سماوي معين و نحن نفهم أن الكتب السماوية لم تأت كلها على نفس الشكل و بنفس الطريقة “…و أنزل التوراة و الإنجيل ” 3 آل عمران
فمصطلح أنزل في هذا السّياق جعل منزلة للشيء تليق به, لأنه يخرج عن مجرّد الحديث عن الكتاب إلى كل منزلة
ب_منزلة الشّرع:
و يراد بها شرعة الله التي أرادها الله لخلقه عبر أنبيائه و أوصيائه منذ خلق آدم إلى الإمام المهدي عليه السلام “و من لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون ” 44 المائدة
إنه لا يتحدث عن فئة محددة “و من لم يحكم “ إن إطلاق الآية يحكم بانفتاحها على شرائع الله و رسله و الحق الذي أراده فحتّى الذين أنكروا سابقا منزلة شرعة الله كانوا يتصورون أن لديهم منزلة من العلم و الشّرعة هي أفضل ” و إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا…” 91البقرة
إن لفظة إنزال تدليل على المنزلة و الرفعة لا العلاقة العمودية بالضرورة و من هنا ينفتح المفهوم على كل ما هو هام و مصيري كأرزاق الخلق مثلا
ت_إنزال الماء و الأرزاق:
إن المعنى هنا ليس بالتركيز على الماء (يأتي بيانه لاحقا) إن التركيز على ارتباط بين الماء و الإنزال فيظن البعض أنها العمليّة التبخرية التي فيها سبب و مسبب (و هي حالة التنزيل لا الإنزال) إن إنزال الماء قدر من الأقدار الإلهية يحمل في مكوناته و قطراته الأرزاق فكل قطرة فيه معلوم مسارها و مستقرها لأنها تحمل أسباب الرزق و الإرزاق ” و جعلنا من الماء كل شيء حي “30 الانبياء ، لذلك فللماء بركاته العظيمة فهو يحوي 2727 حكمة منها ما هو معلوم وهو قليل و منها ما هو مجهول وهو كثير يبيَن للخلق عند ظهور الإمام الحجة عليه السلام, و بمعرفة هذه الحكم يستفيد منها أهل العلم من المختصين في زمانه الباهر”…و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم …” 22البقرة
ث_إنزال النعم:
إنّ النعم الإلهية تكون في منزلة بعض الخلق ظاهرة و باطنة فهي تأتيهم لا بطريقة هندسية و لكنها تسلك طرقا أخرى كما أراد الله لها أن تأتي و هي ضرب من الرزق لكنه رزق من القدر الغير المقسم فهو إما قدر مشترك كقوله تعالى “…و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج…”6 الزّمر, من البقر اثنين من الإبل اثنين من الغنم اثنين و من الماعز اثنين, كل زوج ينتج باقي النسل و هنا يختلف المعنى عن قوله تعالى
” قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين”40″ هود, يعني هنا من كلّ نسل أربعة, فالله قد جعل من الأنعام الأولى ثمانية يقوم عليها النوع و التناسل في الأنعام ثم تفرعت عنها باقي الأشكال إنه تطور للخلق بإرادة الله فهي نعمة منزَلة أي أنها مرسلة في منزلة إنشاء أولى الخلق في الأنعام حتى تستقيم بها حياة الإنسان
ج_إنزال المعدن:ـ
ثم جعل الله من معدن الحديد مصدر كل معدن , عنه تفرعت باقي المعادن من نحاس و زنك و ذهب و فضة و رصاص…الخ فكلها مظاهر لأصل واحد دخلت عليه عناصر كيماوية حولت طبيعتها إلى أَنْفـَس أو ألْـيَن أو أصلب أوجده الله من قاع الأرض المحمية و عند التقائه بالهواء و الماء و الهيدروجين و الأوكسجين و اليورانيوم و النتروجين تحول إلى جملة من المواد المتعددة هي من آيات الله الخالدة التي يصل بها الإنسان إلى التطور العظيم منها ما هو بعيد المنال جديد على الخلق لا يـُرى و لا يُستنبط إلا في عهد الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف يقول تعالى”…و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس… “ 25الحديد
ح_إنزال النصرة:ـ
لما تكتمل صورة الإيمان و الأخذ بالأسباب ” و لينصرن الله من ينصره إن الله قوّي عزيز ”40الحجّ ، إن الله لم يشترط كشرط أساسي للنّصر عددا من الجند أو العلم أو المال أو العتاد, لكن الشّرط الجوهري هو نصرة الله في النّفس , فإن الله يأتي بنصره و هذا مثل النظريات العقلية و العلمية تماما كأن نقول واحد نضيف إليه واحدا يساوي حتما اثنان فكذلك الله يجعل من أحبائه في منزلة تأتي معها القوى الخفية لتدافع بإذن ربها, لأن ربها يعلم ما في قلوب عباده قبل حتى أن يدركوه فأنت ربما على يقين من صلاح نيّتك و إيمانك مع الله لكن لا تدرك مستواه و مداه فإذا ما جاءت نصرة الله و أنزل مؤيّداته كان ذلك مقاسا لهذا الإيمان و إذا لم يأت هذا المدد فذلك حتما مقاسا لنقص في المعتقد أو الإيمان أو الإستجابة أو الأخذ بالأسباب بقدر السّعة و الاستطاعة
ـ” … فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ” 59 البقرة
ـ”… إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان و الله على كل شيء قدير ” 41الأنفال
ـ” ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها …”26 التوبة
إنه لم يُـنزل عز و جل جنوده الإنزال الهندسي المادي و لكن هي إحاطة فيها خروج لجند غير مرئيين يخذلون الكفار و ينصرون من نصر الله.
إن الإنزال فعل ينسب إليه محض, يأتي بشكل من الأشكال الغير مرئية و المدرَكة نجد آثاره مثل إنزال الماء, فأثر الماء موجود من خير و بركة و لكن لا نعلم ما يحمل الماء من رزق مقسم, و أثر النصرة الإلهية واضح عبر التاريخ البشري في معارك عديدة مع الأنبياء و الرّسل عليهم و آلهم السلام و مع الرسول الأكرم و الأئمة عيهم السلام و لكن أسبابه الخفية لا يعلمها كثير من الناس فيتخبّطون في التفسير و التفاصيل
2_ التّنزيل:
إنّ فعل التّنزيل الإلهي هو الفعل المادي لوقوع شيء من أعلى إلى أسفل , و هو مناقض لفعل التصعيد وهو ارتفاع شيء من أسفل إلى أعلى, و التّنزيل تساقط عن بعد
ـ”و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا “25 مريم
إنّ عبارة تُـساقِـط فيها من اللطف, و أن مسّ جذع مهما كانت قوة اللامس لن تسقط رطبا إلا إذا كان ذلك من قبيل الإعجاز فما بالك من امرأة تحتضر أو تكاد.
ـ”قالت يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا ” 23 مريم
إن هذا التّنزيل الصّغير هو من قبيل الأخذ بالأسباب و الفعل المشارك للفعل الإلهي أما التّنزيل فهو أكبر من هذا
تنزيل الكتاب
للكتاب جانبين: جانب المنزلة في فعل نزّل
االله نزَّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني… “23 الزّمر وهو إعجاز بالمحتوى.
ثم جانب الإعجاز الشكلي في التنزيل وهو الفعل المادي لنزول شيء من أعلى إلى أسفل , لكن لا يذهبن الظنّ بأن المراد ما نراه من سقوط شيء, بل إن هذا التنزيل من حكمة الله و ترتيبه لا تراه العين المجردة يتكشّف عنه الأنبياء و الأوصياء مثل نزول الكتاب
ـ”و إن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله ...”23 البقرة
إن التنزيل , تنزيل الكتاب من الإعجاز الإلهي, إن كلام الله كان موجودا قبل أن يصل إلى الأرض فحادثة و صوله إلى الأرض حدث كوني اهتزت له الكائنات
ـ” قل أوحي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ” 1 الجن
من نزّل؟ ماذا نزّل ؟ كيف نزّل ؟ إلى من نزّل ؟
من نزّل؟
إن الإرادة الإلهية تسخر الأشياء لخدمتها بإرادتها, فالأمر صادر عن التدبير الإلهي يقع على شاكلة معينة أرادها الله بحكمته “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون “82 يس
لقد خلق الأشياء وهو أدرى بها و بكنهها و هي رهن كلماته تدور في فلكه لا شيء ينفلت من هذه الإرادة العظمى فهو المسيطر.
لقد كان التنزيل بالمقدرة الإلهية إعجاز أكبر من خلق الكون و الإنسان
ـ” قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله ” 97 البقرة
هيأ له , و اختار له, و دبر, وهو القائم على الأمر, دستوره الخالد الذي أراده لخلقه فلا حجة بعد ذلك لهم و بينهم كلامه, و نصحه, و نهيه , و أحكامه , هو الدال عليه, فالكتاب أفضل من يدل على بارئه خَبَـرَ فيه عن قدرته و إرادته “ إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصّالحين ” 196الأعراف
ـ” تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب … ”2،3 غافر
من ادعى أنّه من عند غير الله فإمّا أن يأتي بمثله , أو الاعتراف بأن مصدره غير المصادر البشرية فبلاغته أعلى مراتب البلاغة و سلاسته أعلى مراتب السلاسة و فعله في القلوب و النفوس لا مثيل له, و أحكامه لم تسبق لها دساتير, متواصل مع الرّسالات ,و منقطع عنها و قاطع, جعله المعجزة الأخيرة لذلك فهو صالح للأوّلين و الآخرين.
يقول الإمام علي عليه السلام في حديثه الطويل لطلحة ” إن كل آية أنزلها الله على نبيه عندي بإملاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و خط يدي و تأويل كلّ آية أنزلها على محمد صلى الله عليه و آله و سلم و كلّ حلال و حرام أو حدَ أو حكم أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة بإملاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و خط يدي
هذا جزء التنزّل بعد أجزاء الإنزال و التنزيل من باب التنزيل من علم المقدمات , اعلم أن التنزُّل هو الاستمرار في الإنزال و التنزيل, بعد أن علمنا أن الإنزال هو جعل المنزلة من الله للشيء و أن التنزيل هو النزول بقدرة قدير من فوق إلى أسفل و ليس من آية أتم من آيات القدر أو سورة العرض.
“إنا أنزلناه في ليلة القدر * و ما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزّل الملائكة و الروح فيها من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر “1،2،3،4،5 القدر
في هذه الليلة سكن كلام الله كله في قلب و صدر محمد صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يخلق الله الخليقة فكان معنى “أنزلناه” . فلقد جعل الله المنزلة لنبيه بالمعجزة الخالدة, هذه الليلة مثال مصغر لما يكون عليه الكون نهاية عهد مولانا الحجّة عجل الله فرجه الشريف عند اتصال عالم الغيب بالشهادة ففي هذه الليلة تأتي الملائكة و يأتي الروح إنزالا و تنزيلا و تواصلا فيحدث الاستمرار إنها تتنزل من كل أمر و ليس بكل أمر, فكل منها مكلف بأمر و هي تأتي للإمام الحجة عليه السَلام في ذات الموعد كل عام ليأخذ محصلة منها (مما حصل ) و تأتي بأقسام العباد و الأمطار و تقسيمها و آجال الموت و ما في الأرحام على امتداد العام, و هذه المسائل ضرورية لا لعام دون عام بل إنها ضرورية لكل عام “ إن الله عنده علم الساعة و ينزّل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ” 34 لقمان
الملائكة بقيادة الروح وهو جبريل عليه السّلام تتنزّل بالمقادير وهي تتنزل لأمر آخر لا تدركه الأبصار وهو تنزُّلٌ عام ليس مثل التنزّل الأوّل إنه لأمر مهمّ “ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون “30 فصلت
إنها مسألة محسوبة محتمة فكلما تطابق القول و العمل و كان القول يفضي إلى الله و كان الطريق طريق الاستقامة طريق ” صراط الذين أنعمت عليهم ” إلا و غشيت الملائكة المستقيم قولا و فعلا إما معصوما عصمة بالجعل أو العصمة المكتسبة بالقول الطيب و اتّباع الطريق المستقيم, و نزول الملائكة هنا عند توفر الشرطين, فيه من الإحاطة و الرعاية و التواصل بين أهل الشهادة و أهل الغيب و كما تتنزَّل الملائكة على الصالحين و المعصومين فإنها تتنزل عندما يقتضي الأمر ذلك لأمر من الله في التقديم و التأخير و المحو و الإثبات ” و ما نتنزل إلا بأمر ربك …” 64 مريم
كما تنزَلت في مولد عيسى عليه السلام إنها تنزِل في ذلك الموعد من الزّمان لتبارك عيسى قائد الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف في المعركة الكبرى, إنه مرفوع في مكان عليّ تأتيه الملائكة منذ رفعه, تأتيه في مولده فتعلمه ما تعلمه من رسالات ربّها و لا يقتصر الاستمرارفي الإنزال و التنزيل على المعصومين والأتقياء بل إن لأولياء الشياطين تنَزُّل يقع من الشياطين لكنه مستمر كل ما اقتضى الإفك والإثم ذلك
ـ “ هل أنبئكم على من تنَزّل الشياطين * تنزَل على كل أفاك أثيم ” 221ـ222 الشعراء
إن للشياطين إلهام مستديم بالنفخ في فاقدي العقيدة و طالبي اللذّة الحرام و المريدين في غواية البشر و إخراجهم عن نهج الفطرة, فالآية نزلت في أولائك الشعراء الذين يمثلون إبداع عصر الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و الذين غايتهم الشرك و نفاق عبدة الأوثان و البشر, إن الشياطين مخلصة لهم في مدهم بفنون الإفك و الآثام, و المستقيمون لهم من يؤازرهم و شتان بين أولائك و هؤلاء .
إن التنزُّل ليس من خصائص الكتاب و إلا لصار الكتاب رواية فالكتاب مُنْـزَل و مُنَـزََل لكنه لا يَتَـنَزَّل, إن التنزُّل من خصائص الروح و الملائكة و الشياطين وهو من خصائص التدبير في الحاملات وقرا و الجاريات يسرا و المقسمات أمرا.
إن جند الله يمضون تدبيره ما بين السماوات و الأرض “ الله الذي خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن يتنزَل الأمر بينهن…”12الطلاق
فهو تنزُّل لا يخص أرضنا و سمائنا إنها عوالم أخرى بديعة تنفتح على عهد الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف كالشمس البازغة, متَعنا الله برفقته.
الـذَّكر:
اعلم علَمك الله أن الذكر في قرآن الله ليس درسا يلقى , إنه علم تام كامل شامل تتفرع عنه الأبواب و المسائل , و الذكر في علاقته بالإنزال و التّنزيل و القرآن و الكتاب هو صدى الخير و وقع ونفع بالمعايير و المفاهيم و القرآن جعله الله للذّكر فإذا لم يكن فيه نفع لماذا يرسله الله إلى نبيه و لقد يسَره حتى تحصل منه الفائدة,
ـ “ طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ”1،2 طه
ـ “ و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَكر ” 17 القمر
إن الله لم يقل فهل من متذكَر و ذاكر قياسا بالذكر و لكنه قال ” فهل من مدَّكر” و الادكار أخذ العبرة من الشيء, أمّا الذكر فهو الاستدامة على القول النافع لذلك كلمة ذكر لا ترد في معنى سلبي و آخر طيب في كتب الله إنها مقرونة بالنّماء و الخير و هي في الكتاب و تتجاوزه
ـ ” ص و القرآن ذي الذكر ” 1ص
ـ ” إن هو إلا ذكر للعالمين ” 27 التكوير
إنه النفع الإيماني و العقائدي و الجانب التكويني الذاتي و الجمعي الذي يمس الجوهر فيبقى صداه على مر الأجيال لذلك تطلق كلمة الذّكر على الكتاب عامة “ و ما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلاكانوا عنه معرضين ” 5 الشعراء , و بما أن الذّكر هو صدى للكتاب عامة فلا بد للكتاب من متلقي و باثّ و لا بد من بعده من أهل يحسنون ذكره للناس “ و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ” 43 النحل أو الشفاء , و الأئمة المعصومون عليهم السلام هم أهل الذكر, و كل ذكر خارج عن ذكرهم مبتور و ضياع عن سواء السبيل فالتّأويل لكتاب الله ذكر و سيرة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمة عليهم السلام ذكر و الصلاة ذكر, لذلك يتقدم الذكر عن الصّلاة في الآية “ …إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر…” 45 العنكبوت , فالصّلاة محمودة في القيام بالواجب الشرعي لكن صدى العقيدة و الإيمان منها يكون أجلّ و أفضل , إن الذكر هو الجانب النفعي و النتائجي البيَن لما هو خفي من عقيدة و إيمان , و الذكر في المفهوم الذي نحن نتناول يأتي في قسم من أقسام أخرى فذكر للكتاب وهو البيان حتى يبقى الكتاب تردادا في أذهانهم لعلهم يرشدون
ـ “ و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم لعلهم يتفكرون ” 44 النحل.
و الذّكر هنا مرتبط بحركة الذّاكر الداعية و بشرط التفكر لا التقبل الأعمى و المجارات , و الذّكر هنا خطاب موجه للنبي صلى الله عليه و آله و سلَم .
و ذكر لجزء من الكتاب :وهو تخصيص لمسألة معينة محصورة للتأكيد عليها لأنها تعني اكتمال الدين و حسن فهمه في التواصل
ـ” ذكر رحمة ربك عبده زكريا ” 2 مريم
ـ” …أهذا الذي يذكر آلهتكم و هم بذكر الرّحمان هم كافرون ” 36 الأنبياء
و ذكر لشفاء النفس و تنقيتها: و هنا لا يعرف الشفاء أين يوجد وهذا من أسرار الكتاب و حكمة الذكر
” و هذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ”50 الأنبياء , ذلك أن النّفس ترتقي بالذكر لأن تركه أكبر هم و أكبر بلية وهو صد عن الشيطان “ و من يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطانا فهو له قرين ” 36 الزخرف أو النعيم , من الرّحمة في هذه الآية أن الله قال “ و من يعشُ ” و لم يقل و من يعرض لأن المسلمين قد يعرضون أحيانا عن الذكر و يغفلون, أما كلمة يعْـشُ أي يعِـش بدون , فالذين تركوا الذكر كله غرقوا في ملازمة الشيطان لهم.
فعلينا بالذكر الذي قدمه الله عن الصلاة و جعله محصّلة لكل كتبه و مجَده لأنه وجْه الفعل في النفس و روح العبادة و خبر الذات الباطنة فلنكثر من ذكر الله و الرسول الأكرم و الأئمة عليهم السلام و الدعاء للإمام الحجة عليه السلام بالفرج و إنه لصبح قريب “ إنما تنذر من اتبع الذكر و خشي الرحمان بالغيب…” 11 يس
جمع الله ذكرنا و أبقاه و عزَزنا بالصدق في ذكره
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat