كتابات في الميزان
كتابات في الميزان

فنّ المشبّكات

2.jpg


في مدينة كربلاء، لا تُمارَس المهن كوسيلة رزق فحسب، بل تتحوّل إلى طقوسٍ تعبّدية تُنسَج بالخيوط الدقيقة للولاء، وتمتزج بأنفاس العقيدة. من بين هذه المهن تبرز صناعة المشبّكات النحاسية التي تُحيط بالأضرحة المقدّسة والسور الشريف، وهي حرفةٌ تستمدّ ألقها من قداسة الأماكن التي تخدمها، وتُنجز بأيادٍ اعتادت أن تطرُق الحديد بحياء المحبّة.

هذه الصناعة ليست فرعًا من صناعة النحاسيات التقليدية، بل لها خصائصها الدقيقة. إذ تتطلب مهارةً في صبّ القوالب وتشكيلها، ومقدرة على ضبط المقاسات بحرفيّة عالية، إضافة إلى فهم معمّق لتناسق النقوش والزخارف مع روحانية المكان. تُعرف هذه القوالب بأسماء متوارثة، مثل “العرانيص” و”القصب”، وهي عناصر أساسية في تشكيل السور الحديدي، سواء في الطوارم العلوية أو في الأسوار الأرضية الداخلية المحيطة بالقبور المطهّرة.

تنفّذ هذه المشبّكات في العتبات المقدّسة، ومنها طارمة أبي الفضل العباس عليه السلام، والسور الداخلي لمرقد الإمام الحسين عليه السلام، ومراقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، والإمام الهادي عليه السلام، ورشيد الهجري عليه السلام. وتُعدّ عمليتا الصبّ والطلي من أبرز مراحل هذه الحرفة، تليهما عمليات الجلي والتشطيب، التي تتطلّب دقّة فائقة للحفاظ على جمالية القطعة وبريقها.

تُستخدم في هذه الصناعة مادة “البراص” أو النحاس الأصفر، ثم تُطلَى القطع بمادة الكروم التي تضفي عليها لمعانًا ومتانةً تدومان طويلًا. ونظرًا لعدم توفّر خدمات الطلاء بالكروم داخل كربلاء، يُضطرّ الصناع إلى إرسال القطع إلى العاصمة بغداد لإتمام هذه المرحلة، مع وجود خطط مستقبلية لتأسيس وحدة طلاء متخصصة في كربلاء نفسها، بما يضمن الكفاءة ويقلّل التكاليف.

رغم دخول تقنيات حديثة، ما زالت الأيدي الخبيرة تحتفظ بدورها الأساسي، ويُصرّ الحرفيون على تنفيذ مراحل العمل بأنفسهم حفاظًا على البصمة الشخصية لكل قطعة. وقد نُفّذت مؤخرًا مشبّكات جديدة للحرم العباسي الشريف، مطليّة بمادة الكروم، ضمن مشروع تطوير اللواوين العليا، مع الالتزام بالدقّة الفنية العالية والمدة الزمنية المحددة.

هكذا تبقى المشبّكات النحاسية في كربلاء أكثر من مجرد صنعة، إنها نقشٌ على جسد المكان، ووشمُ وفاءٍ لا يُمحى، يروي للزائرين حكاية فنٍّ صامتٍ لكنه ناطقٌ بالمحبّة والولاء لأهل البيت عليهم السلام

التعليقات

لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!