صفحة الكاتب : بتول ناصر وادي

الطريق إلى الله بين موهبة العابد وعبادة الموهوب: كيف تختلف مسارات القرب من الله؟
بتول ناصر وادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 عندما نتحدث عن العبادة وطرق القرب من الله، فمن الضروري أن نوضح أمرًا جوهريًا: نحن لا نتحدث عن استبدال العبادات الواجبة أو التقليل من أهميتها. فالصلاة والصيام والخمس والزكاة والحج وما فرضه الله على عباده هي واجبات لا جدال فيها، ولا يمكن للعبد أن يستبدلها بعملٍ آخر مهما كانت نيته صالحة. فالفرائض أساس العلاقة بين العبد وربه، وهي التي تضمن له الصلة الدائمة بالله.

لكن إلى جانب هذه العبادات المفروضة، هناك طرق أخرى يستطيع الإنسان من خلالها أن يعمّق علاقته بالله، ويجعل كل لحظة في حياته وسيلةً للتقرب منه. فكما أن هناك من يجد راحته في الدعاء والمناجاة والصلاة المستحبة، هناك من يجد طريقه في أمور أخرى قد لا يُنظر إليها عادةً على أنها "عبادة"، لكنها في جوهرها تمثل صورةً من صور الطاعة والخضوع لله.


العبادة لا تقتصر على الطقوس التقليدية

الإسلام دين شامل، لا يقتصر على الشعائر فقط، بل يربط كل أفعال الإنسان بحبلٍ متينٍ من القيم والنيات التي تجعل منها عبادةً متصلةً بالله. وفي الفكر الشيعي، نجد أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد رسّخوا هذا المفهوم من خلال أحاديثهم وسيرتهم، حيث لم يكن التقرب إلى الله مقتصرًا على طقوس محددة، بل كان يشمل العمل، والعلم، والجهاد، وخدمة الآخرين، وإحياء القيم الإلهية في المجتمع.

1. طلب العلم وبث المعرفة
إن السعي وراء المعرفة ليس مجرد طلبٍ للرزق أو تحقيقٍ للذات، بل هو عبادة إذا كان الهدف منه خدمة الناس وهدايتهم. فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام):

"إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا فقهه في الدين" (الكافي، ج1، ص32).

لكن هذا لا يعني أن الفقه الديني وحده هو المقصود، بل يشمل كل علمٍ نافع، سواءً كان في الطب، أو الهندسة، أو التكنولوجيا، أو أي مجالٍ يسهم في بناء الأمة وخدمة الإنسان.


2. الجهاد والعمل من أجل العدالة
لا يقتصر الجهاد في الإسلام على القتال في ساحة المعركة، بل هو كل عملٍ يُبذل في سبيل نصرة الحق ودفع الظلم. فقد جاء عن الإمام علي (عليه السلام):

"كونوا للظالم خصمًا، وللمظلوم عونًا" (نهج البلاغة، الحكمة 47).

وهذا يعني أن كل من يسهم في الدفاع عن المظلومين، أو يعمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، أو يسعى لإصلاح الفساد في المجتمع، فهو في عبادة عظيمة، لأن ذلك جزءٌ من إقامة العدل الذي أمر الله به.


3. العمل والإنتاج كوسيلة لعبادة الله
كثيرًا ما يُنظر إلى العمل كأمرٍ دنيوي، لكنه في الحقيقة قد يكون عبادة إذا كان بنية صالحة. فقد قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله):

"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (مستدرك الوسائل، ج13، ص228).

في هذا السياق، فإن الفلاح الذي يزرع الأرض، والصانع الذي يبتكر، والمعلم الذي يُربي، والطبيب الذي يُعالج، كلهم في عبادة مستمرة إذا كان عملهم خالصًا لله، ويهدف إلى بناء المجتمع وخدمة الناس.


4. الإحسان للآخرين وخدمة المجتمع
إن أعظم العبادات ليست فقط في الخلوة مع الله، بل في التفاعل مع خلقه، ومد يد العون للمحتاجين، والعمل على بناء مجتمعٍ تسوده المحبة والعدل. وقد قال الإمام الباقر (عليه السلام):

"أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمن" (الكافي، ج2، ص188).

فكل عملٍ يدخل السرور على قلوب الناس، سواءً كان عن طريق مساعدة الفقراء، أو دعم الأيتام، أو إصلاح ذات البين، هو بابٌ من أبواب القرب إلى الله.


5. الإبداع والفن في خدمة القيم الإلهية
كثيرًا ما يُنظر إلى الفنون والإبداع على أنها مجالات دنيوية بحتة، لكنها في الحقيقة يمكن أن تكون وسيلة عظيمة لإيصال رسائل الخير والجمال، إذا وُجّهت بنيةٍ صالحة. فالخط العربي، والرسم، والأدب، كلها يمكن أن تكون وسيلة لنشر القيم النبيلة والتأمل في عظمة الله. وقد قال الإمام علي (عليه السلام):

"الناس أبناء ما يُحسنون" (نهج البلاغة، الحكمة 94)، أي أن الإنسان يُعرف بما يبدع فيه، وبما يتركه من أثرٍ في الحياة.


التوازن بين العبادة والعمل

إن ما نريد التأكيد عليه في هذا البحث هو أن العبادة لا تعني ترك العمل والانزواء في العزلة، كما أنها لا تعني الاكتفاء بالواجبات فقط دون البحث عن وسائل أخرى للقرب من الله. بل التوازن هو جوهر العبادة الحقيقية. فمن صلى وصام لكنه لم يكن نافعًا لمجتمعه، فقد قصر في جانبٍ من جوانب العبودية. ومن عمل وأبدع دون أن يحافظ على واجباته، فقد أضاع الأساس الذي تقوم عليه علاقته بالله.

لذلك، يجب أن يكون المسلم  مدركًا أن طريق القرب من الله واسع، لكنه لا يعني تجاوز الفرائض، بل بناء علاقة متكاملة تجمع بين العبادات الواجبة، والأعمال المستحبة، والأنشطة الحياتية التي تتحول إلى عبادةٍ بنيةٍ صادقة. 
فكل واحدٍ منا لديه بصمته الخاصة، والسر في العبادة الحقيقية هو أن نستخدم ما وهبنا الله من قدراتٍ ومواهب لنكون أقرب إليه.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


بتول ناصر وادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/30



كتابة تعليق لموضوع : الطريق إلى الله بين موهبة العابد وعبادة الموهوب: كيف تختلف مسارات القرب من الله؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net