صفحة الكاتب : ماجدة قرين

بين طيات الحزن
ماجدة قرين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 الحزن شعور إنساني يجتاح الوجدان، يتغلغل في أعماق الروح، ويلقي عليها ظلال الشجن ليذكر كل من يتذوق مرارته بقيمة السعادة. 

الحزن درس واقعي نتعلم منه أن الحياة ليست ثابتة على وتيرة واحدة، وأن الفرح آتٍ بعده، وأن العسر يعقبه اليسر {فإن مع العسر يسرًا ° إن مع العسر يسرًا} (الشرح:٦-٧)
وهو عملة ذات وجهين: وجه سلبي يحمل الألم بين طياته، ووجه إيجابي يوقظ الشعور بالمسؤولية، ويشعل شرارة التغيير، ويرجح دفة الأمل على الألم، ويشحن العواطف ويستثير الوجدان خدمة لمعالم الشريعة الغرّاء، ربطًا للقلوب بمنهج الآل الكرام عليهم السلام. 
وهذا يظهر جليّا في كل المواسم، لا سيّما شهري محرّم وصفر، أيّام أحزان العترة الطاهرة ومصيبتهم الرّاتبة حيث تستثمر الدّموع واللطم والمواكب والرثاء لإنتاج حالة من الوعي. 
إذا ما وضعنا ظاهرة الحزن تحت المجهر القرآني سنتوصل لحقائق، منها:
أن البكاء على الأولياء المظلومين عبادة، ونافذة من نوافذ الفرج الإلهي، بل وسيلة لتخليد الحدث. 
والحزن اليعقوبي مثال حي علي الحزن الإنساني المنفتح على الله، الواثق به الشاكي إليه {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} واجه نبي الله صدمات العاطفة بالحزن الإيجابي الّذي رفعه إلى الله، بعد تسلحه بالدعاء ليفرج كربه ويزيل شدته. 
كذلك الإمام السجاد كان حزنه حزنًا رساليًّا إنسانيًّا، فلم يكن الحزن شغله الشّاغل، بل وسيلة لتحقيق رسالة سامية تتجاوز الألم إلى الأمل وتمثل قمة الإيمان.
بهذا تتجلى قيمة الحزن، والشعور المؤلم، الذي هو كرافعة ترفع الإنسان إلى أعلى عليين، تجعله أكثر صبرًا وأعمق إيمانًا وأكثر قدرة على التغيير والتأثير.
هناك منحة إلهية مودعة بين طيات الحزن، يمنحها الله لمن يشاء، قال أمير المؤمنين: "إن الله تبارك وتعالى اطلع على الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منا وإلينا"
هذه الرواية الشريفة تكشف لنا عن حقيقة أن مشاعر الحزن والفرح مجبولة في المؤمن قبل الخلق، عجنت مع طينته في عالم الذر، ونتيجة لذلك صار الشيعة ينفعلون ويتفاعلون مع مصائب أهل البيت وأفراحهم.
آل محمد كانوا اختيارًا إلهيًا قبل الخلق، لعلمه عز وجل بأهليتهم واستحقاقهم للاصطفاء، كذلك اختار خلق شيعتهم من طينتهم لعلمه بأن هؤلاء أهل لنصرتهم وإحياء أمرهم.
الحزن متجذر في فطرة الشيعي وأصل تكوينه، فعندما يحضر مجلس شهادة أحد المعصومين، لا سيما الإمام الحسين، فإن الحزن المدفون في باطنه يخرج ليظهر جليًا على ملامحه، وحين تنساب دموعه على خديه تطهره وتغسل ظاهره بالكامل، بسبب التناغم الذي يحدث بين ظاهره وباطنه الطاهر، فأثر الدمعة لا يعود للتفاعل الآني مع الحزن فقط، بل يعود إلى رجوع الإنسان إلى أصل طينته التي خُلق منها، وفطرته التي جُبل عليها، وهي طينة الولاية والمحبة لأهل البيت (عليهم السلام).
ويؤكد الإمام الرضا على هذا بقوله "من عادى شيعتنا فقد عادانا، ومن والاهم فقد والانا؛ لأنهم منّا، خلقوا من طينتنا، من أحبهم فهو منّا، ومن أبغضهم فليس منّا"
ويعضد الإمام الصادق ذلك "شيعتنا جزءٌ منّا، خُلِقوا من فضل طينتنا يسؤوهم ما يسوؤنا ويسرّهم ما يسرّنا، فإذا أرادنا أحد فليقصدهم؛ فإنهم الذين يُوصَل منهم إلينا"

فلا عجب ولا غرابة أن تكون الدمعة سببًا للرحمة، وها هو الإمام الصادق يترحم على من يحزن على ما نالهم من عظيم المصاب "رحم الله شيعتنا، والله هم المؤمنون، فقد والله شاركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة" كما جسد لنا مكانة هذه المشاعر عند الله سبحانه "نفس المهموم لنا المغتم لظلمنا تسبيح، وهمه لأمرنا عبادة" والباكي على مصائب العترة الطاهرة ولو دمعة واحدة مبشر بالجنة من قِبَل المعصوم يقينًا، ورد عن الإمام الباقر "رحم الله شيعتنا لقد شاركونا بطول الحزن على مصائب جدي الحسين، أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بهما في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا"
 ويوسع الإمام السجاد الدائرة "وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فيما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا، بوأه الله في الجنة مُبوَّأ صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا، صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار"
بهذا يُظهر لنا أهل البيت أن مشاعر الحزن والأسى التي يحملها المؤمنون تجاه مصائبهم ليست مجرد مشاعر عابرة، بل هي وسيلة للارتقاء الروحي، ومفتاح للرحمة الإلهية، وبشرى بالجنة، واستحضار لأصل الفطرة والطينة التي خُلق منها، وتجسيد لعلاقة وطيدة بين المؤمن وربه وأوليائه، وتعبير عن ولاء عميق وصدق المحبة لأهل البيت (عليهم السلام).
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ماجدة قرين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/28



كتابة تعليق لموضوع : بين طيات الحزن
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net