صفحة الكاتب : رياض سعد

الدعاية الانتخابية بين الفوضى والتبذير وعشوائية الرسالة وتناقض الصورة مع مضمونها: قراءة اجتماعية وسياسية في مشهد انتخابات العراق ٢٠٢٥
رياض سعد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قيل قديماً: "الكاتب يُعرف من كتابه، والعاقل يُعرف من منطقه، والهدية ونوعها تدلّ على مكانة مُهديها، كما يُعرف المرء من رسوله"، ولذا جاء المثل القائل: "الوكيل كالأصيل" لتأكيد السنخية والتشابه بين الاثنين ... ؛ و هذه القاعدة الاجتماعية البسيطة تكشف لنا سرّ ابتعاد الحكماء عن السفهاء، والمتقين عن الفاسقين، والأذكياء عن الحمقى والبلهاء ، فاختلاف الطباع يولّد التنافر والتباعد ، وعداوة العاقل خير من صداقة الأحمق ؛ لأن الأخير يضرّ من حيث يريد النفع وهو لا يشعر .

هذه البديهيات الاجتماعية تكاد تغيب عن ساسة العراق، قديماً وحديثاً، إذ يحيطون أنفسهم بالنطيحة والمتردّية وسقط المتاع من المتملقين والسطحيين، ويستبعدون أصحاب الكفاءات والمهارات والخبرات والشهادات.

ومن هنا لا نستغرب رداءة الحملات الانتخابية التي نشهدها اليوم مع اقتراب انتخابات البرلمان العراقي لعام ٢٠٢٥... ؛ نعم لم يعد مستغرباً أن نشاهد الحملات الانتخابية التي تُدار بعشوائية ورداءة لا تتناسب مع حجم الأموال المصروفة عليها ... ؛ فالقائم على الحملة غالباً ما يكون أجهل من المرشح نفسه، رغم أن المنطق يقتضي أن يكون مدير الحملة الانتخابية أكثر دراية وخبرة بفنون الدعاية والتأثير على الرأي العام من المرشح والسياسي والمسؤول ... ؛ و النتيجة أننا نشهد مشهداً انتخابياً مضطرباً يفتقر إلى أبسط قواعد الإعلان والإعلام والتواصل مع الجمهور، فتُهدر الأموال الطائلة دون أثر ملموس في كسب ثقة الناخبين أو تحريك مشاعرهم أو تغيير قناعاتهم .

وتتجلى هذه الفوضى في ممارسات دعائية تنفّر المواطن بدل أن تقرّبه ... ؛ فبدلاً من توظيف الإعلان لكسب ودّ الناخبين واستمالتهم، نجد ممارسات دعائية تؤدي إلى نتائج عكسية : فصور المرشحين كثيراً ما تُعلَّق قرب مكبّات النفايات أو أماكن التجاوزات العشوائية، ما يجعلها مقترنة في اللاوعي الجمعي بالبؤس والفوضى والفساد والفقر والخراب ... ؛ كما تُعلَّق ملصقات الأحزاب والشعارات وصور المرشحين والزعماء والقادة السياسيين على الجسور الجديدة والمرافق العامة، فتشوّه جمالية المكان وتثير شعوراً بالنفور لدى المواطن الذي يحب النظام والنظافة والانضباط ويرفض التشوهات البصرية... ؛ أو تُشوّه جمالية الحدائق الحديثة والمتنزهات ، فتزرع النفور بدلاً من الأمل... ؛ ويبلغ الأمر حدّ المبالغة في التكرار الممل، حيث تُعلَّق عشرات النسخ من نفس صورة المرشح أو شعاره على كل عمود كهربائي في الشارع الواحد، حتى يتحول المشهد إلى ضجيج بصري مزعج يدل على سوء الإدارة والتبذير وانعدام الرؤية الإعلانية... ؛ اذ كان الأجدر بمسؤولي الحملات توزيع هذه الصور على مناطق متفرقة لزيادة الانتشار والتأثير بدلاً من حشدها في مكان واحد يثير السخرية أكثر مما يثير الإعجاب... ؛ نعم إن بعض الشوارع تتحوّل إلى معارض صاخبة لصورة المرشح نفسه مكرّرة على عشرات الأعمدة المتجاورة والدور المتلاصقة ، ما يولّد شعوراً بالملل والرفض والاشمئزاز ... ؛ اذ قد تسير في شارعٍ فيه عشرون عمودًا كهربائيًا، فَتَجِدُ نفسَ صورة المرشح ونفسَ الشعار والدعاية الانتخابية مُعلَّقةً على جميع الأعمدة، علماً أنها في نفس الشارع والمكان، ولا فارقَ يُذكر بين عمودٍ وآخر! وهذا الشيءُ إنْ دَلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على التكرار الممل، وسوء الإدارة، والتبذير، وغياب الخطة الإعلامية والإعلانية الشاملة والناجحة. فبدلاً من تكريس عشرين صورة في مكانٍ واحد، كان بإمكان مسؤول الحملة توزيعها في عشرين موقعًا متفرقًا؛ فكلما اتسعت الرقعة الجغرافية للحملة، كَثُرَ تأثيرها ؛ كما ذكرنا ذلك مرارا .

إن هذه الممارسات ليست مجرد أخطاء دعائية، بل تكشف عن خلل أعمق في فهم السياسي العراقي لمزاج المجتمع وذوقه العام، وعن غياب أي استراتيجية جدية للتواصل مع الناخبين والمواطنين وتفهم نفسياتهم واحتياجاتهم ؛ فالدعاية الانتخابية الناجحة ليست زخماً صورياً فارغاً، بل خطاب متكامل يُبنى على دراسة دقيقة لعلم النفس الاجتماعي وسلوك الجمهور، ويستثمر في الذوق العام ويربط صورة المرشح بمعاني الأمل والنظافة والنظام لا بالفوضى والابتذال.

نعم إن الحملات الانتخابية الناجحة في العالم تراعي علم النفس الاجتماعي وتستثمر في الذوق العام والجمالية الحضرية ؛ فتربط صورة المرشح بمشاعر الأمل والنظام والنظافة، لا بالفوضى والوساخة والتشوهات البصرية... ؛ والمشهد العراقي الراهن يعكس أزمة أعمق من مجرد إعلان سيئ التصميم؛ إنه مرآة لفشل النخب السياسية في فهم المجتمع الذي تخاطبه، وافتقارها إلى استراتيجية حقيقية متكاملة لبناء الثقة فضلا عن الدولة .

نعم إن إشكالية الدعاية الانتخابية العراقية لا تنفصل عن إشكالية الحكم ذاته... ؛ فالنموذج الذي يقدّمه المرشحون، من خلال صورهم وشعاراتهم الموضوعة في أماكن عشوائية ومشوّهة للمنظر العام، هو نموذج مصغّر عن رؤيتهم للدولة وإدارتها: فوضى بدلاً من النظام، محسوبية بدلاً من الكفاءة، استعراض للقوة والنفوذ بدلاً من تقديم الخدمة، واستحواذ على الفضاء العام بدلاً من احترامه.

هذه الممارسات ليست جهلاً فحسب، بل هي في جوهرها تعبير عن ثقافة سياسية طائفية- زبائنية ، حيث العلاقة بين الناخب والمرشح ليست علاقة مواطنة تقوم على البرامج والمساءلة، بل علاقة زبائنية تقوم على المنفعة الآنية والولاء للهوية الفرعية (الطائفة أو العشيرة او المكون او المنطقة )... ؛ لذلك، لا تحتاج الحملة إلى إقناع الناخب ببرنامج وطني او دعاية تنموية عملاقة ، بل إلى تذكيره بانتمائه وتأكيد وجود المرشح وقوته ونفوذه كـ"مُقدِّم للخدمات" و"صاحب سلطة" قادر على فرض وجوده حتى على جدران وجسور المدينة...!!

والتبذير المالي الفاضح في هذه الحملات الفاشلة هو الآخر تعبير عن اقتصاد ريعي فاسد... ؛ فالأموال التي تُهدر في طباعة آلاف الصور التي لا تُقرأ ولا تُؤثّر، هي في الغالب أموال عامة أو مرتبطة بفساد المال السياسي... ؛ إنه استثمار في استمرارية الفساد، وليس في تطوير البلاد... ؛ إن المرشح الذي يشوّه منظر مدينة لترويج اسمه، هو نفسه الذي سيشوّه المال العام ومقدرات البلاد لو وصل هو وحاشيته إلى السلطة.

ومن الناحية السوسيولوجية، فإن هذا التشويه البصري الممنهج للفضاء العام يخلق لا وعيًا جمعيًا سلبيًا لدى المواطن... ؛ فتعليق الصور على النفايات أو التجاوزات يربط رمزيًا بين الطبقة السياسية وبين القبح والتخلف والفساد والخراب وانعدام النظام والانضباط ... ؛ مما يعزز الشعور باليأس والانفصال بين المجتمع والدولة ... ؛ كما أن التكرار الممل والمكاني الخاطئ للصور يولد مناعةً سلبية لدى الناخب، ويحول الدعاية إلى ضجيج بصرّي لا معنى له، مما يفقدها تأثيرها المطلوب أساسًا.

وعلى المستوى السياسي، فإن فشل هذه الحملات في تقديم رسالة واضحة أو برنامج حقيقي، والاكتفاء بالتركيز على صورة المرشح وشعارات الأحزاب والشعارات الطائفية والعنصرية والقومية والمناطقية والفئوية ... ؛ يؤكد أن العملية الانتخابية في العراق ما زالت تدور حول صراعات الهوية والانتماءات الطائفية والعشائرية والمناطقية والعرقية ، وليس حول البرامج والخدمات والحوكمة ودولة المواطنة ... ؛ فالدعاية هنا ليست وسيلة للإقناع، بل هي وسيلة لترسيخ الوجود والهيمنة على الفضاء العام، وإثبات النفوذ والقوة.

إن انتخابات ٢٠٢٥ تمثل فرصة مفصلية، ليس فقط لاختيار ممثلين جدد، بل لإعادة الاعتبار لقيمة التواصل السياسي المسؤول والمرشح ... ؛ فالإعلان الانتخابي ليس مجرد صورة وملصق وشعار ودعاية ، بل هو خطاب موجّه لعقل ووجدان المواطن، ووسيلة لإقناعه بأن المرشح يحمل مشروعاً جاداً للتغيير والتطوير ... ؛ ولعلّ البداية تكون بتصحيح هذه الفوضى الدعائية، واستبدال الاستعراض الفارغ برسائل صادقة مدروسة، تحترم ذوق الناس وتلبي حاجاتهم، وتربط اسم المرشح بمعاني الجمال والنظام لا بالابتذال والفوضى والتجاوز... ؛ بدلاً من هذا التكرار الفوضوي والتخبط الاعلاني والاعلامي الذي يبدّد الأموال ويزيد فجوة النفور بين الشارع والنخبة السياسية.

فكم من جسر جديد أو حديقة عامة شُوّهت جمالياتها بملصقات حزبية وصور دعائية تبعث على الضيق والاشمئزاز بدل الإلهام. الإنسان بطبيعته يحب النظام والنظافة والانضباط والجمال، وينفر من الفوضى والتلوث البصري، فكيف لحملة انتخابية أن تكسب أصوات الناس وهي تسيء إلى الذوق العام وتحتل فضاءهم المشترك بعشوائية ؟!

وبسبب هذه الفوضى، وهذا الجهل بأبسط قواعد الإعلام والدعاية، ودغدغة مشاعر الناس، والتأثير في المواطنين عبر التقرب إليهم بما يحبون والابتعاد عما ينفِّرهم... صِرنا نشاهد حملاتٍ انتخابيةً بائسةً وفاشلةً وغير مؤثرة، رغم ضخامة الأموال المصروفة عليها ... .

والمطلوب اليوم ليس المزيد من الصور والشعارات، بل استراتيجيات إعلامية ذكية تزرع الأمل بدلاً من الإحباط، وتربط صورة المرشح بمعاني التغيير والنظام والجمال، لا بالقبح والعشوائية.

الخلاصة: الحملات الانتخابية العراقية، بشكها الحالي، هي عرض لمرض النظام السياسي وليس مجرد خطأ تكتيكي... ؛ وعلاجها لا يكون بدورات تدريبية في الإعلام للمرشحين، بل بإصلاح جذري للعملية السياسية برمتها: بناء دولة مؤسسات تحترم الكفاءة، ومحاربة الفساد، وترسيخ ثقافة المواطنة التي يحاسَب فيها المرشح على برنامجه لا على انتمائه، واحترام الفضاء العام كملكية للشعب وليس ساحة للاستعراض والاستحواذ... ؛ فقط عندها ستتحول الدعاية الانتخابية من فعل تشويه إلى حوار متحضر حول برامج تخدم المستقبل .

فإن معالجة هذه الظاهرة السلبية تتطلب إصلاحًا جذريًا يشمل النظام السياسي بأكمله، وبناء ثقافة سياسية جديدة تقوم على الكفاءة والمسؤولية واحترام المواطن والفضاء العام... ؛ كما تحتاج إلى تطوير قوانين الانتخابات وتنظيم الدعاية الانتخابية، وحماية الممتلكات العامة من العبث، وفرض رقابة صارمة على تمويل الحملات الانتخابية لمحاربة الفساد والتبذير.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رياض سعد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/17



كتابة تعليق لموضوع : الدعاية الانتخابية بين الفوضى والتبذير وعشوائية الرسالة وتناقض الصورة مع مضمونها: قراءة اجتماعية وسياسية في مشهد انتخابات العراق ٢٠٢٥
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net