كان صوتاً غريباً بالنسبة لي، شعرت بخوف شديد مما قاله، على الرغم من سماعي لهذه الجملة مراراً وتكراراً ممن حولي، ونقدني بعضهم؛ لأني بلغتُ أربعًا وعشرين سنة من العمر، ولم أجرب يوماً الصلاة.
كنتُ مشغولاً بصخب الدنيا حتى نسيتُ من أنا، وكيف لي أن أجد نفسي، أنا الذي إذا سُئلتُ: ما هو هدفك في الحياة؟ لا أعرف بماذا أجيب...!
ما هو هدفي في الحياة؟! أصحو متأخراً وأذهب إلى عملي الذي أحاول فيه بكل مرة أن أتلاعب بآلية العمل لأعود مرة أخرى، وأذهب مع أصدقائي؛ لقضاء الوقت في اللعب والضحك وهذا كل شيء.
تماماً مثل أي شخص يقطع مسافات طويلة في الركض دون أن يعرف أين نقطة النهاية، ولماذا يعدو هذه المسافات، وكيف؟
وفي لحظات تغيّر كل شيء، أحسست بحزن شديد، وبدأت استيقظ قبل وقت الفجر بساعة، غريب أني لم ألحظ كل هذا الجمال! ولماذا أصحو في هذا الوقت بالتحديد؟
كنت أتحدث إلى السيد دون أترك له فرصة للتعليق، أريد أن يشعر بما في قلبي.
أشرت إلى صدري وبكيت، قلت له: إنّ في هذا أمرًا عظيمًا وحسرة لا أستطيع وصفها، أرجوك أن تدلّني إلى الطريق.
أمسك السيد بيدي ثم قال: سأمنحك نصف ساعة فقط عليك أن تجهز نفسك ونذهب إلى سامراء.
- نسافر؟
- إن شاء الله.
- لكن كيف أنا جئتك لتعلمني؟
وقبل أن أكمل جملتي قال: لا وقت لدينا، هناك ستتعلم، اذهب واغتسل، سأنتظرك هنا.
كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.
جلستُ جنب السيد، لكني لا أتذكر معالم الطريق، السيارة تتقدم بنا، والشوارع بدت كأنها من الماضي، ثم جاءني صوت رخيم، لا أدري إن كان صوت السيد أم لا، قائلاً:
«إنّ الوصولَ إلى الله (عزّ وجل) سفر لا يُدرك إلا بامتطاء الليل»، عندما قال ذلك، أحسست بأنه عانقني.
استيقظتُ من نومي، وأنا أشعر براحة عجيبة، كانت الرؤيا كأنها حقيقة، لقد عشتها بكل تفاصيلها وحفظتها عن ظهر قلب كأي طفل يحفظ ملامح وجه أمه. أدركت أني لا أعرف من ذلك السيد، لكنه منحني نصف ساعة لأجهز نفسي وأذهب إلى سامراء. وبالفعل تهيأت لذلك، وما هي إلّا نية صادقة وعزيمة، وحبّ يأخذني إلى مكان لم أزُره من قبل.
ينطوي الزمان والمكان كأنني في عالم من الخيال، وتمر كلّ أيامي مسافة الطريق وأشعر كم كنت غافلاً، ما الذي جعلني أدرك ذلك فجأة؟، وكيف وصلتُ سامراء؟، الساعة الآن الرابعة وصوت المؤذن يصدح في المكان، كل شيء تغير في قلبي كأنني ركضتُ العمر كله لأصل إلى هنا.
كان رجلاً شيبة وملامحه متعبة، يشبه تماماً السيد الذي رأيته في المنام، جلست بجنبهِ بعد أن سلمتُ عليه، كان يقرأ الزيارة عن ظهر قلب. التفتَ إليَّ بعدما انتهى وقال:
- لا تقلق يا بني، فباب التوبة مفتوح.
لا أدري لماذا سالت دموعي عندما قال ذلك، أمسك بيدي وهو يهدئني، وأحسست أنه يعرفني، ضغط على كفّي وأكمل:
عليك أن تعرف جيداً ما هي وظيفتك في هذه الدنيا، فأغلب الناس لا يعرفون وظيفتهم، يأكلون ويشربون ويعملون؛ لكي يتزوجوا لرغبات دنيوية، ثم ينجبوا أطفالاً والغلّ والحسد والكذب قائم في أنفسهم.
كان يتحدث وكفّاي بين راحتيه، فشعرتُ أن روحاً تأخذني إلى عوالم الجمال، وخشيتُ في نفسي أن يكون هذا حلماً.
اعتدل في جلسته واستأنف حديثه قائلاً: لقد تعلّق قلبي بالإمام الحسن العسكري، وعرفت أن لله أبواباً عليك أن تطرقها، فكنتُ أتأمل قوله (عليه السلام): «إنّ الوصول إلى الله - عزّ وجل - سفر، لا يدرك إلا بامتطاء الليل».
كان أبي (رحمه الله) يصطحبني معه إلى حوزة النجف الأشرف، وهناك تعلمت كثيرًا من العلوم الدينية، وكان يعيد على مسامعي هذا القول وهو يؤكّد لي أنّ صلتنا بالله (عز وجل) تحتاج منا أن نكون صادقين مع أنفسنا، وهذا الصدق يوجب العديد من الصفات التي ينبغي أن يكتسبها المرء، فلا تيأس إن وجدت نفسك متأخراً، اعلم بني أن التوفيق من الله سبحانه، فنحن وظيفتنا البحث عن الحقيقة حتى نصل إليها.
فالذي ليس له ليل، لا يكون له قيام الليل؛ نعم من الممكن أن يصل إلى بعض الدرجات، ولكن ذلك بمثابة الإنسان الراجل لا الراكب؛ فالراجل قد يصل، ولكن بعد جهد جهيد، ومشقة عالية، بخلاف الذي يركب الدابة، فيصل إلى مبتغاه في أسرع وقت وأيسر حال.
وهكذا بالنسبة للبحث عن الإمام المهدي المنتظر، أتذكّر إلى الآن كيف كانت تعابير وجه أبي حين سألته: ما الذي يجعلك تسافر إلى النجف في حين أنه قد تيسرت لك طرق العيش الرغيد؛ فأنت طبيب ومن عائلة ميسورة الحال، ولكم أملاك وعقارات كثيرة؟!
قال أبي: كنت أتمنى أن تسألني هذا السؤال، وبانت على ملامحه حسرة وحزن شديد وهو يكمل:
في أيّام شبابي، ذهبتُ إلى مدينة سامراء في نزهة أنا وأصدقائي، بقينا هناك ثلاثة أيام نلعب ونلهو حتى تعبنا ومللنا، وعند عودتنا تعطّلت السيارة في منتصف الطريق، كانت ظهيرة قائظة، والطريق خالٍ تماماً، انتظرنا لساعتين أو أكثر نحاول اصلاح العطل لكن دون جدوى، حتّى أخذني التعب فغفوت، وإذا بي أرى رجلاً شاباً عليه علامات الوقار والهيبة يقطع الطريق راجلاً، وقد بانت على وجهه تعابير العتاب.
فركضت نحوه لأستوقفه؛ كي يساعدنا، على الرغم من أنه كان يمضي بحركة اعتيادية لا تبدو سريعة، ولكني صرتُ ألهثُ من شدّة التعب، وحين وصلت التفتَ إليَّ وقال: نعم أعرف، لقد تعطّلت سيارتكم؛ لأن حادثاّ وقع، ولو لم تتعطل لذهبتهم جميعكم في ذلك الحادث.
استغربت مما قاله، فنظرتُ إلى ما كان يشير إليه وإذا بي أرى حريق مركبة، وحادثَ سير مروعًا، لحقته مرّة أخرى، وأنا أطلب منه أن يساعدنا، فقال اذهبوا إلى أبي.
فسألته: لكني لا أعرفك، كي أعرف أباك؟!
قال: لو بحثتم عني كما كنتم تبحثون عن ضالتكم لوجدتموني.
حينها استيقظت من نومي، وأنا أحفظ ما قاله حرفاً حرفاً؛ وعندما استفسرت قالوا بأنه صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن.
انطبع في ذهني كل ما رواه لي أبي، ومنذ ذلك الحين وأنا أشعر بمرارة في قلبي، فالذي أنتظره ليس شخصاً عادياً، بل هو إمام زماني وإمامك أيضاً، فنحن يا عزيزي لو فقدنا شيئا يخصّنا، أي شيء كان، سنبحث عنه حتّى نجده.
تنهّد السيد وترقرقت الدموع في عينيه مستأنفاً:
كثيراً ما نسمع عن الاشتياق، إنه مثل شعاع يمتدّ بك مسافات طويلة وربما تكون المسافات غير معلومة ولا تتخيل وجودها حتى، لكن ذلك الشعاع يمتدّ بك ليوصلك لروح ذاك الشخص، ذلك الكائن المهيمن بحبه لاشتياقك إليه، ولن يكون الاشتياق إلا بعد أن تفكَّ جيداً شفرات الغربة والبعد والوحدة، تفكّها بظروف قاسية لابد من مرورك بها، وإلا من يريد أن يرتوي كيف له معرفة الارتواء إذا لم يظمأ.
الظمأ لا العطش، فالعطش هي الحالة التي تشعر فيها بالعطش الشديد وأنت تأمل وجود الماء فتسعى لتصل إليه، أما الظمأ فهو ما بعد العطش، كأنّك تقطع ظهيرة قائظة في صحراء؛ علّك تجد فيها شربة ماء.
فلكل زمان ومكان فلسفة للانتظار عليك أن تفهمها وأن تجيد استخدامها، وكما أمرنا الله علينا أن ندخلَ البيوتَ من أبوابها، فهي وسيلة وغاية، وسيلة لجعل الإنسان مرتبطاً بمن ينتظره على الدوام، وغاية يكمل بها الطريق إلى الله تعالى، وهذه مهمة لا يتحملها إلّا من شدَّ الرحالَ، وتركَ ملذّاتِ الدنيا، وأدركَ أن الصلاة سَفرٌ طويل، فما بالك بالذي لا يفكّر بالسفر أساساً بحجة أن الوقت لا يزال مبكراً؟!
كلّنا نحتاج أن نطرق باب التوبة ونجددها يا بني، كلنا نحتاج أن ندخل البيوت من أبوابها، وهذا هو الإمام الحسن العسكري باب من أبواب الله وهو الممهد لغيبة ابنه المنتظر، وهو المؤسس الأول لدور المرجع، بهذه الغيبة لابد أن يكون لنا مرجع نرجع إليه في أمور ديننا، ونتصدى به لكل شبهة، ونفهم به الحجج.
ثم أمرني أن أحفظ هذا القول عن الإمام الحسن العسكري: «أورع الناس من وقف عند الشبهة، أعبد الناس من أقام الفرائض، أزهد الناس من ترك الحرام، أشدّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب».
كان يتحدّث ودموعي تنساب على خدّي، في حياتي كلها لم أسمع حديثاً أعذب من حديثه، ولم أشعر بالأمان كالأمان الذي كان معه.
قد مرَّ على هذه الحادثة عشر سنوات، وها أنا الآن أكتبها بعد أن رجعتُ من تشييع السيد الذي التقيتُ به، كان آخر ما قاله لي: «من الصعب جداً أن ترى الأمور على حقائقها، فلا تحسب نفسك أنك جئتَ متأخراً فعندما تخطو أول خطوة يعني ذلك أول الطريق».
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat