الوقاحة… الوجه العاري لانهيار القيم
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

الوقاحة ليست مجرد كلمة نابية تُقال في لحظة غضب، ولا هي فلتة لسان عابرة يمكن تجاوزها... ؛ إنها سلوك متكامل، انحراف في ميزان الأخلاق، وتجاوز على المعايير الاجتماعية التي تحفظ كرامة التفاعل الإنساني... ؛ هي فعل يخلع عن صاحبه ثوب الحياء، ويمنحه جرأة زائفة على اقتحام حدود الآخرين، متكئًا على صلافة الوجه وسلاطة اللسان.
في أبسط تعريفاتها، الوقاحة هي غياب الاحترام والكياسة في القول والفعل، بدءًا من الكلمات الجارحة والنكات المسيئة، مرورًا بالسخرية والتقليل من شأن الآخرين، وصولًا إلى السلوكيات العدوانية الصريحة كالتنمر أو التحرش أو اقتحام الخصوصية... ؛ وهي بهذا المعنى ليست مجرد خرق للأدب، بل إعلان حرب صغيرة على المنظومة الأخلاقية التي تحكم المجتمع.
**من الصراحة إلى الفظاظة
كثيرون يخلطون بين الصراحة والوقاحة... ؛ فالصراحة تعني قول الحقيقة مع مراعاة مشاعر الآخر، أما الوقاحة فتدوس على تلك المشاعر بلا اكتراث، متذرعةً بـ"الجرأة" أو "الصدق"... ؛ فالصراحة تبني الجسور، بينما الوقاحة تحرقها.
**الأسباب الكامنة وراء الوقاحة
لا تنبت الوقاحة في فراغ، بل تتغذى على جذور مريضة:
*تربية مشوهة لم تعلّم صاحبها احترام الآخرين أو قيمة الحياء.
*انعدام الثقة بالنفس، حيث يحاول الفرد إخفاء هشاشته الداخلية بالتصرف بفظاظة.
*الاستهتار الثقافي الناتج عن بيئة فقدت معايير الذوق العام.
*التقليد والتأثر بوسائل الإعلام التي تمجد الوقاحة باعتبارها "ذكاء اجتماعي" أو "شخصية قوية".
**حين تصير الوقاحة مشهدًا يوميًا في العراق
في شوارع بغداد وكذلك بقية المحافظات ، قد تكاد تنسى أنك تسير بين أناس، فتتخيل نفسك وسط ساحة مصارعة كلامية... ؛ البائع يرد على سؤال الزبون بسخرية لاذعة وكأنه يطرده، الموظف الحكومي يطلب منك "رشوة " دون أن يطرف له جفن، السائق يصرخ في وجهك لأنك تجرأت وسألته عن الأجرة، والمراهق في الحي يطلق الشتائم بصوت مرتفع كجزء من "الهيبة"... الخ .
على مواقع التواصل، يزداد المشهد قتامة: التعليقات تتحول إلى منصات سباب، النقاشات السياسية تتحول إلى تبادل إهانات شخصية، وأي محاولة لإبداء رأي مختلف تُقابل بسيول من السخرية والاستهزاء، كأن الوقاحة أصبحت لغة الحوار الرسمية.
في المجتمع العراقي اليوم، تكاد الوقاحة تتحول إلى ممارسة يومية كما اسلفنا ... ؛ فهي ليست مجرد حالات فردية او طارئة ... ؛ بل نمط سلوكي يتكاثر بسرعة كالفيروس، ينتقل من الشارع إلى البيت، ومن العمل إلى الفضاء الافتراضي... ؛ وبدل أن تكون مستهجنة، أصبحت في أحيان كثيرة وسيلة للظهور وفرض الذات، حتى لو على حساب الآخرين.
المؤسف أن هذه الظاهرة تنتشر في بيئة أنهكتها الأزمات، حيث القيم التقليدية تتراجع أمام نزعة الانفلات والفوضى الاجتماعية... ؛ في ظل ضعف القانون وتآكل المعايير، يصبح للوقاحة سوق رائج، ويصير الصفيق أكثر جرأة على ممارسة تبجحه بلا خوف من ردع أو محاسبة.
**الأثر النفسي والمعرفي
الأبحاث الحديثة تؤكد أن التعرض للفظاظة يضر بالقدرة على التفكير والتركيز... ؛ ففي دوائر الدولة، مجرد جملة وقحة من موظف نافذ تكفي لتعطيل عقل المواطن وإرهاقه نفسيًا... ؛ و في المدارس، كلمة مهينة من معلم أمام الصف تزرع في الطالب عقدة تستمر لسنوات... ؛ أما في البيوت، حين يتبادل أفراد العائلة الوقاحة بلا ضابط، تتحول العلاقات الأسرية إلى جبهات صراع دائم... ؛ نعم الشخص الذي يتعرض لوقاحة غير مبررة قد يفقد توازنه الانفعالي، فيغدو أسيرًا لفكرة الإهانة، غير قادر على رؤية بدائل أو إيجاد حلول لمشاكله الآنية. في بيئات العمل، تتسبب الوقاحة في تراجع الإنتاجية وخلق أجواء سامة تدفع الأكفاء إلى الاستقالة أو الانسحاب
**ملامح الشخصية الوقحة
الوقح في جوهره شخص هش، يتقن الهدوء المؤقت قبل أن يفاجئك بهجوم غير مبرر... ؛ يبالغ في إظهار نفسه قويًا، لكنه في العمق يعتمد على إذلال الآخرين ليشعر بالسيطرة... ؛ لغة جسده، نبرات صوته، اختيارات كلماته، كلها تحمل رسالة خفية: "أنا أولًا... والبقية بعد ذلك"... ؛ لكنه في أعماقه يدرك هشاشته، ولذلك يتشبث بالوقاحة كقناع يخفي خواءه الداخلي.
في العراق اليوم، ترى هذا النمط في مسؤول صغير يتعامل مع المراجعين وكأنه والي زمانه، وفي شاب يعتقد أن رفع صوته دليل رجولة، وفي إعلامي يحول برنامجه إلى مسرح شتائم من أجل المشاهدات... الخ .
**العلاج ومواجهة الظاهرة
*تعزيز ثقافة الكياسة عبر التربية والإعلام والنموذج القدوة.
*حصر التعامل مع الوقحين في أضيق الحدود، ورفض الانجرار إلى مستوى ردهم.
*إحياء ثقافة الاعتذار، التي تكاد تكون منقرضة في المشهد العراقي العام.
*إدارة الانفعال بعد التعرض للإساءة، بإعادة التركيز على الهدف وعدم جعل الوقاحة تحدد مسار الموقف.
**الخاتمة
الوقاحة ليست قوة، بل إفلاس أخلاقي وشخصي... ؛ المجتمع الذي يطبعها ويمررها بلا اعتراض يفتح الباب أمام انهيار أعمق في نسيجه القيمي ... ؛ و في العراق، حيث تآكلت منظومة القيم تحت ضغط الحروب والأزمات والحكومات الفاشلة المتعاقبة ، تصبح مواجهة هذه الظاهرة جزءًا من معركة أكبر لحماية ما تبقى من أخلاق التعايش... ؛ و الصمت أمام الوقاحة ليس حيادًا، بل إقرار بها، وكل من يبررها أو يطبعها يشارك في جعلها قاعدة سلوك بدل أن تظل استثناءً منبوذًا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat