في الناصرية... الفقراء ينتخبون الكباب
حسين باجي الغزي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حسين باجي الغزي

وسط زحمة المارة والسيارات، اندفع صوبي راكضًا وهو يلوّح ببطاقته الانتخابية. وبلهفة وحميمية احتضنني، وهزني بعنف، فيما الكلمات تتطاير من شفتيه الذابلتين البارزتين على وجهه الشاحب الممزوج بسُمرة الفاقة والعوز:
"أين؟ أين يشترون بطاقة الناخب؟! أين؟ أريد أن آكل كبابً"
كان هذا حسن عبد... أحد ضحايا حروب "أبو التيسين" التي دفع ثمنها سبعة عشر عامًا من الضياع تحت مسمّى الدفاع عن الوطن، بين الإلزامية والاحتياط. خرج منها خالي الوفاض، يرزح تحت أثقال العيش والعلل وجور النظام "الديمقراطي الجديد"، محاصرًا بنصف دستة من الصبيان العراة في (حي عدس) بأطراف الناصرية.
لقد صنعته هذه المظالم مشروع إنسان حانق، يائس، ناقم على أدوات العملية الديمقراطية وبراغيها، وبالأخص على مستحدثات مفوضية الانتخابات الرشيدة وقانون "سانت ليغو".
ومع اقتراب موعد الانتخابات، عادت أساليب الفساد تظهر من رشى،و استغلال ونفوذ،و توزيع بطانيات، أجهزة كهربائية، كارتات تعبئة، ووجبات دجاج مشوي وكباب وتكة، حتى أكياس الفواكة.
بعض المواقع الإعلامية أشارت إلى هذه الخروقات دون تحديد مكانها، باعتبارها لا تمثّل "مخالفة انتخابية" بل مجرد تواصل إنساني.
والأدهى أن سماسرة لجهات مجهولة ظهروا يشترون البطاقات الانتخابية بمئة دولار.
لقد تساءل كثيرون ــ ومنهم حسن عبد ــ عن أماكن البيع ومن يشتريها، معلنين استعدادهم لعقد الصفقة فورًا، وعدّوها فرصة لا تعوّض وسط اليأس والإحباط بعد سنوات الخيبات وخيانة الوعود.
ورغم فتاوى المراجع بتحريم بيع البطاقة الانتخابية، فإن الفقر أصمّ وأعمى. فالفقراء يناشدون المراجع ورجال الدين والشرفاء أن يجدوا لهم مأوى ورغيفًا بدلاً من فتاوى لا تُغني ولا تُسمن، فيما بيوت الصفيح تتكاثر، وأعداد المتسولين تتصاعد، والمنظومة الأخلاقية تنهار، وآلاف العوائل تبيت على الطوى، مستعدة للتنازل حتى عن حق اختيار المرشحين مقابل إشباع البطون وستر الأجساد.
اليوم، صارت البطاقة الانتخابية تُباع وتُشترى بأسعار تعادل أضعاف رواتب العاطلين ومعونات الرعاية الاجتماعية، فيما يصرّح كثيرون صراحة:
"نريد أن نأكل كبابًا ونعيش ليوم واحد كما يعيش السياسيون."
إن ما يتلقاه فقراء العراق اليوم ليس سوى تنويم مغناطيسي جماعي من بعض الزعماء، بوعود جوفاء ودعايات بائسة تستغل الحاجة، وتلعب على أوتار الطائفية والعشائرية.
خيارنا الوحيد الآن هو التوجّه إلى صندوق الانتخاب، بوصفه الضوء الأخير في نهاية النفق. وكلنا أمل أن يختار شعبنا بعقله وحلمه الأصلح والأفضل، بعيدًا عن دعوات المقاطعة والانسحاب.
نعم... نحن في عراق يُدار من أناس بعضهم مصاب بفوبيا الديمقراطية! والفجوة بين ما نتصوّره وما يحدث على أرض الواقع هي هاوية سحيقة. إن صناعة القناعات بالقضاء والقدر وقبول الواقع وانتظار الفرج ما هي إلا تسطيح وتسفيه للعقل العراقي، وتعطيل لقدراته على الفهم والإبداع وإيجاد الحلول.
ولعل السبيل الوحيد لإنقاذ العراق هو وقفة شعبية عبر صناديق الاقتراع، يقودها نخبة تقدّمية مثقفة ومنظمة، تؤمن بالعمل الجمعي والتكافلي. وحينها سيأكل فقراء الناصرية، وسنأكل جميعًا الكباب... وما ذلك على العراقيين النجباء بعسير
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat