صفحة الكاتب : جاسم محمدعلي المعموري

النجف الاشرف نافذة المبدعين على الغيب والروح والمعنى
جاسم محمدعلي المعموري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في عام 2019، زرت النجف الأشرف واقمت فيها، وكان المقام طويلًا امتدّ لما يقارب السنة، لكنها كانت سنة ليست ككل السنين، كأنها نافذة مفتوحة على زمن آخر، زمن لا يُقاس بالأيام، بل بما يُكشف فيه من نور، وما يتجلى فيه من صفاء. هناك، شعرت أنني أعيش في حضرة ما فوق الأرض، ما فوق الزمان، ما فوق شواغل الحياة. لم تكن زيارتي الى النجف مجرد إقامة في مدينة مقدسة، بل كان انغماسًا روحيا، دخولًا إلى صمت كثيف، صمت لم يكن خاليًا من الصوت، بل مليئًا بالحضور. كل لحظة هناك كانت تعني شيئًا، كل نَفَسٍ كان محاطا بمعنى، وكل يوم كنت أخرج فيه إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام أو من سواه من أولياء الله، كنت أعود وكأنني خرجت من ذاتي إلى ذاتي، متخففًا من ثقل الداخل، حاملا فكرة، أو مطلع قصيدة، أو نواة بحث، أو روح معنى جديد.

لا أُبالغ حين أقول إنني هناك كتبت أجمل ما كتبت، لا من حيث الكثرة وحدها، بل من حيث النقاء، العمق، الصفاء.. وكأن يدي كانت تُمسك بالقلم، لكن الفكرة لم تكن مني، بل من مكانٍ آخر، من مقامٍ أعلى. لا أعلم كيف كنت أكتب، لكنني أعلم أنني حين أعود من زيارة علي عليه السلام، أو أقف على أعتاب قبة الحسين، أو أمرّ بخشوعٍ أمام ضريح العباس، أو ابكي في ضريح مسلم بن عقيل عليهم السلام جميعا, كنت أشعر أن الكلمات تسبقني إلى الورقة، كأنني مجرد قناة تمرّ عبرها المعاني دون أن أدّعي ملكيتها. هناك في تلك البقاع، كنت لا أكتب نصًا، بل أفتح بابًا، وكان الباب لا يُفتح إلا في حضرة الطهر. كانت الكتابة أشبه بالوضوء، أشبه بالصلاة، أشبه بانسكاب النور على الورق. ولم ابالغ حين كتبت في (صفحة الكاتب) في الحوار المتمدن : "الكتابة عطاء فذ كريم حسن دون مقابل, وهي من اسمى وسائل الفكر, بل هي نتاجه الأعظم, واذا كان العمل عبادة, فالكتابة ارقى اشكاله". ومازلت أحتفظ بالعشرات من مسودات النصوص التي كتبتها هناك, ولم تُنشر بعد لحاجتها الى المراجعة, وهذا المقال منها, سأرسله للنشر بعد أن أهذبهُ وأصقله فإن أعجبني إجتبيتُهُ وأرسلته.

كنت أتساءل دومًا: ما سرّ هذا الصفاء؟ لماذا لا أشعر بمثله في أماكن أخرى؟ لماذا حين أخرج من هذه الزيارات، أخرج وكأنني التقيت بنفسي من جديد؟ ما الذي يجعل من النجف، وكربلاء، والكاظمية، وسامراء، بقاعًا تتكثف فيها الروح وتصفو الفكرة ويتطهر الحرف؟ ما الذي يجعل من زيارةٍ قصيرة سببًا لانبثاق نصٍّ طويل عميق، وكأن حضور هؤلاء الطاهرين من آل محمد صلوات الله عليهم لا يزال نافذًا، لا يزال حيًّا، لا يزال يمنح ويكشف ويُلهم؟ لم أجد جوابًا قاطعًا، لكنني كلما فكرت في الأمر، أدركت أن حضورهم ليس رمزيًا، بل وجودي، حيّ، فعّال. مراقدهم ليست مقامات حجرية، بل محطات كشف، محطات صفاء، يلتقي فيها الإنسان بحقيقته عبر وساطة النور.

حين كنت أكتب هناك، كنت أشعر أنني لا أمارس فعل الكتابة كما يُمارسه الكتّاب في حياتهم اليومية، ولا أدعي إنّني كاتب, بل كنت أتعبد، كنت أتنفس بالحرف، وأتهجد بالعبارة، وأخضع لفكرة لا أسيطر عليها، لكنها تقودني الى دهشة الإبداع ولذة الاكتشاف. لم يكن الأمر مرتبطًا فقط بإلهام أدبي، بل كان تجربةً روحية كاملة، حيث تختلط المعرفة بالخشوع، والفكر بالدموع، والعقل بالذوق، وكأن كل حواسي قد أعادت ترتيب أولوياتها، وصار النص هو الطريقة الوحيدة لأن أقول ما لم استطع قوله من قبل, وكان أجمل ما في هذه الكتابات أنها لا تشبهني تمامًا، بل تشبه مقامي هناك، تشبه القبة، والبوح، والصلاة، والانكسار الجميل أمام العظمة.

إنني حين أقارن ما كتبته في النجف وما كتبته في سواها، لا أحتاج إلى نقد أدبي كي أميز الفرق، فالنص هناك كان نابعًا من صفاء عميق، من حضور متكامل، من انسجامٍ بيني وبين المعنى، بينما النصوص الأخرى، في أمكنة أخرى، كثيرًا ما كانت تُكتب بعقلٍ مرهق، أو قلبٍ مزدحم، أو إحساسٍ مكسور. أما هناك، فكنت أشبه بورقةٍ بيضاء تتساقط عليها نُدف الضوء، فتتشكل فيها الجمل بلا جهد، وكأن الحبر نفسه كان يتطهّر قبل أن يمس الورق. هل كانت تلك الكتابات وحيًا؟ لا. لكنها كانت قريبة من الوحي، لأنها لم تكن مُفتعلة، ولم تكن استعراضًا لغويًا، بل كانت لحظة صدقٍ لا تتكرر.

هناك، كنت أعيش الكتابة لا أمارسها. كنت أتنفس نصوصي كما يتنفس الغيم نداء المطر. وفي كل زيارة، كنت أعود بشيءٍ جديد، حتى إنني بدأت أستعدّ للزيارة كما يستعدّ الفلاح لموسم الحصاد، أعلم أنني سأعود منها ممتلئا، محمّلا، منتشيا بفكرة أو معنى. ولذا، صارت الزيارة عندي طقسًا عقليا، لا روحيا فقط، ووجدت نفسي أُقدّس القرب منهم لا فقط طمعا في الثواب، بل شكرًا على هذا الفيض الفكري الذي كنت لا أملكه في نفسي. فهم، كما كنت أقول لنفسي، ملاذ العقل كما هم ملاذ الروح، ملاذ الحرف كما هم ملاذ القلب. وكان يكفيني أن أضع جبيني على عتبة ضريح، حتى تفتح لي أبواب لا تُفتح إلا بالقلب، لا تُفتح إلا لمن جاء خاليًا من الأنا.

اليوم، حين أنظر إلى ما كتبته هناك، أشعر أنني كنت في مدرسةٍ لا يُدرِّس فيها أحد، لكنك تتعلم من كل شيء, من السكون، من العيون الدامعة، من الزائرين، من الجدران، من نداء "يا علي" الذي يعلو من قلب امرأة عجوز أو شاب تائه. كلهم كانوا معلميّ. والمكان كان الدرس. والضريح كان الكتاب المفتوح الذي تقرؤه بلا ترجمة. هناك تعلمت أن المعنى أوسع من العبارة، وأن النصّ الحقيقي هو ذاك الذي يولد من دهشة الانكشاف، لا من براعة الصنعة, لهذا، أؤمن أن أجمل ما كتبته لم يكن منّي، بل كان فيّ، فأيقظه القرب من الأحبة, وأن المقام كان هو الكاتب الحقيقي، وأنا كنت مجرد وعاء ووسيلة.

لذلك، كلما ابتعدتُ عنهم، أشعر أن اللغة تبهت، وأن المعنى يذبل، وأن الصفاء يتراجع. لا لأنهم يبعدون، بل لأنني أبتعد. وما أكتبه اليوم في أمكنة أخرى قد يحمل ذات الأسلوب، لكنه لا يحمل ذات الروح. الروح بقيت هناك، معلّقة في فسيفساء القبة، في هواء الصحن، في ظلّ الزائرين. وكلما عدت، تعود الروح إليّ، تعود الكتابة كما أحبّها, لا جهدًا، بل تدفقًا. لا صناعة، بل كشفًا. لا مجرد كلمات، بل آثار أقدام الروح في طريق الرجوع إلى الله.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


جاسم محمدعلي المعموري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/03



كتابة تعليق لموضوع : النجف الاشرف نافذة المبدعين على الغيب والروح والمعنى
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net