صفحة الكاتب : علي سالم عزيز

حدود المشروعية في الدفاع عن النفس: الأسس الفقهية والتطبيقات القضائية
علي سالم عزيز

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

       يُعدّ الدفاع عن النفس من أبرز مسوّغات الإباحة في القانون الجنائي، وهو مبدأ راسخ أقرّته الشرائع السماوية والتشريعات الدنيوية، يقوم هذا المفهوم على غريزة البقاء، التي تُجيز للفرد استخدام القوة اللازمة لصدّ خطر داهم على الحياة أو الممتلكات، إلا أن هذا الحق ليس مطلقًا، بل هو مقيّد بقيود وضوابط تضمن عدم تحوّله إلى وسيلة للانتقام أو العدوان. وهذا يثير تساؤلات دقيقة حول حدود الشرعية، لا سيما في التطبيق القضائي.

      من منظور فقهي، يُعرّف الدفاع عن النفس بأنه استخدام القوة اللازمة لصدّ اعتداء غير مشروع على الحياة أو الممتلكات، وتتفق معظم القوانين الجنائية على توافر شروط معينة لجعل الفعل مباحًا ولا يُشكّل جريمة، وتشمل هذه الشروط عادةً وجود خطر داهم غير مشروع، وأن يكون الردّ على هذا التهديد ضروريًا ومتناسبًا، وعدم وجود أي وسيلة أخرى لتجنبه، وقد ناقش الفقه الجنائي هذه الشروط بالتفصيل، مركّزًا على مدى "وجود" الخطر (أي وشيك الوقوع)، و"ضرورة" الرد (أي عدم استخدام عنف أكثر مما يقتضيه الموقف)، في الفقه الإسلامي، يندرج الدفاع عن النفس ضمن "الضرورات التي تبيح المحظور"، وقد اتفقت المذاهب الفقهية على جوازه عند تعريض الشخص للموت أو الأذى، بل وُجب في بعض الحالات، كالدفاع عن النفس من القتل العمد.

       ومع ذلك، ورغم هذا الإجماع الفقهي، ينشأ تعارض عند تحديد مدى توافر شروط الدفاع في واقعة معينة. وهذا يجعل التطبيقات القضائية مجالًا خصبًا لاختلاف التقييمات، فكثيرًا ما تتداخل نية الدفاع مع دوافع أخرى، كالغضب أو الرغبة في الانتقام، مما يُصعّب على المحكمة التمييز بين العمل الدفاعي والعمل الجنائي، ولذلك، حرص القضاء على تحديد حدود هذا الحق بدقة، وتوضيح الحالات التي يخرج فيها المتهم عن نطاق الشرعية.

       وفي هذا السياق، تتجلى أهمية مبدأ التناسب بين العمل الدفاعي والخطر المحدق، فإذا تجاوز الشخص الحد اللازم لصدِّ اعتداء، فقد يتحول عمله من مشروع إلى غير مشروع، وقد يُساءل جنائيًا. فعلى سبيل المثال، لا يُعتبر إطلاق النار على لص هارب دون تهديد مباشر للحياة مشروعًا، وبالمثل، فإن الدفاع عن الممتلكات، وإن كان جائزًا، لا يُبرر استخدام وسائل مفرطة تُعرِّض المعتدي للموت إلا في حالة وجود تهديد جسدي مباشر، وقد أكدت محاكم النقض في العديد من الدول العربية، ومنها مصر ولبنان، أن تجاوز حدود الدفاع المشروع يُبطل الفعل ويُعرِّض الفاعل للمساءلة حسب درجة تجاوزه.

       من المسائل المثيرة للجدل في هذا السياق ما يُعرف بـ"الخطأ في التقدير"، عندما يعتقد الشخص أنه يواجه خطرًا داهمًا بينما لا يوجد في الواقع أي خطر، كما هو الحال في الدفاع ضد شخص يعتقد خطأً أنه على وشك مهاجمته، يثير هذا تساؤلًا حول مشروعية الفعل إذا كان الدافع قائمًا على اعتقاد خاطئ ولكنه معقول. وقد مالت بعض المحاكم إلى التساهل في هذا النوع من القضايا، معتبرةً أن معيار "الاعتقاد المعقول" يبرر الفعل، بينما التزمت محاكم أخرى بالمعيار الموضوعي الذي يشترط وقوع الخطر فعليًا.

       ولعل ما يزيد هذه المسائل صعوبة هو التغير الاجتماعي وتطور أساليب العنف، مما يجعل تقييم الخطر أكثر تعقيدًا، تقع بعض الحوادث في ظروف يستحيل فيها التحقق بدقة من نية المعتدي، مما يضع عبئًا ثقيلًا على القاضي في تقييم معقولية الرد الدفاعي، ومن هنا تأتي الحاجة إلى تطوير معايير قضائية وتدريب الكوادر القضائية على فهم طبيعة الخطر وملابسات الفعل.

      لا ينبغي إغفال البعد الإنساني في هذه الحالات، إذ إن من يُجبرون على الدفاع عن أنفسهم لا يكونون دائمًا في حالة من الهدوء تُمكّنهم من اتخاذ القرار الأمثل. لذلك، سعت بعض التشريعات إلى تخفيف المسؤولية أو الإعفاء منها في حالات الخوف الشديد، المعروف بـ"الدفاع العاطفي"، واعترفت به بعض الأنظمة القانونية كظرف مُخفف.

       وختامًا، يبقى الدفاع عن النفس حقًا مشروعًا، ولكنه مشروط بالضرورة والتناسب وعدم التعدي. ويظل دور القضاء حاسمًا في تحقيق التوازن بين حماية هذا الحق ومنع إساءة استخدامه. كما يُطلب من المشرعين باستمرار مراجعة صياغة النصوص ذات الصلة لمراعاة تطور الجرائم وتغير مفاهيم الخطر في العصر الحديث.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي سالم عزيز
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/03


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • العدالة في مواجهة الشائعات: الجرائم الناشئة عن معلومات كاذبة في الأزمات  (المقالات)

    • نظرية الظروف المشددة والمخففة: قراءة نقدية في ضوء السوابق القضائية .  (المقالات)

    • الركن المعنوي في الجرائم الإلكترونية: دراسة تحليلية مقارنة  (المقالات)

    • الإبلاغ الرقمي عن المخالفات: تأثير المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي على بدء الملاحقات الجنائية.  (المقالات)

    • التقصير كجريمة: المسؤولية الجنائية للامتناع عن تولي مناصب السلطة  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : حدود المشروعية في الدفاع عن النفس: الأسس الفقهية والتطبيقات القضائية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net