من بغداد الى الخليج.. هل يتكرر الدرس؟
مهدي عبدالله التميمي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

عبارة تتكرر حين تعيد الأحداث رسم ملامح التاريخ، وإنْ بوجوهٍ جديدة. ومِن أشدّ ما يثير التأمل في واقعنا المعاصر، تلك المفارقة التاريخية التي تتكرّر بأشكال مختلفة: من بغداد العباسية التي سقطت تحت أقدام المغول، إلى الخليج الذي تُوزّع ثرواته في صفقات تجاوزت تريليونات الدولارات، دون وضوح في الغاية أو العائد الفعلي.

في عام 2017، تسلّم دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة، وافتتح عهده بزيارة إلى الرياض أُبرمت خلالها اتفاقات بمئات المليارات من الدولارات، شملت صفقات تسليح واستثمارات وشراكات اقتصادية واسعة.

بولايته الثانية عاد ترمپ في آذار/مارس الماضي إلى الخليج، بزيارة شملت السعودية، قطر والامارات. أسفرت عن تعهدات استثمارية وصفقات جديدة قُدّرت بنحو 3.2 تريليون دولار. وبذلك تكون حصيلة الالتزامات الخليجية خلال عهده قد بلغت أرقامًا غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة.

تُطرح هنا تساؤلات مشروعة: لماذا تُدفع هذه الأموال؟ وأين تذهب؟ وهل تُحقق فعلاً حماية أو استقرارًا؟ وهل يمكن لاتفاق أمني أن يبرر هذا الحجم من الإنفاق؟

لعلّ الجواب يمكن أن يُستشف من درس قديم في تاريخ بغداد. ففي عام 1258م، حين اجتاح هولاكو المدينة، طلب من الحاكم العباسي "المستعصم" أن يدله على كنوزه. وبعد أن حصل عليها، قال له "لو كنتَ أعطيتَ هذا المال لجنودك، لكانوا حمَوك مني." عبارة مريرة، لكنها تحمل درسًا خالدًا: المال الذي لا يُوظّف لحماية الذات، يتحوّل إلى غنيمة للغير.

المستعصم احتفظ بكنوزه، فخسر نفسه وأمته.

الثروات يُفترض أن تُصرف، وفق رؤية استراتيجية شاملة تضمن الأمن المستدام، و تُستثمر بالقدر الكافي في التعليم، والتصنيع، والبحث العلمي، وبناء منظومات دفاعية وسيادية مستقلة.

اليوم ..كأنّ الخليج يعيد مشهد بغداد، وإن اختلفت الوجوه والأساليب، غير أن النتيجة واحدة: ثروات تذهب لقوة دولية، من بلدان لم تدخل حروبا او توترات سياسية تجيز ذلك.

إذ أنه رغم كل الاتفاقيات الدفاعية، ورغم الحماية الأميركية والدولية، ورغم التريليونات التي غنمها ترمب، لم يُمنع الصاروخ الإيراني من استهداف قاعدة " العديد" الأميركية في قطر. وهذا الحدث لا يمكن عزله عن سياق أوسع يُثبت أن الأمن الإقليمي بطبيعته "متداخل"، لا يمكن ضمانه عبر وكلاء خارجيين، بل يفرضه الواقع الجغرافي والسياسي وجملة عوامل محلية داخلية تتداخل اقليميا تحكمها قواسم الدين، الجوار، المشتركات التاريخية والجغرافية.. التي تؤكد ان الأمن لا يُشترى من خلف البحار، بل يُبنى عبر تفاهمات مع الجيران، وشبكات مصالح مشتركة، وآليات تعاون ناجزة

وبدات السعودية بشكل مميز السير في سبيل بناء علاقات متوازنة اقليميا ودوليا، مع إيران خاصة، بشكل اظهر انها لاعب اقليمي كبير، تتجاور مع إيران وهي بالمقابل قوة إقليمية كبيرة.

وانتهجت السعودية سياسة اتزان واعتدال بما يتعلق بالقضية الفلسطينية خاصة، بتقديم الاعتراف بدولة فلسطين وحقوق الشعب الفلسطبني على اي دعوة للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي

بيد أن كل ذلك يدحض عمليًا نظرية الأمن "المتخارج" المُراهن على القوى الكبرى، التي لا تقدم الحماية مجانًا، ولا تُغلب مصالح الغير على مصالحها الاستراتيجية.

إن التاريخ ليس مجرد سردٍ لحوادث ماضية، بل هو مرآة للمستقبل. فكما سقطت بغداد حين تخلّت عن قوتها الذاتية، فإن مصير أي دولة تعتمد على الخارج لضمان أمنها، لن يكون مختلفًا قطعا.

الموضوع السابق الرادود الحسيني والقرآن الكريم (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) (ح 2)

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat