كانت الشوارع تفوح بعطر القداسة، أجواء مفعمة بالمحبة والسلام، الناس تمر مسرعة تريد اللحاق بروح القداسة والمواكب الخدمية تستقبل الزائرين، وانعكست هذه المظاهر الانسانية على قلب ابنتي زينب، فأراها مبتهجة بهذا العالم الولائي المزدحم بالطيبة والكرم.
المواكب تستقبل الزائرين بأنواع الأطعمة المتنوعة، لكنها اصرت ان تقف في طابور طويل مع امها؛ لأن طعم الكباب المشوي قد ملأ الانوف.. صرت الى مكان يبعدني عن الزحام؛ لأستريح، لأستمتع بهذه المشاهد الضميرية التي تطيب الخاطر.
فوجئت بمجيء زينب بسرعة، وهي تخبرني فرحة بأن هذا الموكب، هو موكب جارنا ابي عذراء.. :- أي ابو عذراء تقصدين؟ :- عذراء صديقتي بابا.. وإذا بالحاج نايف عبد شيت، يعانقني بقوة يقبلني وهو يبكي ويسحبني الى داخل الموكب.
هناك الكثير من الاسئلة يريد الحاج نايف بها ان ينفس عن ضيق صدره، ويرفع عني تلك الفراديس الغائمة، وأنا ما زلت اعيش دهشتي، انظر لأبنتي زينب فرحة، وهي تعتزل بمودة وبمحبة، لابد ان نترك اولادنا بعيدا عن معترك الصراع، قلت: لاستمع لما يقوله الحاج، الموقف يختلف عن الجوهر المعلن، لقد كان طوال ازمة الموصل من اشد القساة على اتباع المذهب الشيعي، ومتحمسا لفكرة ابادة الشيعة.
غرقنا في الصمت لبرهة، لم اكن اتمنى يوما ان اعيش هذا الموقف لأكون انا كما كان هو، لكني من حقي ان اخشى منه وهو يزج نفسه في هذه الموكبية الولائية ويوزع واهله الطعام على الزائرين، ألا يمكن ان يدس لهم السم..!
يبدو ان الحاج نايف يدرك ما يدور برأسي، فقال: ارجوك ابو زينب لا تنظر بعقل رجل الامن، وانظر بعقل الحسيني الموالي لأهل البيت(عليهم السلام)..! قلت: كيف تريدني ان انظر الى الذي كان يحث الدواعش على قتلنا، ويقف شامتا بحالنا؟ كيف تريدني ان انظر لرجل كان يرحب بالدواعش، ويفتديهم بكل ما يملك حسب تعبيره، واليوم يقف بكل حماسه لإكرام زوار الحسين(عليه السلام).
قال الحاج نايف: سترى واحدا منهما حين تعرف الحقيقة، وتدرك معنى ان يعيش الانسان خساراته. قلت مع نفسي: لاستمع الى حكايته واعرف معنى هذا التغيير العجيب، لابد ان تكون له اسبابه، وخاصة انه من اغنى اغنياء الموصل، وهو منطلق تأثيري لأي تغيير.
قال: ما ان دخل الدواعش واستقر بهم الحال، بدأوا ينفتحون على الناس لطلب الانضمام الى معسكرهم، جمعوا الرجال والاموال ثم عادت المسألة تمس اعراضنا بدعوة قسرية للالتحاق بفسادهم الذي يطلقون عليه زورا بالجهاد..!
كان الليل الجهنمي يمر علي، وانا ابكي حيرتي، اجمع بناتي حولي، ولا حول ولا قوة لي، قالت لي عذراء: بابا صديقتي زينب تقول: ان الامام الحسين(عليه السلام) يعطي شارته باليد، ما ان نتوجه اليه شفعاء الى الله تعالى الا وتنجلي عنا المشاكل.
سالت دمعتي وانا انادي: يا حسين، يا شفيعي.. ادعو الله سبحانه تعالى ان ينجيني وعائلتي يا ابا عبد الله، ادعُ لي الله سيدي يا ابا الحسين احضرني الساعة، وابعد عني كل مكروه..
هدأ الليل وانا في فوران لايهدأ، فجأة طرقت الباب وإذا بسيارة، وسائق يناديني: اجمع العائلة لترحل، تجمعنا في السيارة وانطلقت بنا حتى وصلنا بر الامان، فاستقبلنا ابناء الحشد رغم صعوبة الموقف بكل احترام ومحبة وانسانية.
اتصلت حينها بأصدقائي، واغلبهم من تجار النجف، اخبرتهم بما حدث لي، وقررت شراء أرض خدمية تساعدني على اقامة موكب خدمي اخدم به زوار الحسين(عليه السلام).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat