صفحة الكاتب : حيدر عاشور

قربان النعمانية الى روح الشهيد (مثنى قاسم الكلابي)
حيدر عاشور

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

  كان الرصاص ينهمر مثل سيل مطري، وتتردد في الافق اصوات الانفجارات؛ لتحيل المكان الى مساحة ملغومة بكل ما هو غير متوقع...

اعتدل في جلسته، وتمكن من اخراج رأسه قليلاً خلف الجدار؛ ليرى جزءاً يسيراً من المشهد أمامه، فمنذ مدة من الزمن والرصاص يندلع بلا هوادة من مجموعة قناصين يتحصنون خلف بناية قديمة، تقع بالقرب من مصفى بيجي.
شعر مثنى بالحزن؛ لما يراه من تمكن هؤلاء الجرذان من قطع الطريق، وإيقاف زحف أبطال لواء (علي الاكبر)، وقد اقسم الجميع على اقتحام المصفى، وجميع البنايات التابعة له.. حوّل الغربان المعتوهون المكان الى حرائق تتصاعد ألسنتها الى عنان السماء، وقد ثقبوا برصاصهم الغادر خزانات النفط..!
فكر مثنى ملياً... النفط نعمة من نعم السماء، كان يمكن ان يتحول بعد استثماره الى خبز وأراجيح وسقوف تأوي المشردين، لكن الجرذان بارعون في اغتيال الأمل وقتل الحياة. 
جاءته صرخة من احد رفاقه:
- مثنى احذر ان تخرج رأسك.. فلقد كثر القناصون..
ابتسم في داخله، وأدرك أن قناصاً يربض خلف البناية العتيقة، هو من يقف في المقدمة ويعيق كل شيء.. قرر مع نفسه أن يركز كل حواسه، ويرقب كل تفاصيل وحركة المكان لكي يصطاده.. تذكر أباه قاسم، وهو يصطاد الجرذان في أحد بساتين النعمانية، لماذا لا يكون شجاعاً مثل أبيه..؟ كان رجلاً مقاتلاً في الحياة والزراعة، واقتناص الحيوانات وإثارة الرعب في نفوس اللصوص والغرباء..!
 شعر مثنى بأنه منقطع عن العالم تماماً، وليس أمام ناظريه سوى القناص الذي كان حذراً مثل اي جرذ، لكنه قرر في لحظة أن يجندله، وإلا لا معنى لبقائه في هذا المكان، نظر الى السماء وشفتاه تلهجان بالدعاء أن يكتب له النصر او الشهادة، وان يتمكن من ازاحة هذا الكائن المكتظ بالقبح، وبعدها سينطلق لواء (علي الاكبر) ليعانق المجاهدون مصفى بيجي، مثلما تندفع الجموع لمعانقة حضرة قربان الحرية الامام الحسين (عليه السلام).
وضع اصبعه على الزناد، وعيناه مثل عينيّ صقر يراقب فريسته.. امتلأ صدره بإحساس من المسرة والنشوة، وهو يستحضر صورة امه التي نذرته منذ طفولته للإمام القاسم(عليه السلام)، وانداحت ذكرياته في صباه، وهو يسهم في التشابيه التي كانت تتوشح بها مدينة النعمانية... أغبطه شوق غريب الى ان يقدم روحه قربانا؛ لكي يستمر الزحف مثلما فعل (القاسم) وهو يعانق الحتوف بين يدي عمه.
هؤلاء الجرذان بحاجة الى من يجتث عفونتهم.. كم تمنى ان تكون رصاصة واحدة تثقب كل رؤوسهم الخاوية، وضفائرهم المليئة بالقمل والعبث والخواء.
تعبت ساقه اليمنى، وتسلل فيها الخدر، حاول أن يحركها ليسري الدم فيها.. اجتاحته الفرحة الخفية وهو يرى القناص يخرج رأسه ويطلق سيلاً من رصاصاته، ركز انتباهه للحركة القادمة ودون ان يستوقفه اي شيء، ضغط بقوة على زناد (البي كي سي) وهاله المنظر الغريب، حين تجندل القناص وتحول الى جثة نتنة سمع خلفه صيحات: (الله أكبر... الحسين انتصر)، وشعر أن الجميع انطلق باتجاه المصفى كالزحف المهيب.
يا للهول.. كم كان هذا النتن مؤثراً، وقد سقط مثل جرذ خائب.. تذكر كلمة أبيه، وهو يصطاد الجرذان بأن الجرذ حيوان مؤذٍ.. لكنه حيوان غبي.
قبّل بندقيته وتمالكته رغبة الحاجة للهتاف، وقراءة السور القصيرة والصلاة على النبي وآله.. رصاصة ذكية واحدة فتحت الطريق اليك ايها المصفى.. ستنال حريتك وستطاردهم حرائقك الى حيث جحورهم.
تساءل مع نفسه: هل ستعرف امه وأبوه ما فعله ابنهم (مثنى قاسم الكلابي) وقد سحقت رصاصته رأساً مليئا بالأوهام..؟
تخيل المشهد، فهو يعرف امه حين تسمع الخبر، ستطلق الزغاريد وتوزع الحلوى على النساء والأطفال، وستحضر(صينية) القاسم، فابنها منذور له.. شعر انه اوفى بعهده، وحقق ما يتطلع اليه كل الاباء والأمهات الذين ينتظرون ابناءهم، وهم يصنعون الحرية، ويدسون الموت الزؤام بأرواح تفوح منها رائحة العفن.
قررَ العدْوَ مع رفاقه، لكنه شعر بخدر في كتفه الايسر، وبحرارة تسري في اوصاله.. هجس قبل ثوان ان اطلاقة انطلقت ويبدو انها اخترقت كتفه الأيسر، صرخ بأعلى صوته، فالجرح بدأ يتسع ويلتهم قواه.. اقترب منه أحمد (احد رفاقه في الجهاد).. وناداه:
- انهض يا مثنى.. فجرحك ينزف، سأنقلك الى موقع الاسعاف.
 هيمن الحزن على أحمد، وفي اعماقه شعر بأن (مثنى) بدأ يفيض بروحه، ويحلق باتجاه الأبدية، ليتحول الى قربان لمدينته النعمانية.. ولتعلو زغاريد الأم وحماستها، وهي تعانق ابنها البطل، شهيد الوجود (الكفائي) المقدس، فيكفي ان شفيعه (القاسم) قربان الحرية المعطرة بالشهادة.
قرر أحمد ان يرافق جثمان صديقه الى مدينته النعمانية، فشرف كبير ان تتحول القرابين الى كرنفال مشع من الايمان وتمجيد البطولة.
بكى أحمد طويلاً.. ولم يجد في جيب صديقه سوى صورة الأم البهية، ومبلغ سبعة آلاف دينار، وهاتف من النوع الرخيص.. انه اغلى قربان.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر عاشور
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/21



كتابة تعليق لموضوع : قربان النعمانية الى روح الشهيد (مثنى قاسم الكلابي)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net