نفائس العتبة العباسية المقدسة المصحف الشريف من القرن الخامس الهجري بالخط الكوفي المشرقي (القرمطي)
علي الصفار الكربلائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بحث وتحقيق 

 تضم دار المخطوطات في العتبة العباسية المقدسة أكثر من ألفي مخطوط في شتى العلوم ومن أهم هذه المخطوطات المصاحف الكريمة التي ينسب أحدها الى الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، وسنلقي الضوء في بحثنا هذا على أحد وأهم هذه المصاحف الشريفة، ألا وهو المصحف المكتوب بالخط الكوفي المشرقي من القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي وهو من نفائس المخطوطات ونوادرها في العالم.
 وما تملكه العتبة من هذا المصحف الكريم قرابة 20 صفحة قيمه بواقع أربعة أسطر للصفحة، عدا الأولى التي تضم سطرين، وتحتوي هذه الصفحات آيات من سورتي الحجر والنحل.. 
والخط الكوفي المشرقي: مشتق من الخط الكوفي الضارب في القدم بالنسبة للخطوط العربية القديمة...؟ ابتكار المشرقي الى الخطاطين العباسيين في حاضرة العلم والفن آنذاك بغداد في القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي وبسبب انشغال خطاطي بغداد بتطوير الأقلام اللينة والخطوط المنسوبة مثل الثلث والريحان والتوقيع وغيرها أهملت فيها الخطوط الكوفية...؟ استخدامها محصوراً في واجهات، وكتائب المساجد والمدارس والعمارات كفن زخرفي...؟ عنه إضافة لتزيينه بدايات القراطيس والكتب والجداول للخطوط الأخرى. 
 وهنا انطلقت الخطوط الكوفية في أماكن أخرى من الحواضر الإسلامية تجدد نفسها وتطور شكلها منسجمة مع اقلام البيئة التي تعيشها فظهر الكوفي المصري والسوداني والقرواني وهو اشهرها ونه الاندلسي هذا جهة المرب أما في المشرق فكان الكوفي المشرقي يشق...؟ قراطيس الزمن إبداعاً وفنا لا مثيل له.
 وقدمه الكوفي المشرقي بمراحل عديدة وسريعة لا يميز بينهما إلا ذوي الخبرة والإختصاص وأطلقت عليه عدة تسميات، وكان أكثر هذه الأنواع دقة وابهاها جمالاً يعترف بالقرمطي وهنا التبس على بعض الباحثين فنسبوا هذا الخط الى القرامطة، وقد رد عليهم آخرون مثل الأستاذ الكبير مصطفى اغوردرمان في كتابه فن الخط.. وبالرجوع الى مادة قرمط في كتب اللغة والاصطلاح نجد ان:  
القرمطة في اللغة: دقة الكتاب ومقاربة الخط  (كما في القاموس المحيط للفيروز ابادي).
القرمطة في الخط: مقاربة السطور (كما جاء في مختار الصحاح للرازي).
القرمطة: الدقة في الكتابة والتقريب بين الحروف (كما جاء الجهشياري - في الوزراء و الكتاب). 
 ومن هنا نعرف سبب اطلاق اسم القرمطي على الخط الكوفي المشرقي من خلال دراسته ومعرفت ميزاته، وأهمها دقة كتابته والتقريب بين حروفه انتشر هذا الخط بشكل كبير في عموم المشرق ولم يخص ايران فقط، ووهم البعض واطلق عليه اسماً محلياً وهو...؟ لشبه كبير بين الخطين علماً انهما انطلقا من أصل واحد وهو الكوفي ولكن خط...؟ يميل الى...؟ حروفه ولينها بينما يميل الكوفي المشرقي الى الاستقامة والزوايا.. 
 إذن الخط الكوفي المشرقي ابتكر في القرن الرابع الهجري في بغداد، وانطلق الى المشرق ليكون في القرنين الخامس والسادس في أوج انتشاره، وبدأ ينحسر في القرن السابع الهجري، لذا قلت نسخه، وتهافت عليها أصحاب الفن والذوق الرفيع، وما زالت تتنافس على أوراقه المتاحف العالمية وكل صفحة منه مما لا يقدر بثمن، فهنالك أوراق في متاحف ايران والكويت واسطنبول وجنيف وكذلك في العتبة العباسية المقدسة.
 ويمتاز هذا الخط: بالخفة والرشاقة والحيوية وسمة الانحراف في قوامه العامودية الطويلة ذات الشوكة الدقيقة المنحرفة الى اليمين في رأس الحرف، إضافة الى تراص مرات حروفه الأفقية وزيادة طول حروفه العمودية عدة مرات عن أطوال الأفقية منها، مما يضفي على الخط فخامة ومهابة وما يميزه أيضاً كتابة (ألف لام) بشكل مكوكي لافتاً للانتباه..
 ومن الميزات الأخرى ان هذا الخط بهذه الفخامة، أضاف اليه السواد القائم الجريء مهابة، ليرتسم على أرضية مزخرفة باهية ليعطي الخط بعداً فلسفياً، وكأنه يشير الى قوة كلمة القرآن وبروزها دون سواها. وزاد الخط رونقا استخدام اللون الأحمر للحركات التي كتبت على طريقة الخليل الفراهيدي، أما الورقة (الأرضية) فقد رسمت عليه زخارف نباتية مزهرة بنية اللون، وان شكل هذه العناصر الزخرفية يحدد لنا هوية المصحف، وأين كتب؛ لأنه شبيه بالزخارف الحلزونية الدقيقة التي كانت تستخدم كطراز حتى على الزخرف في كاشان وغيرها من مدن ايران، وعليه فان هذا المصحف كتب في المشرق وبالتحديد في ايران.
وقد حدد بعض الخبراء كتابة هذا المصحف بالقرن الرابع الهجري وأنا أرجح انه كتب في القرن الخامس الهجري؛ لأن هذا الخط انطلق في القرن الرابع والمصحف مدار البحث في غاية الدقة والفن والابداع، وهو تحفة فنية من جميع جهاته خطاً وتشكيلاً ورسوماً لأرضية كتاباته، اضافة الى جداوله المحلاة بالذهب المحيط بأطراف الكتاب وغيرها من الخصائص الفريدة التي لا مجال لذكرها في هذا المقام وكل هذا تحتاج الى نضوج وكمال لهذا الفن، وبلا شك هذا لا يكون في بداية الابتكار لهذا الخط ومن كل ما تقدم أقول: ان دار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة تمتلك أوراقاً من مصحف شريف كتب بالخط الكوفي المشرقي (القرمطي) نفيسة جداً اعتبرها كنزاً من كنوز الأئمة الإسلامية وإرثاً كبيراً يحكي مرحلة فن وابداع لا مثيل لها في العالم، علينا الاهتمام به والمحافظة عليه خدمة للقرآن الكريم ورعاية لتراث الدين القويم.

الموضوع السابق صناعة الفكر الإسلامي

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat