البطلُ التراجيدي الأنموذج في واقعة الطف الحلقة الأولى
د . حسين التكمه چي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . حسين التكمه چي

ثمة عدة مداخل للولوج إلى الرحبة الواسعة في محاضن علاقة الفرد بالطف الحسيني، ذلك للتأثيرات الوافرة التي أفرزتها معركة الطف الحسيني على الصعد الدينية والإجتماعية والتاريخية.. ولعلنا هنا سنتناول واحدة من أهم الركائز في هذا المجال، بالتحليل والتفسير والإستنتاج والإستنباط، بغية الوقوف على مكامن هذه العلاقة التي أسست على إفرازات معركة الطف بجل تنوعاتها الدرامية والمأساوية، وتحديداً المبدئية منها بالخصوص، ذلك أن هذا اللون من المآسي لم يرد ضمن محاضن الطقس الذي وفرته المثيولوجيا بكل تجلياتها بوصفها أساطير، ولا هي بالمشابهة للمآسي التي تمت بقدرة إلهية من كونها عقاباً، ولم تحققه الحكاية الملحمية لقصة شعب ما، بل أن مأساة الطف وفرت بكل تمفصلاتها انزياحاً عن المآسي الحقيقية وروداً نحو المأساة، بالخصوص ذات السمة المتجذرة في ذات المجتمع العربي عامة والمجتمع العالمي والمجتمع العراقي خاصة.
وقد ورثت شعوب العالم على مدى تطورها التاريخي كما يتضح ذلك فيما تطرحه الدراسات الأنثروبولوجية والتي تحاكي مآسي الشعوب على وفق دراسة تلك المآسي الإجتماعية والسياسية التي حاولت إدراك العلل والمسببات من خلال دراسة بنية المآسي الكبرى في التاريخ في محاولة لإستنباط الدروس والعبر، كما عمدت تلك الدراسات الأنثروبولوجية عن البحث عن جذور المأساة لإدراك القيم العليا والمتدنية في مخاصبها المتنوعة، وإمكانية تقييمها تاريخياً بالإنصاف الحقيقي دون اللبس المتعمد أو إخفاء حقيقة الأمر.
إلا أن المصادر التاريخية بجل تنوعاتها المعرفية في العالم الغربي لا تنصفنا في دراسة أكبر مآسي التاريخ كما هي مأساة الطف الحسيني، ولقد راح البعض يطلق تسمية (يوم الطفوف) بصيغة الجمع دون الإفراد لهول أمرها، حينما تفردت بتعددية عجيبة من المآسي الجانبية، تصب في الوضعية الجوهرية، بحيث توسع من أهوالها بوصفها مأساة كبرى.
من الباب الثاني فأن مأساة الطف لاتحقق بأي حال من الأحوال عدالة السماء في الأرض من قبل حكامها المتسلطين، حينما أصروا على تفتيت عدالة السماء بحجج وأعذار واهية، فضلاً عن أن هذا السعي الباطل أفرز تياراً آخر أعظم من حجم المأساة نفسها، فقد انقلب الباطل حقاً والحق باطلاً، وأقدم الحكام دون وازع من ضمير على أن مأساة كربلاء لا تقوم على صيغة الحق، إنما هو خروج على الخليفة وشؤون الدولة، وبالتالي فهم خوارج معارضون، ينبغي اقتلاعهم كما تقلع الأشجار من جذورها، وبهذه الصيغة صورت المأساة وأهوالها من كونها دخلت خانة التمرد والبحث عن كرسي الرئاسة والرغبة في تدمير ركائز الدولة الأموية، وقد وظف العدو كل وسائله لتحقيق هذا التوجه على المستوى الإعلامي، وتنصيب القيادات الجاهلة، وقيادات أخرى تم إغراؤها بالمال والثراء والمناصب، وأخرى بالوعود والعهود، فتم جمع شمل العدو على قاعدة تحقيق المنال في يوم واحد لحسم المعركة، على وفق تلكم الإغراءات.
ولعلنا لا نختلف من أن قوة العدو تفوق من حيث القوة والعدة والعدد رجال الطف الذين يعدون بالأصابع، فالأمر محسوم سلفاً، والأمور بكليتها تصب في مجرى كسب المعركة دون ريب أو شك، ولسنا هنا بعيدين عن إغفال أن عمال البلاد الواسعة الأطراف قد هيأوا بدورهم الإعلامي في الإرشاد والتوجيه والنصرة والنصيحة لدولة الظلمة التي ألهبت الكثيرين بالتسارع لنيل المكاسب من المال الحرام، أو محاولة اصطياد فرص الوجاهة والتقرب للحكام، مما أضاف جملة قوى خفية غير بائنة تعمل بالسر لصالح العدو، ناهيك عن استخدام أساليب القوة والبطش ضد من يقف بوجه التيار.
من هنا يتضح حجم العدو وكذلك حجم التخطيط المسبق للإيقاع بشهداء الطف، والبحث عن أبعاد المعارضين وتقريب المناصرين، وعلى وفق ذلك أطلق على تسميتها بالثورة الحسينية؛ فالمسافة من باب المقارنة بين المعسكرين باتت كبيرة وشاسعة، كما أن الموازنة بين المعسكرين هي الأخرى باتت تميل نحو العدو بكل المقاييس اللوجستية، فكل شيء محسوم سلفاً.
إن المتأمل المنطقي يفضي بنا إلى معرفة طبيعة الصراع غير المتكافئ على الفور، من جميع النواحي، إلا من حالة واحدة هي في نظر الباحث غاية الغايات في الأهمية، ألا وهي قوة المبادئ التي أخرجت الحسين بن علي (ع) من المدينة إلى أرض الطفوف.. وأي مبادئ تلك، إنها قيم الرجولة والإباء والبطولة والتضحية، إنها مبادئ السماء العليا، بل أنها قيم العدالة والإنسانية، إنها مفخرة السماء لثبات هيمنتها في الأرض، كما هي قيم الرسالة المحمدية وإثبات الدين والعقيدة. ولنا أن ندرك ذلك التباين بين المعسكرين، فالعدو يبحث عن ملذات الحياة والدنيا بكل لهوها ولعبها والتمسك المستميت بتلابيبها، ومعسكر الحسين (ع) يبحث عن ثبات الدين والسعي للآخرة، وشتان بين من يبحث عن متاع الدنيا والباحث عن مرضاة الله تعالى.
في الصوب الآخر، شكل مفهوم القيادة البطولية عبر التاريخ مجالاً رحباً للدراسة والتحليل، ذلك أن تلكم الخصائص القيادية لا يمكن توافرها في معظم الناس، إنما أعتبر ذلك ضمن سمات وأنماط خاصة من البشر تتحدد من خلالها الشخصيات البطولية الفذة عبر تاريخ العالم القديم والحديث، ولقد قدمت لنا الأساطير أبطالاً دراميين على مستوى البطولة (في الإلياذة والأوديسة والشاهنامة)، وكذلك قدمت لنا الملاحم أبطالاً شعبيين أمثال (كلكامش) وقدمت الملاحم الشعبية العربية أبطال السيرة (أمثال عنترة بن شداد، وأبي فراس الحمداني، وغيرهم الكثير)، كما قدمت لنا شعوب العالم الأخرى مساحة كبيرة احتلت مراكز الصدارة في التاريخ، ووضع ذلك تحت مسميات كثيرة تراوحت بين (البطل الثوري والبطل الأسطوري والبطل الخارق والبطل المعجزة والبطل التراثي والبطل الدرامي وأبطال الصيرورة)، ولعلهم متساوون في قضية واحدة هي الشجاعة والإقدام، لكنهم في كل الأحوال يقعون في أخطاء البطل بسبب ما إقترفه من أخطاء، كما أن أولئك الأبطال لا يحققون كامل أهدافهم إلا بصيغ ربما تكون خارقة للعقل أو المنطق أو التاريخ، وهي في حقيقة الأمر نادرة الحدوث البتة، إلا في أبطال الخيال العلمي الذي تفرض على المتلقي بصيغة خارقة.
وفي كل الأحوال فإن الانتصار في معركة على الخصم هو البطولة بعينها، كما وردت في مجريات أحداث التاريخ بوصفها أعرافاً متفقاً عليها، وهي مازالت حتى يومنا هذا معمول بها، كما في المباريات الرياضية، الأمر الذي دفع الفلاسفة والباحثين والدارسين الى تحديد سمات البطولة الى قسمين، الأول هم ما يعرف بـ(البطل النموذج)، والثاني هو البطل (الأنموذج).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat